الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            1536 - ( وعن { معاذ بن جبل قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر } رواه الخمسة وليس لابن ماجه فيه حكم الحالم )

                                                                                                                                            1537 - ( وعن يحيى بن الحكم { أن معاذا قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق أهل اليمن ، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا ، ومن كل أربعين مسنة ، فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين ، وما بين الستين والسبعين . وما بين الثمانين والتسعين ، فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك ، وزعم [ ص: 158 ] أن الأوقاص لا فريضة فيها } رواه أحمد )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه الدارقطني والحاكم وصححه أيضا من رواية أبي وائل عن مسروق عن معاذ ورواه أبو داود والنسائي من رواية أبي وائل عن معاذ ، ورجح الترمذي والدارقطني الرواية المرسلة ، ويقال : إن مسروقا لم يسمع من معاذ ، وقد بالغ ابن حزم في تقرير ذلك وقال ابن القطان : هو على الاحتمال ، وينبغي أن يحكم لحديثه بالاتصال على رأي الجمهور .

                                                                                                                                            وقال ابن عبد البر في التمهيد : إسناده متصل صحيح ثابت . ووهم عبد الحق فنقل عنه أنه قال : مسروق لم يلق معاذا وتعقبه ابن القطان بأن أبا عمر إنما قال ذلك رواية مالك عن حميد بن قيس عن طاوس عن معاذ ، وقد قال الشافعي : طاوس عالم بأمر معاذ وإن لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا ، وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافا انتهى . قال الحافظ في التلخيص : ورواه البزار والدارقطني من طريق ابن عباس بلفظ : { لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة جذعا أو جذعة } الحديث لكنه من طريق بقية عن المسعودي وهو ضعيف والرواية الثانية المذكورة عن معاذ أخرجها أيضا البزار ، وفي إسنادها الحسن بن عمارة وهو ضعيف ، ويدل على ضعفه ذكره فيها لقدوم معاذ على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقدم إلا بعد موته وقد أخرج نحو هذه الرواية مالك في الموطأ من طريق طاوس عن معاذ ، وليس عنده أن معاذا قدم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بل صرح فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مات قبل قدومه وحكى الحافظ عن عبد الحق أنه قال : ليس في زكاة البقر حديث متفق على صحته : يعني في النصب وحكى أيضا عن ابن جرير الطبري أنه قال : صح الإجماع المتيقن المقطوع به الذي لا اختلاف فيه أن في كل خمسين بقرة بقرة فوجب الأخذ بهذا .

                                                                                                                                            وما دون ذلك مختلف فيه ولا نص في إيجابه وتعقبه صاحب الإمام بحديث عمرو بن حزم الطويل في الديات وغيرها ، فإن فيه في كل ثلاثين باقورة تبيعا جذعا أو جذعة ، وفي كل أربعين باقورة بقرة وحكى أيضا عن ابن عبد البر أنه قال في الاستذكار : لا خلاف بين العلماء أن السنة في البقر على ما في حديث معاذ ، وأنه النصاب المجمع عليه فيه انتهى . قوله : ( من كل ثلاثين من البقر ) فيه دليل على أن الزكاة لا تجب فيما دون الثلاثين ، وإليه ذهبت العترة والفقهاء

                                                                                                                                            وحكى في البحر عن سعيد بن المسيب والزهري أنها تجب في خمس وعشرين منها كالإبل ، ورده بأن النصب لا تثبت بالقياس وإن سلم فالنص مانع قوله : ( تبيعا أو تبيعة ) التبيع على ما في القاموس والنهاية : ما كان في أول سنة ، وفي حديث عمرو بن حزم " جذع أو جذعة " قوله : ( مسنة ) حكى في النهاية عن الأزهري أن البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن إذا كان في السنة [ ص: 159 ] الثانية ، والاقتصار على المسنة في الحديث يدل على أنه لا يجزئ المسن ، ولكنه أخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعا : { وفي كل أربعين مسنة أو مسن } قوله : { ومن كل حالم دينارا } فسره أبو داود بالمحتلم .

                                                                                                                                            والمراد به أخذ الجزية ممن لم يسلم قوله : ( معافر ) بالعين المهملة : حي من همدان لا ينصرف لما فيه من صيغة منتهى الجموع ، وإليهم تنسب الثياب المعافرية ، والمراد هنا : الثياب المعافرية ، كما فسره بذلك أبو داود قوله : ( إن الأوقاص . . . إلخ ) جمع وقص بفتح الواو والقاف ، ويجوز إسكانها وإبدال الصاد سينا : وهو ما بين الفرضين عند الجمهور ، واستعمله الشافعي فيما دون النصاب الأول وقد وقع الاتفاق على أنه لا يجب فيها شيء في البقر إلا في رواية عن أبي حنيفة ، فإنه أوجب فيما بين الأربعين والستين ربع مسنة ، وروي عنه وهو المصحح له أنه يجب قسطه من المسنة

                                                                                                                                            1538 - ( وعن رجل يقال له : سعر عن مصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما قالا : { نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شافعا ، والشافع التي في بطنها ولدها } ) .

                                                                                                                                            1539 - ( وعن سويد بن غفلة قال : { أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : إن في عهدي أنا لا نأخذ من راضع لبن ، ولا نفرق بين مجتمع ، ولا نجمع بين مفترق ، وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يأخذها } رواهما أحمد وأبو داود والنسائي ) .

                                                                                                                                            الحديث الأول أخرجه أيضا الطبراني وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده ثقات .

                                                                                                                                            والحديث الثاني أخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي ، وفي إسناده هلال بن خباب ، وقد وثقه غير واحد ، وتكلم فيه بعضهم قوله : ( يقال له سعر ) بكسر السين المهملة وسكون العين المهملة وآخره راء كذا في جامع الأصول ومختصر المنذري وفي كتاب ابن عبد البر بفتح السين المهملة وهو ابن ديسم بفتح الدال المهملة وسكون الياء التحتية وفتح السين المهملة الكناني الديلي ، روى عنه ابنه جابر هذا الحديث .

                                                                                                                                            وذكر الدارقطني وغيره أن له صحبة ، وقيل : كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في هذا الحديث . قوله : ( من راضع لبن ) فيه دليل على أنها لا تؤخذ الزكاة من الصغار التي ترضع اللبن ، وظاهره سواء كانت منفردة أو منضمة إلى الكبار ، ومن أوجبها فيها عارض هذا بما أخرجه مالك في الموطأ والشافعي وابن حزم أن عمر قال لساعيه سفيان بن عبد الله الثقفي : اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يده ولا تأخذها كما سيأتي ، وهو [ ص: 160 ] مبني على جواز التخصيص بمذهب الصحابي ، والحق خلافه

                                                                                                                                            قوله : ( كوماء ) بفتح الكاف وسكون الواو : هي الناقة العظيمة السنام والحديثان يدلان على أنه لا يجوز للمصدق أن يأخذ من خيار الماشية وقد أخرج الشيخان من حديث ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له : إياك وكرائم أموالهم } وقد تقدم الكلام على قوله { ولا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين مفترق }

                                                                                                                                            1540 - ( وعن عبد الله بن معاوية الغاضري من غاضرة قيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثلاث من فعلهن طعم طعم الإيمان : من عبد الله وحده ، وأنه لا إله إلا الله ، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ، ولكن من وسط أموالكم ، فإن الله لم يسألكم خيره . ولم يأمركم بشره } رواه أبو داود ) الحديث أخرجه أيضا الطبراني وجود إسناده ، وسياقه أتم سندا ومتنا وذكره أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة مسندا ، وعبد الله هذا له صحبة وهو معدود في أهل حمص ، قيل : إنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا ; والغاضري بالغين والضاد المعجمتين قوله : ( رافدة ) الرافدة : المعينة والمعطية .

                                                                                                                                            والمراد هنا المعنى الأول : أي معينة له على أداء الزكاة قوله : ( ولا الدرنة ) بفتح الدال المهملة مشددة بعدها راء مكسورة ثم نون وهي الجرباء ، قاله الخطابي وأصل الدرن : الوسخ كما في القاموس وغيره

                                                                                                                                            قوله : ( ولا الشرط اللئيمة ) الشرط بفتح الشين المعجمة والراء ، قال أبو عبيد : هي صغار المال وشراره واللئيمة : البخيلة باللبن قوله : ( ولكن من وسط أموالكم . . . إلخ ) فيه دليل على أنه ينبغي أن يخرج الزكاة من أوساط المال لا من شراره ولا من خياره

                                                                                                                                            1541 - ( وعن أبي بن كعب قال : { بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا ، فمررت برجل فلم أجد عليه في ماله إلا ابنة مخاض فأخبرته أنها صدقته ، فقال : ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر وما كنت لأقرض الله ما لا لبن فيه ولا ظهر ، ولكن هذه ناقة سمينة فخذها فقلت : ما أنا بآخذ ما لم أومر به ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فخرج معي وخرج بالناقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك الذي عليك ، وإن تطوعت بخير قبلناه منك ، وآجرك الله فيه ، قال : فخذها ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له بالبركة } رواه أحمد ) [ ص: 161 ] الحديث أخرجه أيضا أبو داود بأتم مما هنا وصححه الحاكم .

                                                                                                                                            وفي إسناده محمد بن إسحاق وخلاف الأئمة في حديثه مشهور إذا عنعن ، وهو هنا قد صرح بالتحديث . قوله : ( ولا ظهر ) يعني أن بنت المخاض ليست ذات لبن ولا صالحة للركوب عليها . قوله : ( ولكن هذه ناقة سمينة ) لفظ أبي داود : " ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة " قوله : ( منك قريب ) زاد أبو داود { فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل فإن قبله منك قبلته ، وإن رده عليك رددته ، قال : فإني فاعل ، فخرج معي بالناقة التي عرضت علي } . . . إلخ قوله : ( فأخبره الخبر ) لفظ أبي داود { فقال له : يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي ، وايم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله ، فجمعت مالي فزعم أن ما علي فيه إلا ابنة مخاض } ثم ذكر نحو ما تقدم والحديث يدل على جواز أخذ سن أفضل من السن التي تجب على المالك إذا رضي بذلك ، وهو مما لا أعلم فيه خلافا

                                                                                                                                            1542 - ( وعن سفيان بن عبد الله الثقفي أن عمر بن الخطاب قال : تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها الأكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم ، وتأخذ الجذعة والثنية وذلك عدل بين غذاء المال وخياره رواه مالك في الموطأ ) الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن حزم .

                                                                                                                                            وأغرب ابن أبي شيبة فرواه مرفوعا قال : حدثنا أبو أسامة عن النهاس بن قهم عن الحسن بن مسلم قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سفيان بن عبد الله على الصدقة } الحديث ورواه أيضا أبو عبيد في الأموال من طريق الأوزاعي عن سالم بن عبد الله المحاربي " أن عمر بعث مصدقا " فذكر نحوه قوله : ( تعد عليهم بالسخلة ) استدل به على وجوب الزكاة في الصغار وقد تقدم في المرفوع من حديث سويد بن غفلة ما يخالفه قوله : ( الأكولة ) بفتح الهمزة وضم الكاف : العاقر من الشياه ، والشاة تعزل للأكل هكذا في القاموس ; وأما الأكولة بضم الهمزة والكاف فهي قبيحة المأكول وليست مرادة هنا ; لأن السياق في تعداد الخيار قوله : ( ولا الربى ) بضم الراء وتشديد الباء الموحدة : الشاة التي تربى في البيت للبنها قوله : ( ولا فحل الغنم ) إنما منعه من أخذه مع كونه لا يعد من الخيار لأن المالك يحتاج إليه لينزو على الغنم قوله : ( وتأخذ الجذعة والثنية ) المراد الجذعة من الضأن والثنية من المعز ويدل على ذلك ما في بعض روايات حديث سويد بن غفلة المتقدم أن المصدق قال : { إنما حقنا في الجذعة من الضأن والثنية من المعز } . قوله : ( بين غذاء المال ) الغذاء بالغين المعجمة المكسورة بعدها ذال معجمة جمع غذى كغنى السخال وقد استدل بهذا الأثر [ ص: 162 ] على أن الماشية التي تؤخذ في الصدقة هي المتوسطة بين الخيار والشرار

                                                                                                                                            وفي المرفوع النهي عن كرائم الأموال كما تقدم من حديث معاذ ، وعن المعيب كما تقدم في حديث أنس وعمر ، والأمر بأخذ الوسط تقدم في حديث الغاضري




                                                                                                                                            الخدمات العلمية