الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " والخمر في الأرض كالبول ، وإن لم يذهب ريحه .

                                                                                                                                            قال الماوردي : فأما الخمر فنجس بالاستحالة ، وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                            وقال الحسن ليس بنجس ، لأن الله سبحانه أعده في الجنة لخلقه ، فقال تعالى : وأنهار من خمر لذة للشاربين [ محمد : 15 ] والله تعالى لا يعد لخلقه نجسا .

                                                                                                                                            [ ص: 260 ] والدلالة عليه مع إجماع الصحابة والتابعين قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان [ المائدة : 90 ] .

                                                                                                                                            والأرجاس : أنجاس إلا ما قامت الدلالة على طهارتها ، ولأنه مائع ورد الشرع بإراقته ، فوجب أن يكون نجسا كالسمن الذائب إذا وقعت فيه فأرة فأما الآية فتقتضي طهارة الخمر في الجنة ، وهذا مسلم ، وإنما الخلاف معه في طهارتها ونجاستها في الدنيا ، وغير منكر أن تكون في الدنيا نجسة ويقلب الله سبحانه وتعالى عينها في الآخرة ، ويغير حكمها ، فإذا ثبتت نجاسة الخمر بما ذكرناه فمتى أصابت الأرض فقد نجست فإن كشط الطبقة التي لاقاها الخمر فقد طهر المكان أيضا ، وإن زال ريحه وبقي لونه فالمكان نجس : لأن اللون عرض ، والعرض لا يقوم بنفسه ، فكان بقاؤه دليلا على بقاء عينه ، فلو ذهب لونه ، وبقي ريحه فإن كان ذلك لتقصير الغاسل لغسله ، ويعلم أنه إن أعيد غسله زالت الرائحة ، فالمكان نجس ، وإن كان بقاء الرائحة من غير تقصير في الغسل ففي طهارة المكان قولان منصوصان :

                                                                                                                                            أحدهما : نجس ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه ، أو طعمه ، أو ريحه فجعل الرائحة كاللون في التنجيس للماء ، كذلك رائحة الخمر كلونه في تنجيس الأرض به .

                                                                                                                                            والقول الثاني : إن المكان طاهر مع بقاء الرائحة : لأن الخمر ذكي الريح ، فإذا جاوز أرضا تعدى ريحه لقوة ذكائه فيما جاوره واتصل به من غير حلول جزء من العين فيه : فصار ذلك كـ " الميتة " على حافة بئر طال مكثها ، وراح الماء بها لتعدي رائحتها ، فلما كان الماء طاهرا ، أو تغير ريحه ، لأن التغيير بمجاورة الميتة وتعدي الرائحة وجب أن يكون بقاء ريح الخمر لا يوجب تنجيس المحل ، وكان اللون مفارقا له ، لأن اللون لا يتعدى إلى ما جاوره ، والرائحة متعدية .

                                                                                                                                            فأما الثوب إذا بقيت فيه رائحة الخمر فهو على نجاسته حتى تزول الرائحة عنه بخلاف الأرض : لأن حكم النجاسة فيها أخف لكونها معتدية للأنجاس ، ولأن رائحة الخمر لا تتعدى إلى الثوب إلا بحلول أجزاء الخمر فيه لبعده منه ، فشابه لون الخمر في الأرض ، فأما الإناء إذا بقيت فيه رائحة الخمر ، فلم تزل بالغسل فهو أخف حكما من الأرض ، فمن أصحابنا من قال : يطهر قولا واحدا : لأن بقاء الرائحة فيه لطول المكث وكثرة المجاورة ، ومنهم من قال : هو على قولين كالأرض سواء ، فأما النيل والحناء إذا بلا ببول ، وخضب به اليد أو ثوب ، ثم غسل فلم يبق إلا لونه فقد حكي عن الشافعي طهارته ، لأن اللون عرض ، والنجاسة لا تخالط العرض ، وإنما تخالط العين ، فإذا زالت العين التي هي محل النجاسة زالت النجاسة بزوال محلها .

                                                                                                                                            [ ص: 261 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية