الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وكل زيت ودهن لوز وجوز وبزور لا يجوز من الجنس الواحد إلا مثلا بمثل ، فإذا اختلف الجنسان فلا بأس به متفاضلا يدا بيد " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الأدهان على أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : ما كانت من أصول مأكولة وتكون بعد استخراجها دهنا مأكولة كالزيت والشيرج ، ودهن الجوز واللوز .

                                                                                                                                            قال الشافعي : ودهن البطم والصنوبر والخردل والحب الأخضر ، فهذه كلها وما شاكلها مأكولة بعد استخراجها ، ومأكولة الأصل قبل استخراجها ، ففيها الربا : لأنها إن كانت معتبرة بأصلها ، فأصلها مأكولة ، وإن كانت معتبرة بأنفسها فهي مأكولة ، فلم تخل في كلا الحالين من ثبوت الربا فيها .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما كانت من أصول غير مأكولة وتكون بعد استخراجها دهنا غير مأكولة كدهن المحلب والألبان والكافور ، فهذه وما شاكلها غير مأكولة الأصول والأدهان جميعا ، فلا ربا فيها اعتبارا بالحالتين معا .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : ما كانت من أصول مأكولة ، لكنها لا تكون بعد استخراجها دهنا مأكولة كدهن الورد والبنفسج والخيري والياسمين فهذه في أنفسها غير مأكولة في العرف ، وإنما تستعمل طلاء ، لكنها مستخرجة من أصل مأكول ، وهو السمسم ؛ ففي ثبوت الربا فيها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا ربا فيها اعتبارا بأنفسها .

                                                                                                                                            والثاني : فيها الربا اعتبارا بأصولها . وكذلك دهن السمك من أصل مأكول ، لكنه في نفسه غير مأكول .

                                                                                                                                            وأما دهن البزر والقرطم فقد اختلف أصحابنا في أصولها ، هل هي مأكولة يثبت فيها الربا على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا ربا فيها فعلى هذا لا ربا في أدهانها .

                                                                                                                                            والثاني : فيها الربا لأنها قد تؤكل .

                                                                                                                                            فعلى هذا في ثبوت الربا في أدهانها وجهان : لأنها من أصل مأكول ، وفرع غير مأكول .

                                                                                                                                            [ ص: 117 ] والقسم الرابع : ما كانت من أصول غير مأكولة ، لكن بعد استخراجها دهنا مأكولة .

                                                                                                                                            كدهن الخروع وحب القرع وما شاكلها ، ففي ثبوت الربا فيها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : فيها الربا اعتبارا بأنفسها .

                                                                                                                                            والثاني : لا ربا فيها اعتبارا بأصولها .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن الأدهان المأكولة فيها الربا على ما وصفنا ، فلا فصل بين المأكول أدما أو دواء أو غير ذلك من أنواع الأكل ، كما لا فصل في غير الأدهان من المأكول قوتا أو دواء . ثم الأدهان أجناس كأصولها ، وإن كان أبو علي بن أبي هريرة يخرجها على قولين كاللحمان ، والألبان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها جنس .

                                                                                                                                            والثاني : أنها أجناس .

                                                                                                                                            وذهب سائر أصحابنا إلى فساد هذا التخريج ، وأن الأدهان أجناس مختلفة كما أن أصولها أجناس مختلفة ، بخلاف اللحمان والألبان في أحد القولين . والفرق بينهما أن لأصول اللحمان والألبان اسما جامعا ، وهو الحيوان ، فجاز أن يكون جنسا واحدا ، وليس كذلك الأدهان : إذ ليس لأصولها اسم جامع فوجب أن تكون أجناسا .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أن الأدهان أجناس ، فالزيت جنس . قال الشافعي - رضي الله عنه - : وزيت الفجل جنس آخر : لأن الزيت المطلق مستخرج من الزيتون ، والزيتون جنس غير الفجل ، ثم الشيرج جنس آخر .

                                                                                                                                            فأما دهن الورد ودهن البنفسج إذا قيل فيهما الربا فهما جنس واحد ، وكذلك دهن الياسمين والخيري ، فهذا كله مع الشيرج جنس واحد لا يختلف فيه المذهب : لأن جميعها من السمسم وإنما يختلف لاختلاف الترتيب .

                                                                                                                                            فإذا كان الجنس واحدا حرم فيه التفاضل ، فإن كانا جنسين جاز فيهما التفاضل .

                                                                                                                                            فعلى هذا يجوز بيع الزيت بالشيرج متفاضلا ، ولا يجوز بيع الشيرج بالشيرج إلا متماثلا . وكان بعض أصحابنا يمنع من بيع الشيرج بالشيرج بكل حال : لأن فيه ماء وملحا لا يمكن استخراجه إلا بهما ، وهذا يمنع من التماثل .

                                                                                                                                            وهذا خطأ : لأن الماء والملح وإن كان لا يستخرج الشيرج إلا بهما ، فيختلفان في ثقل السمسم وهو الكسب : إذ لا يصح اختلاط الماء بالدهن ولا بقاء الماء بين أجزائه . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية