الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما المزني فإن كلامه يشتمل على ثلاثة فصول :

                                                                                                                                            [ ص: 335 ] أحدها : بيان ما هو الأصح على مذهب الشافعي في تعارض البينتين ، وأن الذي يقتضيه كلامه إسقاطهما ، والعمل بما يوجبه مجرد الدعوى واليد ، لأنه قد أبطل القسمة بقوله ، أن استعمالهما في القسمة منع ليقين الخطأ في إعطاء أحدها أقل من حقه ، وإعطاء الآخر ما ليس بحقه ولأصحابنا عن هذا جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه شنع مع القطع بتكاذب البينتين وليس بشنع في جواز تصادقهما ، فتبطل القسمة في التكاذب ولا تبطل مع جواز التصادق .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أنه شنع في الباطن ، لامتناعه وليس بشنع في الظاهر لأننا نبطل السبب المتضاد ، ونحكم بالبينة في المال ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أحكم بالظاهر ويتولى الله السرائر " . فمن ثم أبطل المزني الإقراع بينهما لأن الشافعي قال فيمن مات عن زوجة مطلقة ، قد اشتبهت أنه لا قرعة بينهما ، فكذلك بأن مثله في إبطال القرعة في البينتين ، ولأصحابنا عن هذا جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أبطل القرعة في الزوجتين والولدين ، لأنه قد رجع في الزوجتين إلى بيان الورثة ، وفي الولدين إلى بيان اتفاقه ولا يؤخذ بمثل ذلك في البينتين .

                                                                                                                                            والثاني : أن دخول القرعة في الزوجتين والولدين تكون في أصل الدعوى التي لم يرد بها شرع ، وفي البينتين فيما ورد بمثله الشرع .

                                                                                                                                            والفصل الثاني : أن اختار المزني لنفسه استعمال البينتين وقسم الملك بينهما نصفين ، لتكافئهما وأن لا بيان يرجع إليه بعدهما فيما أمكن من صدقهما ، أو قطع فيه بتكاذبهما ، واستشهد بأن الشافعي قال في المتنازعين لثوب أقام كل واحد منهما البينة أنه له نسجه في ملكه إن سوى بين ما لا ينتج إلا مرة ، كالقطن والكتان ، الذي يقطع فيه بتكاذب البينتين ، وبين ما يجوز أن ينسج مرتين كالخز ، والديباج ، الذي يمكن فيه التصادق ، ولأصحابنا عن هذا جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا حجة أن يحتج لمذهبه بمذهب غيره ، وإنما يحتج لمذهبه بأمارات الأدلة .

                                                                                                                                            والثاني : أن قصد الشافعي في هذه المسألة من سماع الداخل فيما يتكرر نتجه ، ولا يتكرر ردا على أبي حنيفة ، في فرقه بينهما بسماع البينة فيما يتكرر نسجه وردها فيما لا يتكرر .

                                                                                                                                            والفصل الثالث : أن أورد عن الشافعي مسألة فيمن مات عن دار ادعت زوجته أنه أصدقها ، وادعى أجنبي أنه ابتاعها ، وأن الشافعي قال : " ليس إلا إسقاط البينتين ، أو القرعة " وقد أبطل القرعة ، فثبت إسقاط البينتين وإسقاط القرعة ، فدل على وجوب القسم ولأصحابنا عن هذا جوابان :

                                                                                                                                            [ ص: 336 ] أحدهما : أن المزني يبني هذا على أصل لم يخالف فيه ، وهو أن الشافعي إذا نص على قولين ثم عمل بأحدهما ، أنه يكون إبطالا للقول الآخر .

                                                                                                                                            وعند غيره من أصحابنا أنه لا يكون استعماله إبطالا للآخر ، وإنما يكون ترجيحا له على الآخر .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن هذه المسألة محمولة على أهل مذهبه في نظائرها ، وهو أن ينظر في البينتين ، فإن تقدمت إحداهما على الأخرى حكم بالمتقدمة على المتأخرة ، سواء كانت بينة الصداق ، أو بينة الابتياع ، لفساد الثاني بعد الأول ، وإن أشكل كانت على الأقاويل الثلاثة في إسقاطها في أحدهما والإقراع بينهما في الثاني ، واستعمالها في الثالث ، وجعل نصف الدار صداقا ، ونصفها ابتياعا ، فلم يسلم له دليل ولا صح له استشهاد . والله أعلم .

                                                                                                                                            مسألة ؟ قال الشافعي رحمه الله : " ولو كانت دار في يدي أخوين مسلمين ، فأقرا أن أباهما هلك وتركها ميراثا ، فقال أحدهما كنت مسلما وكان أبي مسلما ، وقال الآخر أسلمت قبل موت أبي ، فهي للذي اجتمعا على إسلامه ، والآخر مقر بالكفر مدع الإسلام " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في رجل مات مسلما ، وترك ابنين أحدهما متفق على إسلامه قبل موت أبيه ، واختلفا في إسلام الآخر ، فقال الآخر : أسلمت أنا قبل موت أبي ، فالتركة بيننا .

                                                                                                                                            وقال المسلم : بل أسلمت أنت بعد موت أبي ، فالتركة دونك ، والبينة معدومة
                                                                                                                                            ، فلا يقبل قول من ادعى تقدم إسلامه إذا أنكره أخوه لأننا على يقين من حدوث إسلامه ، وفي شك من تقدمه ، فكان القول فيه قول أخيه ، الذي أنكر تقدم إسلامه ، لأنه يستصحب فيه استدامة أصل متحقق ، بعد أن يحلف الآخر لجواز أن يكون الأخ صادقا في دعواه ، ويمينه على العلم دون القطع بالله أنه لا يعلم أن أخاه أسلم قبل موت أبيه لأنها يمين نفي على فعل غيره .

                                                                                                                                            وهكذا لو مات حر وترك ابنين ، أحدهما متفق على حريته قبل موت أبيه ، والآخر مختلف فيه ، فادعى تقدم عتقه قبل موت أبيه ، ليكونا شريكين في ميراثه ، وادعى الحر أن أخاه أعتق بعد موت الأب ، فهو أحق بجميع الميراث ، كان القول مع عدم البينة ، قول الحر مع يمينه ، بالله أنه لا يعلم أن أخاه أعتق قبل موت أبيه ، وهو أحق بجميع الميراث بعد يمينه ، لأنه يستصحب أصل رق معلوم ، لم يدع تقدم هذا إذا كان موت [ ص: 337 ] الأب متفقا على موته ، والاختلاف في وقت إسلام الابن ، أو عتقه ، فأما إذا اتفقا على وقت إسلام الابن ، أو عتقه ، والخلاف في وقت موت الأب .

                                                                                                                                            فقال الابن أسلمت أنا ، أو أعتقت في شهر رمضان ، ومات أبي في شوال فنحن شريكان في ملكه .

                                                                                                                                            وقال الآخر : صدقت أنك أسلمت في شهر رمضان ، ولكن مات أبونا في شعبان .

                                                                                                                                            فالقول قول الأخ الذي ادعى حدوث موت الأب في شوال ، دون من ادعى تقدم موت الأب في شعبان .

                                                                                                                                            ويكونان شريكين في الميراث لأنه استصحب استدامة أصل معلوم ، هو بقاء الحياة حتى يعلم تقدم الموت .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد خالفت هذا الأصل في الجناية على الملفوف إذا ادعى وليه أنه كان حيا وقت الجناية وادعى الجاني أنه كان ميتا ، جعلتم القول قول الجاني في أحد القولين ، وأسقطتم قول وليه ، في استصحاب أصل الحياة ؟

                                                                                                                                            قيل : بينهما في أحد القولين فرق وإن سويا بينهما في القول الثاني : أنه قد تقابل في الحياة على الملفوف أصلان :

                                                                                                                                            أحدهما : استصحاب حياة الملفوف .

                                                                                                                                            والثاني : استصحاب براءة ذمة الجاني ، فجاز أن يغلب في أحد القولين براءة ذمة الجاني ، وجاز أن يغلب في القول الثاني بقاء حياة المجني عليه ، فلذلك كانت على قولين .

                                                                                                                                            وليس في دعوى موت الأب ، إلا استصحاب أصل واحد هو استدامة حياته ولا يقابله أصل يعارضه ، فلذلك كان على قول واحد في استصحاب الحياة .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو قالت امرأة الميت وهي مسلمة زوجي مسلم وقال ولده وهم كفار بل كافر وقال أخو الزوج وهو مسلم بل مسلم ، فإن لم يعرف ، فالميراث موقوف حتى يعرف إسلامه من كفره ببينة تقوم عليه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في ميت مجهول الدين ، ترك زوجة وأخا مسلمين ، وابنا كافرا ، فادعت الزوجة ، والأخ أنه مات مسلما فالميراث لهما ، وادعى الابن أنه مات كافرا فالميراث له .

                                                                                                                                            [ ص: 338 ] فإن عدمت البينة ، كان ميراثه موقوفا ، حتى يتبين أمره ، فيعمل على البيان ، أو يتصادقوا عليه ، فيعمل على التصادق ، أو يصطلحوا عليه ، فيجاز الصلح ، فإن وجدت البينة فإن تفرد بها أحد الفريقين من مدعي إسلامه ، أو كفره ، عمل عليها ، فإن شهدت بإسلامه ، كان ميراثه لزوجته ، وأخيه المسلمين ، وإن شهدت بكفره كان ميراثه لابنه الكافر ، وإن تعارضت فيه بينتان شهدت إحداهما بكفره ، وشهدت الأخرى ، بإسلامه ، كان على ما قدمناه من اعتبار الشهادتين ، وهي تنقسم على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن تتقيد الشهادتان على مضادة يتكاذبان فيها .

                                                                                                                                            والثاني : أن تتقيد على تصادق لا تكاذب فيه .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكونا مطلقين .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : إذا كانتا مقيدتين على مضادة يكونان فيها متكاذبين ، بأن تشهد إحداهما ، أنه مات على كلمة الإسلام ، وتشهد الأخرى أنه مات على كلمة الكفر ، فهو على قولين وثالث مختلف فيه :

                                                                                                                                            أحدها : إسقاطهما ويكون الأمر موقوفا على بيان ، أو إصلاح .

                                                                                                                                            والقول الثاني : الإقراع بينهما ، والحكم لمن قرع منهما .

                                                                                                                                            والثالث المختلف فيه : استعمالهما . فمن أصحابنا من بناه على الاختلاف المتقدم من الوجهين ، والذي عليه الجمهور ، أنه لا يصح تخريج هذا القول هاهنا وجها واحدا ، وإن جاز تخريجه في الوجهين ، لأن الابنين فيما تقدم شريكان والأخ والابن هاهنا متدافعان ، فصح الاشتراك هناك وبطل هاهنا .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو أن تتقيد الشهادتان ، بغير مضادة يتكاذبان فيها فعلى ضربين أحدهما : أن تشهد إحداهما ، أنه كان كافرا في رجب ، وتشهد الأخرى أنه كان مسلما في شعبان ، فيحكم بالشهادة على إسلامه لحدوثه بعد كفره ويكون ميراثه لزوجته ، وأخيه المسلمين .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تشهد إحداهما أنه كان مسلما في رجب ، وتشهد الأخرى أنه كان كافرا في شعبان ، فيحكم بالشهادة على كفره بعد إسلامه ، فيحكم بردته ، ولا يرثه أحد الفريقين من ورثته ، ويكون ميراثه لبيت المال .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : أن تكون الشهادتان مطلقتين بأن تشهد إحداهما أنه كان مسلما وتشهد الأخرى أنه كان كافرا من غير تقييد لوقت إسلامه ، ووقت كفره ، فقد [ ص: 339 ] تعارضتا ، ويكون على ما قدمناه من الأقاويل في القسم الأول ، لأنه لأحدهما على الآخر إذ ليس له في أحد الدينين أصل يترجح به .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية