[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب البيوع
باب ما أمر الله به ونهى عنه من المبايعات وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه
( قال
الشافعي ) قال الله - جل وعز - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 129 ] فلما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيوع تراضى بها المتبايعان استدللنا أن الله - جل وعز - أحل البيوع إلا ما حرم الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، أو ما كان في معناه .
قال
الماوردي : الأصل في
nindex.php?page=treesubj&link=4419إحلال البيوع :
كتاب الله ، وسنة نبيه ، وإجماع الأمة .
فأما الكتاب : فقوله سبحانه وتعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] وقوله سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] وقوله سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [ البقرة : 282 ] قال
ابن عباس : نزلت في
nindex.php?page=treesubj&link=4951السلم . وقوله سبحانه
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .
قال
ابن عباس : نزلت في إباحة
nindex.php?page=treesubj&link=32984التجارة في مواسم الحج .
أما السنة : فقد رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا :
أما القول :
فما روى
الأعمش ، عن
أبي وائل ، عن
قيس بن أبي غرزة ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922930كنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسمى السماسرة ، فمر بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمانا باسم هو أحسن منه ، فقال : " يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف ، فشوبوه بالصدقة . [ ص: 4 ] وروي عن
عبد الله بن عصمة ، أن
حكيم بن حزام ، حدثه أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922931يا رسول الله إني أشتري بيوعا ، ما يحل لي منها ، وما يحرم ؟ قال : " إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه ، ولا تبع ما ليس عندك " . فدل على إباحة ما عدا ذلك .
وروى
ابن أبي كثير ، عن
أبي راشد ، عن
عبد الرحمن بن شبل ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إن التجار هم الفجار " . قيل : يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع ؟ قال : " بلى ولكنهم يحدثون فيكذبون ، ويحلفون فيأثمون " .
وروى
يحيى بن أبي كثير ، عن
أبي سلمة ، عن
أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" لا خير في التجارة إلا لمن لم يمدح بيعا ، ولم يذم شرى ، وكسب حلالا فأعطاه في حقه ، وعزل من ذلك الحلف " .
وروى
أبو عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" تسعة أعشار الرزق في التجارة ، والجزء الباقي في السبايا " ، قال
أبو عبيد : السبايا : النتاج .
وأما الفعل من بيوعه التي عقدها بنفسه فكثيرة لا تحصى عددا ، غير أن المنقول منها ما اختص بأحكام مستفادة ، فمن ذلك ، ما روى
أبو الزبير ، عن
جابر قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922934اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجل من الأعراب حمل خبط ، فلما وجب البيع ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختر " قال الأعرابي : عمرك الله بيعا .
وروى
سماك بن حرب nindex.php?page=hadith&LINKID=922935عن سويد بن قيس قال : جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر ، فأتينا به مكة ، فجاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشترى منا سراويل ، ووزان يزن بالأجر ، فقال للوزان : " زن وأرجح " . [ ص: 5 ] وروى
عطاء ، عن
جابر قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922936كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر على جمل ، إنما هو في آخر القوم ، فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " أمعك قضيب ؟ " قلت : نعم ، فأعطيته ، فنخسه وزجره ، فكان في أول القوم ، فقال : " بعنيه " قلت : هو لك يا رسول الله ، قال : " بل بعنيه " . قال : " قد أخذته بأربعة دنانير ، ولك ظهره حتى تأتي المدينة " ، فلما قدمنا المدينة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا بلال اقضه وزده " . فأعطاه أربعة دنانير وقيراطا زاده ، قال جابر : لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وروى
أبو بكر الحنفي ، عن
أنس بن مالك ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=922937أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع لرجل من الأنصار شكا فقرا قدحا وحلسا بدرهمين فيمن يزيد .
وأما إجماع الأمة : فظاهر فيهم من غير إنكار بجملته ، وإن اختلفوا في كيفيته وصفته ، حتى أن كبراء الصحابة ارتسموا به وندبوا نفوسهم له ، فروي أن
أبا بكر - رضي الله عنه - كان تاجرا في البز ، وروي عن
عمر - رضي الله عنه - أنه كان تاجرا في الطعام والأقط .
وروي عن
عثمان - رضي الله عنه - أنه كان تاجرا في البر والبحر . وروي عن
العباس - رضي الله عنه - أنه كان تاجرا في العطر .
وعلى ذلك جرت أحوال الصحابة قبل الهجرة وبعدها ، فمنهم من تفرد بجنس منها ، ومنهم من جلب في جميع صنوفها
كعثمان وعبد الرحمن - رضي الله عنهما - فدل مما ذكرنا أن البيع مباح .
فصل : في
nindex.php?page=treesubj&link=4419_28975تفسير قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء 29 ] أما قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29لا تأكلوا فمعناه : لا تأخذوا ، فعبر عن الأخذ بالأكل : لأنه معظم ما يقصد بالأخذ ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=10إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [ النساء : 10 ] أي : يأخذون .
وأما قوله : أموالكم ففيه تأويلان :
أحدهما : أنه أراد مال كل إنسان في نفسه أن لا يأخذه فيصرفه في المحظورات .
والثاني : أن معناه : لا يأخذ بعضكم مال بعض ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء 29 ] أي : لا يقتل بعضكم بعضا .
[ ص: 6 ] وأما قوله تعالى : بالباطل ففيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه أراد أن يصرف في المحظورات .
والثاني : أن المراد به أن لا يؤخذ بالانتهاب والغارات على عادتهم في الجاهلية .
والثالث : أن المراد بالباطل التجارات الفاسدة المألوفة عندهم في بيوع الجاهلية .
وأما قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282إلا أن تكون تجارة . فلفظ ( إلا ) موضوع في اللغة للاستثناء ، ولكن اختلف الناس وأصحابنا معهم في المراد به في هذا الموضع على أربعة أقوال :
أحدها : أن ( إلا ) في هذا الموضوع لم يرد بها الاستثناء ، وإنما معناها : لكن . فيصير تقدير الآية : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، ولكن كلوها تجارة عن تراض منكم ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=92وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ [ النساء 92 ] معناه : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ ، لكن إن قتله خطأ ، فتحرير رقبة مؤمنة . وبهذا قال
أبو إسحاق المروزي .
والثاني : أن معنى : إلا : في هذا الموضع معنى : الواو ، فيكون تقدير الآية : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، وكلوها تجارة عن تراض ، كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء 22 ] أي والله لفسدتا .
وقول الشاعر :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي والفرقدان أيضا سيفترقان ، ولو أراد الاستثناء لقال : إلا الفرقدين .
والثالث : أن معنى إلا ، في هذا الموضع معنى الاستثناء ، غير أنه من مضمر دل عليه مظهر ، ليصح أن يكون استثناء من جنسه ، فيكون تقدير الكلام : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا بالتجارة ، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، وهذا قول من منع الاستثناء من غير جنسه ، وجعلوا ذلك كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=1أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم [ المائدة : 1 ] وإنما معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا أن تكونوا محرمين ، فيحرم عليكم الصيد .
والرابع : أن ذلك استثناء من غير جنسه ، والدليل على جواز
nindex.php?page=treesubj&link=21187_21186الاستثناء من غير جنسه - وهو أشبه بمذهب
الشافعي - قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=62لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ مريم : 62 ] وليس السلام من جنس اللغو .
[ ص: 7 ] وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=30فسجد الملائكة كلهم أجمعون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34إلا إبليس [ الحجر : 34 ] وليس إبليس من الملائكة .
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=77فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [ الشعراء : 77 ] وتعالى الله أن يكون من جنس من استثنى منه .
وقال الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
والأنيس : الناس ، واليعافير : حمير الوحش ، وقيل : الظباء واحدها يعفور مقلوب أعفر .
والعيس : الإبل . واستثنى الحمير والإبل من جملة الناس .
وقال
النابغة الذبياني :
وقفت فيها أصيلالا أسائلها عيت جوابا ولا بالربع من أحد
إلا أواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فذكر أنه لم يبق بالربع أحد من الناس يسأله إلا الأواري ، والعامة تقول : الأواري : هي المعالف .
وقال
العتبي : هي الحبال الممدودة يشد عليها الدواب ، وهو جمع واحده أورى .
فصل : في
nindex.php?page=treesubj&link=28973_4419تفسير قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] وذكر
الشافعي معاني الآية مستوفاة جميعها في كتاب الأم بكلام وجيز ، فقال : احتمل إحلال الله تعالى البيع في هذه الآية معنيين :
أحدهما : أن يكون أحل كل بيع تبايعه متبايعان جائزا الأمر فيما يتبايعانه عن تراض منهما ، وهذا أظهر معانيه .
الثاني : أن يكون أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله معنى ما أراد . فيكون هذا من الجمل التي أحكم فرضها في كتابه ، وبين كيف هي على لسان نبيه ، أو من العام الذي أريد به الخاص ، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أراد بإحلاله منه وما حرم ، أو يكون داخلا منهما ، أو من العام الذي أباحه إلا ما حرم على لسان نبيه منه وما في معناه - ثم
[ ص: 8 ] قال : وأي هذه المعاني كان ، فقد ألزم الله خلقه بما فرض من طاعة رسوله ، وأن ما قيل عنه فعن الله قيل ، لأنه بكتاب الله قيل ، فهذا قول
الشافعي في معنى الآية .
وجملته : أن
للشافعي في معنى الآية أربعة أقاويل :
أحدها : أنها عامة ، وأن لفظها لفظ عموم يتناول إباحة كل بيع إلا ما خصه الدليل .
ووجه ذلك هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن بياعات كانوا يستعملونها ، ولم يقصد إلى بيان الجائز منها ، وإنما قصد إلى بيان فاسدها منه ، فدل بذلك على أن الآية قد شملت إباحة البياعات كلها ، فاستثنى ما لا يجوز منها .
فعلى هذا هل هي عموم أريد به العموم ؟ أو عموم أريد به الخصوص ؟ على قولين :
أحدهما : أنها عموم أريد به العموم ، وإن دخله دليل التخصيص .
والثاني : أنها عموم أريد به الخصوص .
والفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : هو أن العموم المطلق الذي يجري على عمومه وإن دخله التخصيص ، ما يكون المراد باللفظ أكثر ، وما ليس بمراد باللفظ أقل ، والعموم الذي أريد به الخصوص ما يكون المراد باللفظ أقل وما ليس بمراد باللفظ أكثر .
والفرق الثاني : أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدم على اللفظ ، وفيما أريد به العموم تتأخر عن اللفظ أو مقترن به .
وعلى كلا القولين يجوز الاستدلال بها على إباحة البيوع المختلف فيها ، ما لم يقم دليل التخصيص على إخراجها من عمومها .
فصل : القول الثاني : أنها مجملة لا يعقل منها صحة بيع من فساده إلا ببيان من السنة ، ووجه ذلك : هو أن من البياعات ما يجوز ، ومنها ما لا يجوز ، وليس في الآية ما يتميز به الجائز من غير الجائز ، فاقتضى أن يكون من المجمل الذي لا نعقل المراد من ظاهره إلا ببيان يقترن به .
فعلى هذا اختلف أصحابنا . هل هي مجملة بنفسها : لتعارض فيها أو هي مجملة بغيرها ؟ على وجهين :
أحدهما : مجملة بنفسها لتعارض فيها .
وذلك أن قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وأحل الله البيع يقتضي جواز البيع متفاضلا ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وحرم الربا يقتضي تحريم البيع متفاضلا ، فصار آخرها معارضا لأولها ، فوقع الإجمال فيها بنفسها .
[ ص: 9 ] والوجه الثاني : أنها مجملة بغيرها ، وذلك أنها تقتضي جواز كل بيع من غرر ، ومعدوم ، وغيره . وقد وردت السنة بالمنع من
nindex.php?page=treesubj&link=4803بيع الغرر ،
nindex.php?page=treesubj&link=24028والملامسة ،
nindex.php?page=treesubj&link=24029والمنابذة ، وغير ذلك ، فصارت السنة معارضة لها ، فوقع الإجمال فيها بغيرها . فإذا ثبت أنها مجملة بنفسها على أحد الوجهين ، أو بغيرها على الوجه الثاني ، فقد اختلف أصحابنا :
هل وقع الإجمال في صيغة لفظها وفي المعنى المراد بها ؟
أو وقع الإجمال في المعنى المراد بها دون صيغة لفظها ؟
على وجهين :
أحدهما : أن الإجمال في المعنى دون اللفظ : لأن لفظ البيع ، اسم لغوي لم يرد من طريق الشرع ، ومعناه معقول ، إلا أنه لما قام بإزائه ما يعارضه تدافع العمومان ، ولم يتعين المراد منهما إلا بالسنة ، صارا مجملين لهذا المعنى ، لأن اللفظ مشكل المعنى .
والوجه الثاني : أن اللفظ مجمل ، والمعنى المراد به مشكل : لأنه لما لم يكن المراد باللفظ ما وقع عليه الاسم ، وصار مضمنا بشرائط لم تكن معقولة في اللغة ، خرج اللفظ بالشرائط عن موضوعه في اللغة إلى ما استقرت عليه شرائط الشرع ، وإن كان له في اللغة معان معقولة ، كما قلنا في الصلاة : إنها مجملة : لأنها مضمنة بشرائط لم تكن معقولة في اللغة ، وإن كان فيها معان معقولة في اللغة كالخضوع ، وما يقع فيها من الدعاء ، فكذلك لفظ البيع .
وعلى كلا الوجهين لا يجوز الاستدلال بها على صحة بيع من فساده ، وإن دلت على إباحة البيع في أصله .
وهذا فرق ما بين العموم والمجمل ، حيث جاز الاستدلال بظاهرة العموم ، ولم يجز الاستدلال بظاهر المجمل . والله أعلم .
فصل : والقول الثالث : أنه داخل فيهما جميعا ، فيكون اللفظ عموما دخله الخصوص ، ومجملا لحقه التفسير ، لقيام الدلالة عليهما .
فاختلف أصحابنا في وجه دخول ذلك فيهما على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن العموم في اللفظ والإجمال في المعنى .
فيكون اللفظ عموما دخله الخصوص ، والمعنى مجملا لحقه التفسير .
والوجه الثاني : أن العموم في أول الآية ، وهو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وأحل الله البيع والإجمال في آخرها ، وهو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وحرم الربا فيكون أول الآية عاما دخله التخصيص ، وآخرها مجملا لحقه التفسير .
[ ص: 10 ] والوجه الثالث : أن اللفظ كان مجملا ، فلما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - صار عاما .
فيكون داخلا في المجمل قبل البيان ، وفي العموم بعد البيان .
فعلى هذا الوجه يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها كالقول الأول .
وعلى الوجهين الأولين ، لا يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها كالقول الثاني .
فصل : والقول الرابع : أنها تناولت بيعا معهودا ، ونزلت بعد أن أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوعا وحرم بيوعا ، وكان قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وأحل الله البيع يعني : الذي بينه الرسول من قبل ، وعرفه المسلمون منه ، فترتب الكتاب على السنة ، وتناولت الآية بيعا معهودا .
وإنما كان كذلك : لأن الله تعالى قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وأحل الله البيع فأدخل فيه الألف واللام ، وذلك يدخل في الكلام لأحد أمرين :
إما لجنس ، أو معهود .
فلما لم يكن الجنس مرادا : لخروج بعضه منه ، ثبت أن المعهود مراد .
فعلى هذا ، لا يجوز الاستدلال بظاهرها على صحة بيع ولا فساده ، بل يرجع في حكم ما اختلف فيه إلى الاستدلال بما تقدمها من السنة التي عرف بها البيوع الصحيحة من الفاسدة .
وإذا كان كذلك صار الفرق بينه وبين المجمل من وجه واحد . وبينه وبين العموم من وجهين .
فأما الوجه الذي يقع به الفرق بينه وبين المجمل :
فهو أن بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نهى عنه من البيوع وأمر به سابق للآية .
وبيان المجمل مقترن باللفظ ، أو متأخر عنه على مذهب من يجوز تأخير البيان ، فافترقا من هذا الوجه .
أما الوجهان اللذان يقع بهما الفرق بينه وبين العموم :
فأحدهما : ما مضى من تقديم البيان في المعهود ، واقتران بيان التخصيص بالعموم .
والثاني : جواز الاستدلال بظاهر العموم فيما اختلف فيه من البيوع ، وفساد الاستدلال بظاهر المعهود فيما اختلف فيه من البيوع .
[ ص: 3 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ الْبُيُوعِ
بَابُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ وَسُنَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ
( قَالَ
الشَّافِعِيُّ ) قَالَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَزَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 129 ] فَلَمَّا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بُيُوعٍ تَرَاضَى بِهَا الْمُتَبَايِعَانِ اسْتَدْلَلْنَا أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَزَّ - أَحَلَّ الْبُيُوعَ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=4419إِحْلَالِ الْبُيُوعِ :
كِتَابُ اللَّهِ ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
فَأَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : 29 ] وَقولُهُ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : 275 ] وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=4951السَّلَمِ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 198 ] .
قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ فِي إِبَاحَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=32984التِّجَارَةِ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
أَمَّا السُّنَّةُ : فَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَفِعْلًا :
أَمَّا الْقَوْلُ :
فَمَا رَوَى
الْأَعْمَشُ ، عَنْ
أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ
قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ ، قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922930كُنَّا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ ، فَمَرَّ بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ ، فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ ، فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ . [ ص: 4 ] وَرُوِيَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ ، أَنَّ
حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922931يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا ، مَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا ، وَمَا يَحْرُمُ ؟ قَالَ : " إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ ، وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ " . فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ .
وَرَوَى
ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ
أَبِي رَاشِدٍ ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
" إِنَّ التُّجَّارَ هُمُ الْفُجَّارُ " . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ؟ قَالَ : " بَلَى وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ ، وَيَحْلِفُونَ فَيَأْثَمُونَ " .
وَرَوَى
يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
" لَا خَيْرَ فِي التِّجَارَةِ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَمْدَحْ بَيْعًا ، وَلَمْ يَذُمَّ شِرًى ، وَكَسَبَ حَلَالًا فَأَعْطَاهُ فِي حَقِّهِ ، وَعَزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْحَلِفَ " .
وَرَوَى
أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
" تِسْعَةُ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ ، وَالْجُزْءُ الْبَاقِي فِي السَّبَايَا " ، قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ : السَّبَايَا : النِّتَاجُ .
وَأَمَّا الْفِعْلُ مِنْ بُيُوعِهِ الَّتِي عَقَدَهَا بِنَفْسِهِ فَكَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى عَدَدًا ، غَيْرَ أنَّ الْمَنْقُولَ مِنْهَا مَا اخْتُصَّ بِأَحْكَامٍ مُسْتَفَادَةٍ ، فَمِنْ ذَلِكَ ، مَا رَوَى
أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ
جَابِرٍ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922934اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ حِمْلَ خَبَطٍ ، فَلَمَّا وَجَبَ الْبَيْعُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " اخْتَرْ " قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : عَمْرَكَ اللَّهَ بَيِّعًا .
وَرَوَى
سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=922935عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ ، فَأَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ ، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشْتَرَى مِنَّا سَرَاوِيلَ ، وَوَزَّانٌ يَزِنُ بِالْأَجْرِ ، فَقَالَ لِلْوَزَّانِ : " زِنْ وَأَرْجِحْ " . [ ص: 5 ] وَرَوَى
عَطَاءٌ ، عَنْ
جَابِرٍ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922936كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ عَلَى جَمَلٍ ، إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ الْقَوْمِ ، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : " أَمَعَكَ قَضِيبٌ ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ ، فَأَعْطَيْتُهُ ، فَنَخَسَهُ وَزَجَرَهُ ، فَكَانَ فِي أَوَّلِ الْقَوْمِ ، فَقَالَ : " بِعْنِيهِ " قُلْتُ : هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " بَلْ بِعْنِيهِ " . قَالَ : " قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ ، وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَى تَأْتِيَ الْمَدِينَةَ " ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَا بِلَالُ اقْضِهِ وَزِدْهُ " . فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَقِيرَاطًا زَادَهُ ، قَالَ جَابِرٌ : لَا تُفَارِقُنِي زِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَرَوَى
أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=922937أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ لِرَجِلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ شَكَا فَقْرًا قَدَحًا وَحِلْسًا بِدِرْهَمَيْنِ فِيمَنْ يَزِيدُ .
وَأَمَّا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ : فَظَاهِرٌ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ بِجُمْلَتِهِ ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ ، حَتَّى أَنَّ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ ارْتَسَمُوا بِهِ وَنَدَبُوا نُفُوسَهُمْ لَهُ ، فَرُوِيَ أَنَّ
أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ تَاجِرًا فِي الْبَزِّ ، وَرُوِيَ عَنْ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا فِي الطَّعَامِ وَالْأَقِطِ .
وَرُوِيَ عَنْ
عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ . وَرُوِيَ عَنِ
الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا فِي الْعِطْرِ .
وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَفَرَّدَ بِجِنْسٍ مِنْهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَلَبَ فِي جَمِيعِ صُنُوفِهَا
كَعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَدَلَّ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيْعَ مُبَاحٌ .
فَصْلٌ : فِي
nindex.php?page=treesubj&link=4419_28975تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ 29 ] أَمَّا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29لَا تَأْكُلُوا فَمَعْنَاهُ : لَا تَأْخُذُوا ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَخْذِ بِالْأَكْلِ : لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=10إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ النِّسَاءِ : 10 ] أَيْ : يَأْخُذُونَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَمْوَالَكُمْ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ مَالَ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي الْمَحْظُورَاتِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ : لَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النِّسَاءِ 29 ] أَيْ : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .
[ ص: 6 ] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : بِالْبَاطِلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتِ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصْرِفَ فِي الْمَحْظُورَاتِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُؤْخَذُ بِالِانْتِهَابِ وَالْغَارَاتِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِلِ التِّجَارَاتُ الْفَاسِدَةُ الْمَأْلُوفَةُ عِنْدَهُمْ فِي بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً . فَلَفَظُ ( إِلَّا ) مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَأَصْحَابُنَا مَعَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ ( إِلَّا ) فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لَمْ يُرَدْ بِهَا الِاسْتِثْنَاءُ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا : لَكِنْ . فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ، وَلَكِنْ كُلُوهَا تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=92وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [ النِّسَاءِ 92 ] مَعْنَاهُ : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا عَمْدًا وَلَا خَطَأً ، لَكِنْ إِنْ قَتَلَهُ خَطَأً ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ . وَبِهَذَا قَالَ
أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى : إِلَّا : فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى : الْوَاوِ ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ، وَكُلُوهَا تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ الْأَنْبِيَاءِ 22 ] أَيْ وَاللَّهُ لَفَسَدَتَا .
وَقَوْلُ الشَّاعِرِ :
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ
أَيْ وَالْفَرْقَدَانِ أَيْضًا سَيَفْتَرِقَانِ ، وَلَوْ أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ لَقَالَ : إِلَّا الْفَرْقَدَيْنِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى إِلَّا ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مِنْ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مُظْهَرٌ ، لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ جِنْسِهِ ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَلَا بِالتِّجَارَةِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=1أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [ الْمَائِدَةِ : 1 ] وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا مُحْرِمِينَ ، فَيَحْرُمُ عَلَيْكُمُ الصَّيْدُ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=21187_21186الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ - وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ - قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=62لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [ مَرْيَمَ : 62 ] وَلَيْسَ السَّلَامُ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ .
[ ص: 7 ] وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=30فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34إِلَّا إِبْلِيسَ [ الْحِجْرِ : 34 ] وَلَيْسَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ .
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=77فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 77 ] وَتَعَالَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْهُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ :
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
وَالْأَنِيسُ : النَّاسُ ، وَالْيَعَافِيرُ : حَمِيرُ الْوَحْشِ ، وَقِيلَ : الظِّبَاءُ وَاحِدُهَا يَعْفُورٌ مَقْلُوبُ أَعْفَرَ .
وَالْعِيسُ : الْإِبِلُ . وَاسْتَثْنَى الْحَمِيرَ وَالْإِبِلَ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ .
وَقَالَ
النَّابِغَةُ الذِّبْيَانِيُّ :
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا وَلَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إِلَّا أَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلِدِ
فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِالرَّبْعِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَسْأَلُهُ إِلَّا الْأَوَارِيَّ ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ : الْأَوَارِيُّ : هِيَ الْمَعَالِفُ .
وَقَالَ
الْعُتْبِيُّ : هِيَ الْحِبَالُ الْمَمْدُودَةُ يُشَدُّ عَلَيْهَا الدَّوَابُّ ، وَهُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ أَوْرَى .
فَصْلٌ : فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28973_4419تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [ الْبَقَرَةِ : 275 ] وَذَكَرَ
الشَّافِعِيُّ مَعَانِيَ الْآيَةِ مُسْتَوْفَاةً جَمِيعَهَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ بِكَلَامٍ وَجِيزٍ ، فَقَالَ : احْتَمَلَ إِحْلَالُ اللَّهِ تَعَالَى الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَحَلَّ كُلَّ بَيْعٍ تَبَايَعَهُ مُتَبَايِعَانِ جَائِزًا الْأَمْرَ فِيمَا يَتَبَايَعَانِهُ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا ، وَهَذَا أَظْهَرُ مَعَانِيهِ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَحَلَّ الْبَيْعَ إِذَا كَانَ مِمَّا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ . فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي أَحْكَمَ فَرْضَهَا فِي كِتَابِهِ ، وَبَيَّنَ كَيْفَ هِيَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ، أَوْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَرَادَ بِإِحْلَالِهِ مِنْهُ وَمَا حَرَّمَ ، أَوْ يَكُونُ دَاخِلًا مِنْهُمَا ، أَوْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أَبَاحَهُ إِلَّا مَا حُرِّمَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ - ثُمَّ
[ ص: 8 ] قَالَ : وَأَيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ ، فَقَدْ أَلْزَمَ اللَّهُ خَلْقَهُ بِمَا فَرَضَ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ ، وَأَنَّ مَا قِيلَ عَنْهُ فَعَنِ اللَّهِ قِيلَ ، لِأَنَّهُ بِكِتَابِ اللَّهِ قِيلَ ، فَهَذَا قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ .
وَجُمْلَتُهُ : أَنَّ
لِلشَّافِعِيِّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ :
أَحَدُهَا : أَنَّهَا عَامَّةٌ ، وَأَنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ عُمُومٍ يَتَنَاوَلُ إِبَاحَةَ كُلِّ بَيْعٍ إِلَّا مَا خصَّهُ الدَّلِيلُ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَهَى عَنْ بِيَاعَاتٍ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَى بَيَانِ الْجَائِزِ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إِلَى بَيَانِ فَاسِدِهَا مِنْهُ ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ شَمِلَتْ إِبَاحَةَ الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا ، فَاسْتَثْنَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْهَا .
فَعَلَى هَذَا هَلْ هِيَ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ ؟ أَوْ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ ، وَإِنْ دَخَلَهُ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : هُوَ أَنَّ الْعُمُومَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ وَإِنْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ ، مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَكْثَرُ ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَقَلُّ ، وَالْعُمُومُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَكْثَرُ .
وَالْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيَانَ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى اللَّفْظِ ، وَفِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ تَتَأخَّرُ عَنِ اللَّفْظِ أَوْ مُقْتَرِنٌ بِهِ .
وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى إِبَاحَةِ الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنْ عُمُومِهَا .
فَصْلٌ : الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ لَا يُعْقَلُ مِنْهَا صِحَّةُ بَيْعٍ مِنْ فَسَادِهِ إِلَّا بِبَيَانٍ مِنَ السُّنَّةِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ : هُوَ أَنَّ مِنَ الْبِيَاعَاتِ مَا يَجُوزُ ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْجَائِزُ مِنْ غَيْرِ الْجَائِزِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا نَعْقِلُ الْمُرَادَ مِنْ ظَاهِرِهِ إِلَّا بِبَيَانٍ يَقْتَرِنُ بِهِ .
فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا . هَلْ هِيَ مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا : لِتَعَارُضٍ فِيهَا أَوْ هِيَ مُجْمَلَةٌ بِغَيْرِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا لِتَعَارُضٍ فِيهَا .
وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ مُتَفَاضِلًا ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَحَرَّمَ الرِّبَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْبَيْعِ مُتَفَاضِلًا ، فَصَارَ آخِرُهَا مُعَارِضًا لِأَوَّلِهَا ، فَوَقَعَ الْإِجْمَالُ فِيهَا بِنَفْسِهَا .
[ ص: 9 ] وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ بِغَيْرِهَا ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَازَ كُلِّ بَيْعٍ مِنْ غَرَرٍ ، وَمَعْدُومٍ ، وَغَيْرِهِ . وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالْمَنْعِ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=4803بَيْعِ الْغَرَرِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24028وَالْمُلَامَسَةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24029وَالْمُنَابَذَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَصَارَتِ السُّنَّةُ مُعَارِضَةً لَهَا ، فَوَقَعَ الْإِجْمَالُ فِيهَا بِغَيْرِهَا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، أَوْ بِغَيْرِهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا :
هَلْ وَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي صِيغَةِ لَفْظِهَا وَفِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهَا ؟
أَوْ وَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهَا دُونَ صِيغَةِ لَفْظِهَا ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِجْمَالَ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ : لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ ، اسْمٌ لُغَوِيٌّ لَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ ، وَمَعْنَاهُ مَعْقُولٌ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَامَ بِإِزَائِهِ مَا يُعَارِضُهُ تَدَافَعَ الْعُمُومَانِ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا إِلَّا بِالسُّنَّةِ ، صَارَا مُجْمَلَيْنِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْكِلُ الْمَعْنَى .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّفْظَ مُجْمَلٌ ، وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ مُشْكِلٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَصَارَ مُضَمَّنًا بِشَرَائِطَ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً فِي اللُّغَةِ ، خَرَجَ اللَّفْظُ بِالشَّرَائِطِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ شَرَائِطُ الشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مَعْقُولَةٌ ، كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ : إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ : لِأَنَّهَا مُضَمَّنَةٌ بِشَرَائِطَ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةٌ فِي اللُّغَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعَانٍ مَعْقُولَةٌ فِي اللُّغَةِ كَالْخُضُوعِ ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الدُّعَاءِ ، فَكَذَلِكَ لَفَظُ الْبَيْعِ .
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعٍ مِنْ فَسَادِهِ ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى إِبَاحَةِ الْبَيْعِ فِي أَصْلِهِ .
وَهَذَا فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ ، حَيْثُ جَازَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرَةِ الْعُمُومِ ، وَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْمُجْمَلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عُمُومًا دَخَلَهُ الْخُصُوصُ ، وَمُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ ، لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا .
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِ دُخُولِ ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْعُمُومَ فِي اللَّفْظِ وَالْإِجْمَالُ فِي الْمَعْنَى .
فَيَكُونُ اللَّفْظُ عُمُومًا دَخَلَهُ الْخُصُوصُ ، وَالْمَعْنَى مُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعُمُومَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَالْإِجْمَالُ فِي آخِرِهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَحَرَّمَ الرِّبَا فَيَكُونُ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ ، وَآخِرُهَا مُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ .
[ ص: 10 ] وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّفْظَ كَانَ مُجْمَلًا ، فَلَمَّا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ عَامًّا .
فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ ، وَفِي الْعُمُومِ بَعْدَ الْبَيَانِ .
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا فِي الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا فِي الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَالْقَوْلِ الثَّانِي .
فَصْلٌ : وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهَا تَنَاوَلَتْ بَيْعًا مَعْهُودًا ، وَنَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أَحَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُيُوعًا وَحَرَّمَ بُيُوعًا ، وَكَانَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَعْنِي : الَّذِي بَيَّنَهُ الرَّسُولُ مِنْ قَبْلُ ، وَعَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ ، فَتَرَتَّبَ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ ، وَتَنَاوَلَتِ الْآيَةُ بَيْعًا مَعْهُودًا .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ فَأَدْخَلَ فِيهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ :
إِمَّا لِجِنْسٍ ، أَوْ مَعْهُودٍ .
فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجِنْسُ مُرَادًا : لِخُرُوجِ بَعْضِهِ مِنْهُ ، ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْهُودَ مُرَادٌ .
فَعَلَى هَذَا ، لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعٍ وَلَا فَسَادِهِ ، بَلْ يَرْجِعُ فِي حُكْمِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا تَقَدَّمَهَا مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا الْبُيُوعُ الصَّحِيحَةُ مِنَ الْفَاسِدَةِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجْمَلِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ . وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومِ مِنْ وَجْهَيْنِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجْمَلِ :
فَهُوَ أَنَّ بَيَانَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الْبُيُوعِ وَأَمَرَ بِهِ سَابِقٌ لِلْآيَةِ .
وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ مُقْتَرِنٌ بِاللَّفْظِ ، أَوْ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
أَمَّا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَقَعُ بِهِمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومِ :
فَأَحَدُهُمَا : مَا مَضَى مِنْ تَقْدِيمِ الْبَيَانِ فِي الْمَعْهُودِ ، وَاقْتِرَانِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ بِالْعُمُومِ .
وَالثَّانِي : جَوَازُ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْعُمُومِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْبُيُوعِ ، وَفَسَادُ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْمَعْهُودِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْبُيُوعِ .