الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ما يستقر به الإجماع :

                                                                                                                                            وأما الفصل الثالث فيما يستقر به الإجماع : فمعتبر بأربعة شروط :

                                                                                                                                            أحدها : العلم باتفاقهم عليه سواء اقترن بقولهم عمل أو لم يقترن .

                                                                                                                                            ومنع بعض الناس من استقرار الإجماع بمجرد القول حتى يقترن به عمل لأن العمل تحقيق القول .

                                                                                                                                            وهذا لا وجه له : لأن حجج الأقوال أوكد من حجج الأفعال ، وإن كان كل واحد منهما إذا انفرد حجة فلم يلزم اجتماعهما إذا لم يختلفا .

                                                                                                                                            فإن تجرد الإجماع في القول عن عمل يخالفه أو يوافقه كان القول إجماعا .

                                                                                                                                            وإن تجرد الإجماع في العمل عن قول يوافقه أو يخالفه كان العمل إجماعا .

                                                                                                                                            فإن أجمعوا على القول واختلفوا في العمل بطل الإجماع إن لم يكن لاختلافهم في العمل تأويل .

                                                                                                                                            وإن أجمعوا على العمل واختلفوا في القول بطل الإجماع إن لم يكن لاختلافهم في القول تأويل لما يلزم من اتفاقهم في القول والعمل .

                                                                                                                                            [ ص: 113 ] فإن جهل الاتفاق في القول والعمل ولم يتحقق لم يثبت بذلك إجماع ولا خلاف لترددهما بين اتفاق يكون إجماعا وافتراق يكون خلافا فلذلك لم يثبت به إجماع ولا خلاف .

                                                                                                                                            والشرط الثاني : أن يستديموا ما كانوا عليه من الإجماع ولا يحدث من أحدهم خلاف .

                                                                                                                                            فإن خالفهم الواحد بعد إجماعه معهم بطل الإجماع وشاع الخلاف لأنه لما جاز أن يحدث إجماعهم بعد الخلاف جاز أن يحدث خلافهم بعد الإجماع ، هذا علي بن أبي طالب خالف في بيع أمهات الأولاد بعد إجماعه مع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم - على أن بيعهن لا يجوز فبطل بخلافه الإجماع في تحريم بيعهن ، وقد قيل إن عليا رجع بعد خلافه حين قال له عبيدة السلماني : " يا أمير المؤمنين : إن رأيك مع الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك " .

                                                                                                                                            فإن كان هذا الرجوع صحيحا كان تحريم بيعهن إجماعا .

                                                                                                                                            والشرط الثالث : أن ينقرض عصرهم حتى يؤمن حدوث الخلاف بينهم فإن بقاء العصر ربما أحدث من بعضهم خلافا كما خالف عبد الله بن عباس في العول بعد موت عمر فقيل له : ألا قلته في أيامه فقال هبته وكان امرءا مهيبا .

                                                                                                                                            وليس يعتبر في انقراض العصر موت جميع أهله لأن هذا أمر يضيق ولا ينحصر وقد تتداخل الأعصار ويتدرج الناس من حال بعد حال ويختلفون في الأعمار والآجال . وإنما المعتبر في انقراضه أمران :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يستولي على العصر الثاني غير أهل العصر الأول .

                                                                                                                                            والثاني : أن ينقرض فيهم من بقي من أهل العصر الأول ، قد عاش أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى إلى عصر التابعين فطاولوهم فجمعوا بين عصرين فلم يدل ذلك على بقاء عصر الصحابة بهم .

                                                                                                                                            وإذا كان انقراض العصر شرطا في استقرار الإجماع فهو معتبر في الأحكام التي لا يتعلق بها إتلاف واستهلاك ، ولا يستقر إجماعهم فيها إلا بانقراضهم عليها .

                                                                                                                                            فأما الأحكام التي يتعلق بها إتلاف واستهلاك لا يمكن استدراكه كإراقة الدماء واستباحة الفروج فقد اختلف أصحابنا في انقراض العصر هل يكون شرطا في انعقاد الإجماع عليه ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يكون شرطا فيه كغيره من الأحكام .

                                                                                                                                            [ ص: 114 ] والوجه الثاني : لا يكون شرطا ، والإجماع مستقر بالاتفاق عليه وليس لأحدهم أن يحدث خلافا فيه ، لأنهم في عظائم الأمور لا يجوز أن يتفقوا على الإجماع عليها إلا بعد وضوح الحق فيها كما أجمعوا مع أبي بكر على قتال مانعي الزكاة ، وفيه إراقة الدماء فلم يكن لأحدهم بعد الإجماع وما سفك فيه من الدماء أن يخالف فيه ، لأنه يجعل ما تقدم من إجماعهم منكرا ولا يجوز أن تجتمع الأمة على منكر .

                                                                                                                                            الشرط الرابع : أن لا يلحق بالعصر الأول من ينازعهم من أهل العصر الثاني .

                                                                                                                                            فإن لحق بعض الصحابة بعض التابعين فخالفهم فيما أجمعوا عليه فقد اختلف أصحاب الشافعي : هل يمنع خلافه من انعقاد الإجماع ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الإجماع منعقد لا يرتفع بخلافه ، لأنهم بمشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم أحفظ لشريعته وقد أنكرت عائشة - رضي الله عنها - على أبي سلمة بن عبد الرحمن منازعته الصحابة وقالت : أراك كالفروج إذا اجتمع مع الديك صايحها .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن خلافه يمنع من انعقاد الإجماع : لأن صغر السن لا يمنع من نفوذ القول كما خالف ابن عباس في صغر سنه أكابر الصحابة ، وقد قال علي : اعرف الحق تعرف أهله .

                                                                                                                                            فإذا استقر الإجماع بهذه الشروط الأربعة وجب أن يكون إجماع أهل العصر حجة على من بعدهم من أهل الأعصار المتأخرة ولا يكون حجة على أهل عصره لعدم استقراره فيه ، فيكون إجماع الصحابة حجة على التابعين ، ولا يكون حجة على الصحابة ، وإجماع التابعين حجة على تابعي التابعين ، ولا يكون حجة على التابعين وهذا حكم الإجماع في كل عصر يأتي ما بقيت الأرض ومن عليها .

                                                                                                                                            وقال داود وطائفة من أهل الظاهر : الإجماع اللازم يختص بعصر الصحابة لاختصاصهم بنزول الوحي فيهم ، ولا يلزم إجماع من بعدهم من التابعين وغيرهم .

                                                                                                                                            وهذا فاسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن وضوح الحق مستديم في كل عصر لأنه لا يخلو عصر من قائم لله بحجة ، ولو لم يلزم إجماعهم لخرج الحق عنهم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما كان أهل كل عصر محجوجين بنقل من تقدمهم وجب أن يكونوا محجوجين بإجماع من تقدمهم ليكون الشرع محروسا بهم من الزلل والخطأ ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرها من ناوأها " .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية