الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل :

                                                                                                                                            فإذا ثبت سقوط الرجم عن العبد والأمة ، فحدهما الجلد . واختلف الناس فيه : فمذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ومالك : أنهما يحدان نصف حد الزنا خمسين جلدة .

                                                                                                                                            وقال عبد الله بن عباس : إن تزوجا فعلى كل واحد منهما نصف الجلد ، وإن لم يتزوجا فلا حد عليهما .

                                                                                                                                            وقال داود : على العبد جميع الحد تزوج أو لم يتزوج .

                                                                                                                                            وأما الأمة فإن تزوجت فعليها نصف الحد ، وإن لم تتزوج فعنه روايتان :

                                                                                                                                            إحداهما : عليها حد كامل .

                                                                                                                                            [ ص: 243 ] والثانية : لا حد عليها : لأنه حمل قوله تعالى : فإذا أحصن [ النساء : 25 ] ، أي تزوجن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ النساء : 25 ] وأمسك عن ذكرهن إذا لم يتزوجن ، فاحتمل أن يكمل عليها الحد ، واحتمل أن لا يجب عليها حد فلذلك ما اختلفت الرواية عنه .

                                                                                                                                            ودليلنا على وجوب نصف الحد على العبد والأمة فيمن تزوج أو لم يتزوج - قول الله - تعالى - : فإذا أحصن فيه قراءتان :

                                                                                                                                            إحداهما : بالضم ، ومعناه تزوجن ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                            والثانية : بالفتح ، ومعناه أسلمن ، قاله ابن مسعود .

                                                                                                                                            فإن أتين بفاحشة يعني الزنا فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب يعني نصف حد الحرة ، فذكر إحصانهن في تنصيف الحد لينبه بأن تنصيفه في غير الإحصان أولى ، وإن لم يكن مع ثبوت الرق إحصان .

                                                                                                                                            وروى الشافعي ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير .

                                                                                                                                            قال الزهري : لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة ، والضفير : الحبل .

                                                                                                                                            وروى الزهري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد ولائد أبكارا من ولائد الإمارة في الزنا ، ولأن حد الزنا موضوع على المفاضلة : لأن الحر مفضل فيه على العبد ، والثيب مفضل فيه على البكر ، وقال تعالى : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين [ الأحزاب : 30 ] ، لفضلهن على من سواهن ، فلم يجز من نقص العبد أن يساوي الحر في حده ، ولم يجز إسقاط حده : لئلا تضاع حدود الله تعالى فوجب تنصيفها في الأحوال كلها . ويقال لداود لما وجب على الأمة نصف الجلد ولم يكن لتنصيفه سبب سوى الرق ، وجب أن يتنصف في العبد لأجل الرق وهذا من فحوى الخطاب .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أن حدها على النصف فهو خمسون جلدة ، واختلف قول الشافعي في وجوب التغريب فيه على قولين :

                                                                                                                                            [ ص: 244 ] أحدهما : وبه قال مالك وأحمد بن حنبل : لا تغريب فيه : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا زنت الأمة فاجلدوها ولم يأمر بتغريبها : لأن التغريب موضوع للحوق المعرة وإدخال المشقة ، ولا معرة فيه على العبد والأمة ، ولا مشقة تلحقها في الغربة : لأنهما مع العبد أرفه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن التغريب واجب : لقوله تعالى : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ النساء : 25 ] ، فكان على عمومه .

                                                                                                                                            وروى نافع ، عن ابن عمر أن أمة له زنت ، فجلدها ونفاها إلى فدك . ولأن كل من جلد في الزنا غرب كالحر ، ولأنه حد يتبعض فوجب أن يستحق في العبد والأمة كالجلد ، وفيه وجه ثالث لبعض أصحابنا : أنه إن تولى الإمام جلدها غربها ، وإن تولاه السيد لم يغربها ، وفرق ما بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : نفوذ أمر الإمام في جميع البلاد دون السيد .

                                                                                                                                            والثاني : لاتساع بيت المال لنفقة التغريب دون السيد . فإذا قيل بوجوب التغريب ، ففي قدره قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه تغريب عام كالحر ، قاله في القديم : لأن ما قدر بالحول استوى فيه الحر والعبد كالحول في أجل العنة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه تغريب نصف عام ، قاله في الجديد ، وهو معنى قوله هاهنا : " أستخير الله في نفيه نصف سنة " وإنما كان كذلك : لأنه حد يتبعض فوجب أن يكون على النصف من الحر كالجلد ، وخالف أجل العنة : لأنه مضروب لظهور عيب يعلم بتغيير الفصول الأربعة ، فيستوي فيه الحر ، وخالفه في مدة التغريب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية