الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما وصفنا صار فرض الجهاد عاما في كل زمان ومكان ، واختلف أصحابنا في ابتداء فرضه ، هل كان على الأعيان ثم انتقل إلى الكفاية ؟ أو لم يزل على الكفاية ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن ابتداء فرضه كان على الأعيان ، ثم نقل إلى الكفاية لقول الله تعالى : انفروا خفافا وثقالا [ التوبة : 41 ] . وفيه سبعة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : شبابا وشيوخا ، وهذا قول الحسن .

                                                                                                                                            والثاني : أغنياء وفقراء ، وهذا قول أبي صالح .

                                                                                                                                            والثالث : أصحاء ومرضى ، وهذا قول جويبر .

                                                                                                                                            والرابع : ركبانا ومشاة ، وهذا قول جويبر .

                                                                                                                                            والخامس : نشاطا وكسالى ، وهذا قول ابن عباس .

                                                                                                                                            والسادس : على خفة النفير وثقله ، وهذا قول ابن جرير .

                                                                                                                                            والسابع : خفافا إلى الطاعة ، وثقالا عن المخالفة . ويحتمل تأويلا ثامنا : خفافا إلى المبارزة وثقالا في المصابرة : وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله [ ص: 111 ] [ التوبة : 41 ] . وفي الجهاد بالمال تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : الإنفاق على نفسه بزاد وراحلة .

                                                                                                                                            والثاني : ببذل المال لمن يجاهد إن عجز عن الجهاد بنفسه .

                                                                                                                                            وفي الجهاد بالنفس تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : الخروج مع المجاهدين .

                                                                                                                                            والثاني : القتال إذا حضر الوقعة : ذلكم خير لكم فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الجهاد خير من تركه .

                                                                                                                                            والثاني : أن الخير في الجهاد لا في تركه .

                                                                                                                                            إن كنتم تعلمون فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : إن كنتم تعلمون صدق الله في وعده ووعيده .

                                                                                                                                            والثاني : إن كنتم تعلمون أن الله يريد لكم الخير ، فدلت هذه الآية على تعيين الفرض ، ثم دل عليه قوله تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا [ التوبة : 118 ] يعني : تاب الله على الثلاثة الذين خلفوا وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك . وفي قوله : خلفوا تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : خلفوا عن السرية .

                                                                                                                                            والثاني : خلفوا عن الخروج : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت [ التوبة : 118 ] لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين هجروهم وضاقت عليهم أنفسهم يعني : مما لقوه من جفاء المسلمين لهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه [ التوبة : 118 ] أي : تيقنوا أنهم لا يجدون ملجأ يلجئون إليه في قبول توبتهم والصفح عنهم إلا إلى الله ثم تاب عليهم ليتوبوا [ التوبة : 118 ] 0 أي : قبل توبتهم ليستقيموا .

                                                                                                                                            قال كعب بن مالك : وذلك بعد خمسين ليلة من مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك ، فلو كان فرض الجهاد على الكفاية دون الأعيان لم يخرج هؤلاء الثلاثة وقد خرج في هذه الغزوة ثلاثون ألفا ، لا يؤثر هؤلاء الثلاثة فيهم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن فرض الجهاد لم يزل على الكفاية دون الأعيان لقول الله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة [ التوبة : 122 ] . وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : وما كان عليهم أن يجاهدوا جميعا لأن فرضه على الكفاية .

                                                                                                                                            والثاني : ما كان لهم إذا جاهدوا قوما أن يخرجوا معهم ، حتى يتخلفوا لحفظ [ ص: 112 ] الذراري وطاعة الرسول : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : ليتفقه الطائفة النافرة إما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جهاده ، وإما مهاجرة إليه في إقامته ، وهذا قول الحسن .

                                                                                                                                            والثاني : ليتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النفور في سراياه ، وهذا قول مجاهد . وفي المراد بقوله : ليتفقهوا في الدين تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : ليتفقهوا فيما يشاهدونه من نصر الله لرسوله ، وتأييده لدينه ، وتصديق وعده ومشاهدة معجزاته ليقوى إيمانهم ، ويخبروا به قومهم إذا رجعوا إليهم .

                                                                                                                                            والثاني : ليتفقهوا في أحكام الدين ومعالم الشرع ، ويتحملوا عن الرسول ما يقع به البلاغ لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم : فدل هذا على أن فرض الجهاد على الكفاية ، وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وفي قوله : خذوا حذركم تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : احذروا عدوكم .

                                                                                                                                            والثاني : خذوا سلاحكم ، وقوله تعالى : فانفروا ثبات يعني : فرقا وعصبا ، أو انفروا جميعا أي : بأجمعكم . فخيرهم الله تعالى بين الأمرين ، فدل على أن فرضه لا يتعين على الكافة ، وإنما تعين على الثلاثة الذين تخلفوا : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم بأعيانهم ، فتعينت عليهم الإجابة حين عين الخروج عليهم ، فهذا توجيه الوجهين في ابتداء فرضه ، والصحيح عندي أن ابتداء فرضه كان على الأعيان في المهاجرين وعلى الكفاية في غيرهم : لأن المهاجرين انقطعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنصرته : فتعين فرض الجهاد عليهم ، ولذلك كانت سرايا رسول الله قبل بدر بالمهاجرين خاصة ، وما جاهد عليه الأنصار قبل بدر ، فتعين الفرض على من ابتدئ به ، ولم يتعين على من لم يبتدأ به ، ومن أجل ذلك سمى أهل الفيء من المقاتلة مهاجرين ، وجعل فرض العطاء فيهم ، وسمى غيرهم وإن جاهدوا أعرابا كما قال الشاعر :


                                                                                                                                            قد حسها الليل بعصلبي أروع خراج من الداوي


                                                                                                                                            مهاجرا ليس بأعرابي



                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية