الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            الاستخلاف على القضاء

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وأحب للإمام إذ ولى القضاء رجلا أن يجعل له أن يولي القضاء من رأى في الطرف من أطرافه فيجوز حكمه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الإمام فيجوز له أن يستخلف على القضاء وإن قدر على مباشرته لعموم ولايته ، كما يجوز أن يستخلف على غير القضاء فيما يقدر على مباشرته ؛ لأن كل الأمور موكولة إلى نظره ، فلم يختص ببعضها فيختص بمباشرته .

                                                                                                                                            وقد روي أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : إن لي حمارا ولهذا بقرة وأن بقرته قتلت حماري . فقال لأبي بكر : " اقض بينهما " فقال : لا ضمان على البهائم ، فقال لعمر : " اقض بينهما " فقال : مثل ذلك ، فقال لعلي : " اقض بينهما " فقال علي : أكانا مرسلين ؟ فقالا : لا . قال : أكانا مشدودين ؟ فقالا : لا . قال : أفكانت البقرة مشدودة والحمار مرسلا ؟ قال : لا . قال : أفكان الحمار مشدودا والبقرة مرسلة ؟ قالا : نعم . قال : " على صاحب البقرة الضمان " .

                                                                                                                                            قال أصحابنا : وتأويل المسألة أن أبا بكر وعمر قضيا بسقوط الضمان عن صاحب البقرة إن لم يكن معها ، وإن عليا قضى بوجوب ضمان عليه إن كان معها . فقد استخلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على القضاء بمشهده وإن أمكنه القضاء بنفسه .

                                                                                                                                            فإن قيل فكيف رده إلى عمر بعد قضاء أبي بكر ، ورده إلى علي بعد قضاء عمر ، والحكم إذا نفذ انقطع به التنازع .

                                                                                                                                            [ ص: 329 ] قيل : لأن جواب أبي بكر وعمر خرج منهما مخرج الفتيا دون الحكم ، فلذلك رده إلى علي حتى حكم باللفظ المعتبر في الأحكام ، ولو كان جواب أبي بكر حكما لما استجاز رده إلى غيره .

                                                                                                                                            استخلاف القاضي غيره

                                                                                                                                            فأما القاضي إذا قلده الإمام عملا فأراد أن يستخلف عليه لم يخل حال تقليده من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يجعل له الإمام أن يستخلف عليه فيجوز له أن يستخلف ، سواء قل عمله أو كثر . لكنه إن قل وقدر على مباشرته بنفسه كان في الاستخلاف مخيرا ، وإن كثر ولم يقدر على مباشرته بنفسه كان الاستخلاف عليه واجبا .

                                                                                                                                            ثم ينظر في العمل ، فإن كان مصرا كبيرا وسوادا كثيرا قضى في المصر واستخلف على السواد : لأنه تبع فاختص في المتبوع لا بالتابع .

                                                                                                                                            وإن كانا مصرين متكافئين كالبصرة والكوفة كان بالخيار في أن يقضي في أيهما شاء ويستخلف على أيهما شاء .

                                                                                                                                            وله إذا حكم في أحدهما أن ينتقل إلى بلد خليفته ينقل خليفته إلى بلده إلا أن يكون الإمام قد عين له الحكم في أحدهما والاستخلاف على الآخر ، فلا يجوز أن يعدل عما عين له ، وتكون ولايته على البلد الآخر مقصورة على اختيار الناظر فيه دون الحكم .

                                                                                                                                            فإن عين له الإمام على من يستخلفه فيه صارت ولايته عليه مقصورة على تنفيذ ولاية المستخلف ومراعاته وخرجت عن ولاية الحكم والاختيار ، ولم يكن له عزل هذا المستخلف ، وإن كانت له عزل من استخلفه باختياره ؛ لأن التعيين عليه قد منعه من استخلاف غيره .

                                                                                                                                            فإن كان هذا المعين على استخلافه ليس بأهل للقضاء لم يكن له تنفيذ استخلافه لفساده ولم يكن له استخلاف غيره لمنع التعيين عليه من غيره . ويجوز أن يستخلف في بلد حكمه لعموم الإذن .

                                                                                                                                            فإن تنازع خصمان فيه وفي خليفته فطلب أحدهما المحاكمة إليه وطلب الآخر المحاكمة إلى خليفته ، نظر : فإن كان القاضي في يوم التنازع ناظرا فالداعي إليه أولى من الداعي إلى خليفته ؛ لأنه أصل ، وإن كان القاضي فيه تاركا وخليفته ناظرا كان الداعي إلى خليفته أولى من الداعي إليه ؛ لأنه أعجل .

                                                                                                                                            فإن جعل له الإمام على القضاء رزقا ، نظر : فإن سمى الرزق له اختص به دون [ ص: 330 ] خلفائه وإن سماه للقضاء شاركه فيه خلفاؤه ، بحسب كفاياتهم في النظر وكثرة العمل ، فإن عزل من استخلفه وقام بعمله جاز أن يأخذ رزقه ، وإن لم يقم به لم يجز أن يأخذه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية