[ إبراز أصل الحق قبل القسمة ] .
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : قلت ثبتوا على أصول حقوقكم لأني لو قسمتها بقولكم ثم رفعت إلى حاكم كان شبيها أن [ ص: 270 ] يجعلها لكم ولعلها لغيركم وقد قيل يقسم ويشهد أنه قسمها على إقرارهم ولا يعجبني لما وصفت " . وإذا طلبوا أن يقسم دارا في أيديهم
قال الماوردي : فلهما فيها ثلاثة أحوال : إذا كانت دار وهي يدي رجلين ، ترافعا فيها إلى الحاكم ليقسمها بينهما
أحدها : أن ينازعهما فيها غيرهما ، فلا يجوز للحاكم إذا حكم بها لهما بأيديهما أن يقسمها بينهما ، مع ظهور المنازع إلا ببينة تشهد بها لهما وهذا مما لا يختلف فيه قوله ، لأن قسمة الحاكم إثبات لملكها ، واليد توجب إثبات التصرف ، ولا توجب إثبات الملك .
والحال الثانية : أن يتنازعاها وهي في أيديهما ، ويدعيها كل واحد منهما ملكا ، فيجعلها الحاكم بينهما بأيديهما وإيمانهما ، فلا يجوز أن يقسمها بينهما إن سألاه قسمها : لأن في تنازعهما إقرارا بسقوط القسمة ، فإن تقاسماها بأنفسهما لم يمنعهما .
والحال الثالثة : أن لا يكون لهما فيها منازع ، وهما معترفان بالشركة ، ويتنازعان في القسمة ، فإذا سألا الحاكم قسمها بينهما ، كلفهما البينة على ملكهما لها ، فإن أقاماها قسمها بينهما إجبارا أو اختيارا ، وهو غاية ما يستظهر به الحاكم في إثبات الأملاك .
وهكذا لو ظهر لهما منازع فأقاما البينة على ملكهما لها ، حكم لهما ، بالملك ، وأوقع بينهما القسمة وبطل قول المنازع بالبينة ، لأن الملك لا يبطل بالنزاع .
وإن عدما البينة ، وتفردا باليد ، وعدم المنازع وسألاه القسمة ، فقد نص الشافعي فيها على مذهبه أنه لا يجوز أن يقسمهما بينهما مع عدم البينة ويقول لهما : إن شئتما فاقتسماها بينكما ، باختياركما ، ولا أحكم بقسمها بينكما لجواز أن تكون لغيركما ، فتجعلا حكمي بالقسمة حجة لكما في الملك ، ودفع من لعله أحق منكما به .
فإن أقاما البينة بابتياعهما الدار ، لم تكن بينة بالملك ، لأن يد البائع فيها كأيديهما .
وهكذا لو أقاما البينة أنها صارت إليهما عن أبيهما ميراثا لم تكن بينة بالملك ؛ لأن يد الأب فيها كأيديهما .
وسواء كان هذا الملك مما ينقل ويحول ، كالعروض والسلع ، أو مما لا ينقل ولا يحول كالضياع والعقار ، ثم حكى الشافعي بعد ذكره لمذهبه قولا لغيره : أن الحاكم يقسمها بينهما ويذكر [ ص: 271 ] في القسمة أنه قسمها بينهما بإقرارهما ، ليستظهر بذلك مما يخافه من ظهور منازع فيها ، وسواء كان هذا مما ينقل أو لا ينقل وهذا مذهب أبي يوسف ومحمد .
فاختلف أصحابنا في تخريج هذا المذهب قولا ثانيا للشافعي .
فذهب بعضهم إلى إبطال تخريجه قولا ثانيا ، لأن الشافعي قد صرح بإبطاله فقال : " ولا يعجبني ذلك لما وصفنا " فلم يجز مع هذا الرد أن يجعل قولا له .
وذهب الأكثرون منهم إلى تخريجه قولا ثانيا ، لأن هذا التعليل ترجيح للأول
وليس بإبطال للثاني ، فيكون له في قسمها بينهما من غير بينة قولان :
أحدهما : لا يقسمها وهو الأظهر تعليلا بما قدمناه .
والقول الثاني : يقسمها ويستظهر بما وصفناه .
فإذا قسمها على هذا القول استظهر بأمرين :
أحدهما : أن ينادي هل من منازع ؟ ليستدل بعدمه على ظاهر الملك .
والثاني : أن يحلفهما أن لا حق فيها لغيرهما .
وفي هذه اليمين وجهان :
أحدهما : أنها استظهار فإن قسمها من غير إحلافهما جاز .
والثاني : أنها واجبة .
فإن قسمها من غير إحلافهما لم يجز .
فأما أبو حنيفة ، فإنه خالف بتفصيله مطلق القولين ، فقال : فيما ينقل من العروض والسلع أنه يقسمه بينهما بغير بينة ، وفيما لا ينقل من الضياع والعقار إن ادعياه ميراثا لم يقسم إلا ببينة تشهد بالميراث ، وإن ادعياه بابتياع أو غيره قسمه بغير بينة تشهد بالابتياع .
وقد ذكرنا أنه ليس البينة بالميراث والابتياع بينة بالملك ، وإنما هي بينة بسبب دخول اليد ، فلم يكن لهذا الفرق وجه ، والله أعلم بالصواب .