الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإن قال : أريد إحياءها للزرع فلا بد لها من ثلاثة شروط :

                                                                                                                                            أحدها : أن يجمع لها ترابا يحيط بها ويميزها عن غيرها ، وهو الذي يسميه أهل العراق سناه .

                                                                                                                                            والشرط الثاني : أن يسوق الماء إليها إن كانت يبسا من نهر أو بئر ، وإن كانت بطائح حبس الماء عنها : لأن إحياء البطائح يحبس الماء على شروطه .

                                                                                                                                            [ ص: 487 ] والشرط الثالث : أن يخزنها ليمكن زرعها ، والحرث يجمع ويمسح ما استعلى من تطويل ما انخفض ، فإن ساق الماء ولم يحرث فقد ملك الماء وحريمه ، ولم يملك ما تحجر عليه ، فإذا حرث بعد التحجير وسوق الماء فقد اختلف أصحابنا في كمال الإحياء وحصول الملك ، على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : وهو المنصوص في كتاب الأم ، واختاره أبو إسحاق المروزي أن الإحياء قد كمل ، والملك قد تم وإن لم يزرع ولم يغرس : لأن مثابة الزرع بعد العمارة بمثابة السكنى بعد البناء ، وليس ذلك شرطا في الإحياء ، كذلك الزرع والغرس .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو المنصوص عليه في هذا الموضع أنه لا يكمل الإحياء ، ولا يتم الملك إلا بالزرع والغرس بعد الحرث : لأنه من تمام العمارة ، ومثابة السكنى بعد البناء بمثابة الحصاد بعد الزرع .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : وهو قول أبي العباس بن سريج : لا يكمل الإحياء ولا يتم الملك إلا بالزرع أو الغرس ثم بالسقي ، فما لم يسق لم يكمل الإحياء : لأن العمارة لم تكمل ، والوجه الأول أصحها ، فإذا كمل الإحياء بما وصفنا ، واستقر ملك المحيي عليها بما بينا ، فهي أرض عشر وليست أرض خراج ، سواء سقيت بماء العشر ، أو بماء الخراج .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : إن ساق إليها ماء الخراج وسقاها به فهي أرض خراج ، وإن ساق إليها ماء العشر فسقاها به فهي أرض عشر ، وقال محمد بن الحسن : إن كانت الأرض المحياة على أنهار احتفرتها الأعاجم فهي أرض خراج ، وإن كانت على أنهار أجراها الله تعالى كدجلة ، والفرات ، والنيل ، والبحر فهي أرض عشر ، وقد أجمع العراقيون على أن ما أحيي من موات البصرة وسباخها أرض عشر ، أما على قول محمد بن الحسن فلأن دجلة البصرة مما أجراه الله تعالى من الأنهار ، وما عليها من الأنهار المحدثة ، فهي محياة احتفرها المسلمون في الموات ، وأما أبو حنيفة فقد اختلف في علة ذلك على قوله ، فذهب بعض أصحابنا إلى أن العلة في ذلك أن ماء دجلة والفرات يستقر في البطائح فينقطع حكمه ويذهب الانتفاع به ثم يخرج إلى دجلة والبصرة فلا يكون من ماء الخراج : لأن البطائح ليست من أنهار الخراج ، وهذا قول طلحة بن آدم ، وقال آخرون : إن علة ذلك ومعناه أن ماء الخراج يفيض إلى دجلة البصرة في حرزها ، وأرض البصرة يشرب من مدها ، والمد من البحر وليس من دجلة والفرات ، وهذا تعليل جعلوه عذرا لمذهبهم حين شاهدوا الصحابة ومن تعقبهم من التابعين - رضي الله عنهم - قد أجمعوا عند إحياء البصرة وهي أول مصر بني في الإسلام على أنها أرض عشر لم يضرب عليها خراج ، وليست العلة فيه إلا أنه موات استحدث إحياؤه ، وكذلك كل موات أحيي ؛ ولأنه لو كان حكم الأرض معتبرا بمائها حتى تصير أرض العشر خراجا بماء الخراج لوجب أن تصير أرض الخراج عشرا بماء العشر ، وفي تركهم للقول بذلك في ماء العشر إبطال لما قالوه في ماء الخراج ، ولأن الأرض أصل ، والماء فرع ، لأمرين : [ ص: 488 ] أحدهما : أن الماء قد يصرف عن أرض إلى أخرى ويساق إليها ماء أرض أخرى .

                                                                                                                                            والثاني : أن الخراج مضروب على الأرض دون الماء ، والعشر مستحق في الزرع دون الأرض والماء إذا كان الماء فرعا لا يتعلق به أحد الحقين لم يجز أن يعتبر به واحد من الحقين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية