[ ص: 287 ] باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل من الثمن
مسألة : قال
الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا بأس بأن يبيع الرجل السلعة إلى أجل ويشتريها من المشتري بأقل بنقد وعرض وإلى أجل . قال بعض الناس : إن امرأة أتت
عائشة فسألتها عن بيع باعته من
زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء ، ثم اشترته منه بأقل . فقالت
عائشة : بئسما اشتريت وبئسما ابتعت ، أخبري
زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . ( قال
الشافعي ) وهو مجمل ولو كان هذا ثابتا فقد تكون
عائشة عابت البيع إلى العطاء : لأنه أجل معلوم ،
وزيد صحابي ، وإذا اختلفوا فمذهبنا القياس ، وهو مع
زيد ونحن لا نثبت مثل هذا على
عائشة ، وإذا كانت هذه السلعة لي كسائر مالي لم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري ؟ " .
قال
الماوردي : وهذا كما قال . إذا
nindex.php?page=treesubj&link=4450باع الرجل سلعة بثمن حال أو مؤجل فافترقا على الرضا به جاز أن يبتاعها من المشتري قبل قبض الثمن وبعده بمثل ذلك الثمن وبأكثر منه أو أقل ، من جنسه أو غير جنسه ، حالا ومؤجلا ، وبه قال من الصحابة
ابن عمر ،
وزيد بن أرقم ، وجل التابعين وجمهور الفقهاء .
وقال
مالك : لا يجوز أن يشتريه بأقل من ذلك الثمن نقدا ويجوز أن يشتريه بمثله أو بأكثر منه نقدا ونسيئا .
وقال
أبو حنيفة : إن كان الثمنان من جنس واحد يدخله الربا كالنقدين لم يجز أن يبتاعه ثانية إلا بمثل الثمن الأول من غير زيادة ولا نقص ، وإن كان الثمن ما لا ربا فيه كالعروض جاز أن يبتاعه ثانية بأكثر من الثمن الأول وأقل ، وإن كان الثمنان من جنسين فيهما الربا كالذهب والورق جاز التفاضل بين الثمنين قياسا ولم يجز استحسانا .
واستدلوا برواية
ابن أبي إسحاق السبيعي عن أمه
عالية بنت أيفع قالت : خرجت أنا
وأم حبة إلى الحج فدخلنا على
عائشة رضي الله عنها فسلمنا عليها فقالت : من أين ؟ قلنا من
الكوفة . كأنها أعرضت فقالت لها
أم حبة : يا أم المؤمنين ، كانت لي جارية وبعتها
زيد بن أرقم بثمان مائة درهم إلى العطاء ، فأراد بيعها فاشتريتها منه بست مائة درهم نقدا . فقالت
عائشة رضي الله عنها : بئس ما شريت وبئس ما ابتعت ، أخبري
زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع
[ ص: 288 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب ، فقالت : أرأيت لو أخذت رأس مالي . قالت : فتلت
عائشة رضي الله عنها قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف [ البقرة : 275 ] .
قالوا فلما أبطلت
عائشة رضوان الله عليها البيع وجهاد
زيد لم يجز أن يكون عن اجتهاد منها بل عن نص وتوقيف لأمرين :
أحدهما : أن القياس لا يقتضيه .
والثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=7918إبطال الجهاد بالاجتهاد لا يجوز فثبت أن قول
عائشة رضي الله عنها محمول على سماعها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قالوا وقد روي عن
ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عمن باع حريرة بمائة درهم ، ثم اشتراها بخمسين درهما ، فقال : دراهم بدراهم متفاضلة وحريرة دخلت بينهما . قالوا : ولأن ذلك ذريعة إلى الربا ومؤديا إليه ،
nindex.php?page=treesubj&link=5366وما كان مؤديا إلى الربا كان ممنوعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923106من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " . وقال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923107لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " . يعني بقوله جملوها أي أذابوها فلعنهم : لأنهم فعلوا ما أداهم إلى الحرام . ولأن البائع في ابتياعه الثاني قد استفضل زيادة ليس في مقابلتها عوض فوجب أن يمنع منه لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن .
والدلالة على ما ذهبنا إليه من جواز البيع عموم قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] ولأن كل سلعة جاز بيعها من غير بائعها بثمن جاز بيعها من بائعها بذلك الثمن كالعرض . ولأن كل سلعة جاز بيعها من شخص بعرض جاز بيعها منه بقيمة ذلك العرض كالأجنبي . ولأنه بيع لا يحرم التفاضل في عوضه فوجب أن لا يكون الرجوع في تقدير ثمنه إلى عاقد كالبيع الأول . ولأن لكل واحد من العقدين حكم نفسه بدليل أن كل واحد منهما يصح مع التراضي ويبطل مع الإكراه ويفتقر إلى البدل والقبول ، وإذا انفرد كل واحد منهما بحكم نفسه لم يجز اعتبار أحدهما بالآخر ولا بناء أحدهما على الآخر .
وأما الجواب عن استدلالهم بحديث
عائشة رضي الله عنها فمن وجوه :
أحدها : ضعف إسناده ووهاء طريقه .
قال
الشافعي : قلت لمن احتج بهذا الحديث : أتعرف هذه المرأة . فقال : لا . فقلت : كيف يصح لك الاحتجاج بحديث من لا تعرفه على أن
أبا حنيفة لا يقبل من أحاديث النساء إلا ما روته
عائشة nindex.php?page=showalam&ids=54وأم سلمة .
والجواب الثاني : أن
عائشة رضي الله عنها إنما أبطلت البيع إلى العطاء : لأنه أجل مجهول
nindex.php?page=treesubj&link=4650والآجال المجهولة يبطل بها البيع .
[ ص: 289 ] فإن قالوا : إنما أنكرت البيع الثاني : لأنها قالت بئس ما اشتريت وبئس ما ابتعت تكريرا لإنكار البيع الثاني . قيل : هذا غلط : لأنها قالت : بئس ما شريت بمعنى بعت قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=20وشروه بثمن بخس [ يوسف : 20 ] أي باعوه وقال الشاعر :
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامة
والجواب الثالث : أنه لو سلم أن إنكار
عائشة رضي الله عنها توجه إلى البيع الثاني دون الأول ، لما كان فيه دليل : لأن
زيدا خالفها ، وإذا
nindex.php?page=treesubj&link=21700اختلف الصحابيان وكان القياس مع أحدهما كان قول من عاضده القياس أولى ، والقياس مع
زيد دون
عائشة رضي الله عنها . فإن قيل : فليس الاحتجاج بقول
عائشة وإنما الاحتجاج بالتوقيف في قولها : لأنها لا تبطل جهاد
زيد باجتهادها . قيل : لا يصح حمل قولها على التوقيف من وجهين :
أحدهما : أنه إثبات نص باستدلال وإبطال قياس باحتمال .
والثاني : إمكان مقابلة ذلك بمثله في حمل ما ذهب إليه
زيد على التوقيف ، فإذا أمكن معارضة الشيء بمثله سقط ، وليس ما ذكرته
عائشة رضي الله عنها من أن
زيدا قد أبطل جهاده دليل على توقيف : لأنه لا يجوز أن يضاف إلى أحد من الصحابة أنه علم بنص فخالفه ، وإن لم يعلم بما لم يبطل اجتهاده ، وليس هذا القول منها إلا كقول
ابن عباس رضي الله عنه : ألا يتقي الله
زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا ، وكقوله في العول : ما جعل الله في المال نصفا وثلثين ، من شاء باهلته عند
الحجر الأسود ، يعني لاعنته ، ولم يدل هذا القول منه مع ما فيه من الوعيد والملاعنة على أن في الجد والعول نصا .
وأما الجواب عن حديث
ابن عباس رضي الله عنه فهو الجواب عن حديث
عائشة رضي الله عنها .
وأما الجواب عن قولهم : إنه ذريعة إلى الربا الحرام ، فغلط بل هو سبب يمنع من الربا الحرام ، وما منع من الحرام كان ندبا . ألا ترى إلى
nindex.php?page=hadith&LINKID=923108حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " قال : لا والله يا رسول الله ، إنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بثلاثة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفعل . بع الجمع بالدراهم ، ثم اشتر بالدراهم جنيبا " . والجمع هو التمر المختلط الرديء ، والجنيب هو الجيد ، فجعل ذلك ذريعة إلى ترك الربا وندب إليه .
وأما الجواب عن قولهم أنه قد استفضل زيادة ليست في مقابلة عوض . أنه إذا انفرد
[ ص: 290 ] كل واحد من العقدين بحكم نفسه لم يصح اعتبار هذا ، وكان حكم العقد الثاني مع البائع كحكمه مع غير البائع ، على أن كل واحد من العقدين قد قابل عوضا مضمونا .
[ ص: 287 ] بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الشَّيْءَ إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهِ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ السَّلْعَةَ إِلَى أَجَلٍ وَيَشْتَرِيَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ بِنَقْدٍ وَعَرْضٍ وَإِلَى أَجَلٍ . قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إِنَّ امْرَأَةً أَتَتْ
عَائِشَةَ فَسَأَلَتْهَا عَنْ بَيْعٍ بَاعَتْهُ مِنْ
زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِكَذَا وَكَذَا إِلَى الْعَطَاءِ ، ثَمَّ اشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ . فَقَالَتْ
عَائِشَةُ : بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَمَا ابْتَعْتِ ، أَخْبِرِي
زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ . ( قَالَ
الشَّافِعِيُّ ) وَهُوَ مُجْمَلٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَقَدْ تَكُونُ
عَائِشَةُ عَابَتِ الْبَيْعَ إِلَى الْعَطَاءِ : لِأَنَّهُ أَجْلٌ مَعْلُومٌ ،
وَزَيْدٌ صَحَابِيٌّ ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَمَذْهَبُنَا الْقِيَاسُ ، وَهُوَ مَعَ
زَيْدٍ وَنَحْنُ لَا نُثْبِتُ مِثْلَ هَذَا عَلَى
عَائِشَةَ ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السِّلْعَةُ لِي كَسَائِرِ مَالِي لِمَ لَا أَبِيعُ مِلْكِي بِمَا شِئْتُ وَشَاءَ الْمُشْتَرِي ؟ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=4450بَاعَ الرَّجُلُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ فَافْتَرَقَا عَلَى الرِّضَا بِهِ جَازَ أَنْ يَبْتَاعَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَبَعْدَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ ، مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، حَالًّا وَمُؤَجَّلًا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ
ابْنُ عُمَرَ ،
وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَجُلُّ التَّابِعِينَ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ
مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ نَقْدًا وَنَسِيئًا .
وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الثَّمَنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالنَّقْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً إِلَّا بِمَثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَا لَا رِبَا فِيهِ كَالْعُرُوضِ جَازَ أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَأَقَلَّ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ فِيهِمَا الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ جَازَ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ قِيَاسًا وَلَمْ يَجُزِ اسْتِحْسَانًا .
وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ
ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيِّ عَنْ أُمِّهِ
عَالِيَةَ بِنْتِ أَيْفَعَ قَالَتْ : خَرَجْتُ أَنَا
وَأُمُّ حَبَّةَ إِلَى الْحَجِّ فَدَخَلْنَا عَلَى
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا فَقَالَتْ : مِنْ أَيْنَ ؟ قُلْنَا مِنَ
الْكُوفَةِ . كَأَنَّهَا أَعْرَضَتْ فَقَالَتْ لَهَا
أُمُّ حَبَّةَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ وَبِعْتُهَا
زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى الْعَطَاءِ ، فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا . فَقَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا ابْتَعْتِ ، أَخْبِرِي
زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ
[ ص: 288 ] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ، فَقَالَتْ : أَرَأَيْتِ لَوْ أَخَذْتُ رَأْسَ مَالِي . قَالَتْ : فَتَلَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [ الْبَقَرَةِ : 275 ] .
قَالُوا فَلَمَّا أَبْطَلَتْ
عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا الْبَيْعَ وَجِهَادَ
زَيْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهَا بَلْ عَنْ نَصٍّ وَتَوْقِيفٍ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِيهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=7918إِبْطَالَ الْجِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى سَمَاعِهَا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالُوا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ بَاعَ حَرِيرَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثَمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةً وَحَرِيرَةٌ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا . قَالُوا : وَلِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا وَمُؤَدِّيًا إِلَيْهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=5366وَمَا كَانَ مُؤَدِّيًا إِلَى الرِّبَا كَانَ مَمْنُوعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923106مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923107لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا " . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَمَّلُوهَا أَيْ أَذَابُوهَا فَلَعَنَهُمْ : لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا أَدَّاهُمْ إِلَى الْحَرَامِ . وَلِأَنَّ الْبَائِعَ فِي ابْتِيَاعِهِ الثَّانِي قَدِ اسْتَفْضَلَ زِيَادَةً لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا عِوَضٌ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [ الْبَقَرَةِ : 275 ] وَلِأَنَّ كُلَّ سِلْعَةٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْ غَيْرِ بَائِعِهَا بِثَمَنٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْ بَائِعِهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ كَالْعَرْضِ . وَلِأَنَّ كُلَّ سِلْعَةٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْ شَخْصٍ بِعَرْضٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْهُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الْعَرْضِ كَالْأَجْنَبِيِّ . وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي عِوَضِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي تَقْدِيرِ ثَمَنِهِ إِلَى عَاقِدٍ كَالْبَيْعِ الْأَوَّلِ . وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ حُكْمَ نَفْسِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِحُّ مَعَ التَّرَاضِي وَيَبْطُلُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَيَفْتَقِرُ إِلَى الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ ، وَإِذَا انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَلَا بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : ضَعْفُ إِسْنَادِهِ وَوَهَاءُ طَرِيقِهِ .
قَالَ
الشَّافِعِيُّ : قُلْتُ لِمَنِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ : أَتَعْرِفُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ . فَقَالَ : لَا . فَقُلْتُ : كَيْفَ يَصِحُّ لَكَ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ مَنْ لَا تَعْرِفُهُ عَلَى أَنَّ
أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَادِيثِ النِّسَاءِ إِلَّا مَا رَوَتْهُ
عَائِشَةُ nindex.php?page=showalam&ids=54وَأُمُّ سَلَمَةَ .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّمَا أَبْطَلَتِ الْبَيْعَ إِلَى الْعَطَاءِ : لِأَنَّهُ أَجْلٌ مَجْهُولٌ
nindex.php?page=treesubj&link=4650وَالْآجَالُ الْمَجْهُولَةُ يَبْطُلُ بِهَا الْبَيْعُ .
[ ص: 289 ] فَإِنْ قَالُوا : إِنَّمَا أَنْكَرَتِ الْبَيْعَ الثَّانِي : لِأَنَّهَا قَالَتْ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا ابْتَعْتِ تَكْرِيرًا لِإِنْكَارِ الْبَيْعِ الثَّانِي . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّهَا قَالَتْ : بِئْسَ مَا شَرَيْتِ بِمَعْنَى بِعْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=20وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [ يُوسُفَ : 20 ] أَيْ بَاعُوهُ وَقَالَ الشَّاعِرُ :
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَّةْ
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ إِنْكَارَ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَوَجَّهَ إِلَى الْبَيْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، لَمَا كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ : لِأَنَّ
زَيْدًا خَالَفَهَا ، وَإِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=21700اخْتَلَفَ الصَّحَابِيَّانِ وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَ أَحَدِهِمَا كَانَ قَوْلُ مَنْ عَاضَدَهُ الْقِيَاسُ أَوْلَى ، وَالْقِيَاسُ مَعَ
زَيْدٍ دُونَ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ
عَائِشَةَ وَإِنَّمَا الِاحْتِجَاجُ بِالتَّوْقِيفِ فِي قَوْلِهَا : لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ جِهَادَ
زَيْدٍ بِاجْتِهَادِهَا . قِيلَ : لَا يَصِحُّ حَمْلُ قَوْلِهَا عَلَى التَّوْقِيفِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِثْبَاتُ نَصٍّ بِاسْتِدْلَالٍ وَإِبْطَالُ قِيَاسٍ بِاحْتِمَالٍ .
وَالثَّانِي : إِمْكَانُ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِمِثْلِهِ فِي حَمْلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
زِيدٌ عَلَى التَّوْقِيفِ ، فَإِذَا أَمْكَنَ مُعَارَضَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ سَقَطَ ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَتْهُ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ أَنَّ
زَيْدًا قَدْ أُبْطِلَ جِهَادُهُ دَلِيلٌ عَلَى تَوْقِيفٍ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ عَلِمَ بِنَصٍّ فَخَالَفَهُ ، وَإِنِ لَمْ يُعْلَمْ بِمَا لَمْ يُبْطِلِ اجْتِهَادَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهَا إِلَّا كَقَوْلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا ، وَكَقَوْلِهِ فِي الْعَوْلِ : مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْمَالِ نِصْفًا وَثُلْثَيْنِ ، مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ
الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، يَعْنِي لَاعَنْتُهُ ، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْمُلَاعَنَةِ عَلَى أَنَّ فِي الْجِدِّ وَالْعَوْلِ نَصًّا .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا الْحَرَامِ ، فَغَلَطٌ بَلْ هُوَ سَبَبٌ يَمْنَعُ مِنَ الرِّبَا الْحَرَامِ ، وَمَا مَنَعَ مِنَ الْحَرَامِ كَانَ نَدْبًا . أَلَا تَرَى إِلَى
nindex.php?page=hadith&LINKID=923108حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ " قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ وِالصَّاعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَفْعَلْ . بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا " . وَالْجَمْعُ هُوَ التَّمْرُ الْمُخْتَلِطُ الرَّدِيءُ ، وَالْجَنِيبُ هُوَ الْجَيِّدُ ، فَجَعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَرْكِ الرِّبَا وَنَدَبَ إِلَيْهِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ قَدِ اسْتَفْضَلَ زِيَادَةً لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ . أَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ
[ ص: 290 ] كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ بِحُكْمِ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ هَذَا ، وَكَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ الثَّانِي مَعَ الْبَائِعِ كَحُكْمِهِ مَعَ غَيْرِ الْبَائِعِ ، عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ قَدْ قَابَلَ عِوَضًا مَضْمُونًا .