الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      واعلم أن للقول بعوده إلى الجميع عندنا شروطا :

                                                      الأول : أن تكون الجمل متعاطفة ، فإن لم يكن عطف ، فلا يعود إلى الجميع قطعا ، بل يختص بالأخيرة إذ لا ارتباط بين الجملتين . وممن صرح بهذا الشرط القاضيان : أبو بكر في " التقريب " ، وأبو الطيب الطبري ، [ ص: 419 ] والشيخ أبو إسحاق ، وابن السمعاني ، وابن القشيري ، والآمدي ، وابن الساعاتي ، والهندي ، وغيرهم . وأما من أطلق فأمره محمول على أنه سكت عن ذلك لوضوحه . وأمثلتهم وكلامهم يرشد إلى أن المسألة مصورة بحالة العطف . ويدل لذلك قول أصحابنا في كتاب الطلاق : لو قال : يا طالق أنت طالق ثلاثا إن شاء الله ، أن الاستثناء منصرف إلى الثلاثة ، ووقعت واحدة بقوله : يا طالق ، ولو كان العطف يشترط ، لكان الاستثناء عائدا إلى الجميع

                                                      وأما ما فهمه القرافي من جريان الخلاف ، وإن لم يعطف ، فغره إطلاق الرازي وغيره ، فإنه إذا لم يكن عطف فلا ارتباط بينهما . نعم ، ذكر البيانيون أن ترك العطف قد يكون لكمال الارتباط بين الجملتين ، كقوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } فإذا كان مثل ذلك فلا يبعد مجيء الخلاف ، ويحتمل أن يقال : إنهما كالجملة الواحدة ، لأن الثانية كالمؤكدة للأولى ، فيعود للجميع قطعا .

                                                      وقد حكى الرافعي باب الاستثناء في الطلاق به لو قال : أنت طالق ، أنت طالق ، إن شاء الله ، وقصد التأكيد أنه يعود للجميع . ولم يحك فيه خلافا . وكذا لو قال : أنت طالق واحدة ثلاثا إن شاء الله من غير واحد ، فلا يقع شيء ، لأن الواحدة المتقدمة عائدة إلى الثلاث ، والاستثناء راجع إلى جميع الكلام ، نعم ، قال القرافي في " كتاب الأيمان " فيما لو قال : إن شاء الله أنت طالق ، عبدي حر ، أنها لا تطلق ، ولا يعتق . قال : وليكن هذا فيما إذا نوى صرف الاستثناء إليهما جميعا فإن أطلق فيشبه أن يجيء فيه خلاف في أنه يختص بالجملة الأولى ، أم [ ص: 420 ] يعمهما ؟ قال في " الروضة " : قلت : الصحيح التعميم . واستفدنا من هذا فائدتين : إحداهما : أن الخلاف جار مع عدم العطف . والثانية : أن المسألة لا تخص بما إذا تأخر الاستثناء ، بل تكون في حالة تأخره ، وحالة تقدمه ، وهو خلاف قول الأصوليين في الاستثناء إذا تعقب جملا . وهي مسألة حسنة .

                                                      الشرط الثاني : أن يكون العطف بالواو ، فإن كان بثم اختص بالجملة الأخيرة . ذكره إمام الحرمين في تدريسه ، حكاه عنه الرافعي في باب الوقف ، بعد أن صرح أن أصحابنا أطلقوا العطف . وعليه جرى الآمدي ، وابن الحاجب ، وابن الساعاتي ، والعجب أن الأصفهاني في " شرح المحصول " حكاه عن الآمدي ، وقال : لم أر من تقدمه به ; لكن ذكر الإمام في " النهاية " من صور الخلاف التمثيل : بثم ، وصرح بأن مذهبنا عوده إلى الجميع ، والظاهر أن " ثم ، والفاء ، وحتى " مثل " الواو " في ذلك . وقد صرح القاضي أبو بكر في " التقريب " " بالفاء " وغيرها ، فقال : وهذه سبيل جمل عطف بعضها على بعض بأي حروف العطف عطفت ، من " فاء ، وواو " وغيرها . انتهى .

                                                      وأطلق ابن القشيري والشيخ أبو إسحاق أن صورة المسألة أن يجمع بين الجمل بحرف من حروف العطف جامع في مقتضى الوضع ، ويوافقه ما ذكره ابن الصباغ في كتاب " العدة " فإنه قال : ومن أصحابنا من احتج بأن واو العطف تشترك بين الجملتين فتجعلان كالجملة الواحدة ، وهذا يخالف ما نص عليه الشافعي ، فإنه قال : إذا قال أنت طالق ، وطالق ، فطالق ، إلا واحدة لم يصح الاستثناء ، ولو كان الإيقاع جملة واحدة صح الاستثناء . هذا لفظه ، وهو صريح في أنه لا فرق بين الواو والفاء . وإن كانت للترتيب . [ ص: 421 ] وأما بقية حروف العطف فلا يتأتى فيها ذلك ، لأن " بل ، ولا ، ولكن " لأحد الشيئين بعينه ، فلا يصح عوده إليهما ، وكذلك " أو ، وأم ، وأما " لأحد الشيئين لا بعينه لكن الماوردي وغيره مثلوا المسألة بآية المحاربة ، مع أن العطف فيها ب " أو " وحكى الرافعي الخلاف في " بل " قبيل الطلاق بالحساب فقال : لو قال أنت طالق واحدة بل ثلاثا ، إن دخلت الدار ، فوجهان أصحهما - وبه قال ابن الحداد - تقع واحدة ، بقوله : أنت طالق ، وثنتان بدخول الدار . ردا للشرط إلى ما يليه خاصة . والثاني يرجع الشرط إليهما جميعا ، إلا أن يقول : أردت تخصيص الشرط بقولي : بل ثلاثا .

                                                      الثالث : أن لا يتخلل الجملتين كلام طويل ، فإن تخلل اختص بالأخيرة ، كما لو قال : وقفت على أولادي ، فمن مات منهم وأعقب كان نصيبه لأولاده للذكر مثل حظ الأنثيين ، وإلا فنصيبه لمن في درجته ، فإذا انقرضوا صرف إلى إخواني فلان وفلان الفقراء إلا أن يفسقوا . حكاه الرافعي عن إمام الحرمين . والمعنى أن طول الفصل يشعر بقطع الأولى عن الثانية

                                                      الرابع : أن تكون الجمل منقطعة ، بأن تنبئ كل واحدة عما لا تنبئ عنه أخواتها . ذكره أبو نصر بن القشيري . قال : فإن توالت عبارات كلها تنبئ عن معنى واحد ، ثم عقبها باستثناء ، كقولك : اضرب العصاة ، والجناة ، والطغاة ، والبغاة إلا من تاب ، رجع الاستثناء إلى الجميع قطعا . ويوافقه ما لو قال : أنت طالق أربع مرات بنية التكرار ، وقال في الرابعة : إن شاء الله ، ففي فتاوى الغزالي : أنه راجع إلى الجميع قال : لأن الكلام ما دام متصلا برابطة التأكيد كان كالجملة الواحدة . [ ص: 422 ]

                                                      الخامس : أن يكون بين الجمل تناسب . فإن لم يكن بينها تناسب لا يصح العطف فضلا عن إرادة البعض أو الكل . وهذا الشرط اعتبره البيانيون في صحة عطف الجمل ، فمنعوا عطف الإنشاء على الخبر ، وعكسه . ووافقهم ابن مالك ، لكن أكثر النحويين على الجواز مطلقا .

                                                      وعلى الأول فلا يحسن التمثيل بآية القذف ، لأن قوله : { وأولئك هم الفاسقون } جملة خبرية . عطفت على إنشائية ; لكن يقال : وإن كانت خبرية لفظا . لكنها إنشائية معنى . نعم ، من اشترط في عطف الجمل اتفاقهما في الاسمية أو الفعلية ، حتى لو اختلفتا امتنع ، لم يحسن أن تكون الآية منه ، فإن قوله : { وأولئك هم } جملة اسمية ، وقوله : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } جملة فعلية ، بل " الواو " هنا للاستئناف أو الابتداء ، وإذا كان كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله لم ينصرف الاستثناء إليه .

                                                      السادس : أن يمكن عوده إلى كل واحدة على انفرادها ، فإن تعذر عاد إلى ما أمكن ، أو اختص بالأخيرة . قاله القفال الشاشي ، وابن فورك ، والقاضي أبو الطيب في " شرح الكفاية " وإلكيا الطبري في " التلويح " .

                                                      قال القفال : وهذا كآية الجلد ، فلا يمكن عود الاستثناء فيها إلى الأول ، لأنه تعلق به حق آدمي ، ولهذا لا يسقط عنه الجلد بالتوبة ، وإن قبلت شهادته ، وزالت عنه سمة الفسق لأنه من حقوق الآدميين ، فالتوبة لا ترفعه إنما ترفع حق الله تعالى .

                                                      وحكى الرافعي في باب " قاطع الطريق " عن ابن كج أنه حكى قولا عن الشافعي في القديم بسقوط الجلد بالتوبة وبه قال الزهري ، وحكاه النحاس في " معاني القرآن " عن الشافعي أيضا . فعلى هذا يخرج له في هذه [ ص: 423 ] المسألة الأصولية قولان . ثم أكثرهم يمثلون الآية بهذا الأصل ، ومنهم من قال : على تقدير نظم الاختصاص بالأخيرة : إن الأخيرة هي عدم قبول الشهادة فإنه المحكوم به ، وأما سمة الفسق فهي علة هذا الحكم ، فالاستثناء إذا تعقب حكما وتعليلا ; فإما أن يرجع إلى الكل ، أو إلى الحكم دون التعليل ; لأنه المقصود . ولا سبيل إلى رجوعه إلى التعليل فقط .

                                                      قال الفقهاء : وكذا قوله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } فالاستثناء يرجع إلى الأخيرة ، لأن الدية حق آدمي ، فيسقط بالعفو ، والرقبة حق الله ، فلا يسقط بالعفو من الآدمي . وكذا قال الماوردي وغيره . قال ابن أبي هريرة في تعليقه : إن الاستثناء في قوله تعالى : { إلا عابري سبيل } يعود على الذي يليه ، وهو الجنب ، لا السكران ; فإن السكران ممنوع من دخول المسجد ، لما لا يؤمن من تلويثه إياه .

                                                      وخرج من هذا الشرط ما لو قال : أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة ، فإن المنصوص للشافعي كما حكاه القاضي أبو الطيب ، والشيخ في " المهذب " ، وابن الصباغ ، وعليه جمهور الأصحاب : لأنها تطلق طلقتين ، لأنه يمكن عود الاستثناء إلى ما يليه للاستغراق ، فيسقط ويبقى الطلقتان . ولا يظن أن هذا مخالف للقاعدة الأصولية ، لأن شرط الرجوع إلى الكل ما ذكرناه ، هو مفقود هاهنا . ولو قال : له درهمان ودرهم إلا درهما ، لزم ثلاثة على الأصح المنصوص ، لأنه استثنى درهما من درهم قاله الرافعي باب الإقرار وقد استشكل ذلك صاحب " الوافي " في " شرح المهذب " ، فقال : هذا مذهب الشافعي في الفروع ومذهبه ، في الأصول أن الاستثناء يعود إلى الجميع ، ولا أعلم الفرق إلا أن يقال : إنه [ ص: 424 ] هاهنا احتاط في وقوع الطلاق ، وليس بشيء . انتهى . وقد علمت جوابه .

                                                      السابع : أن يكون المعمول واحدا كقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } الآية فإن كان العامل واحدا والمعمول متعددا ، فلا خلاف في عوده إلى الجميع ، كقوله : اهجر بني فلان وبني فلان إلا من صلح . فالاستثناء من الجميع ، إذا لا موجب للاختصاص ، ولو ثبت موجب فعل بمقتضاه ، نحو لا تحدث النساء ولا الرجال إلا زيدا وقد تضمنت الأمرين آية المائدة { حرمت عليكم الميتة } فاشتملت على ما فيه مانع ، وهو ما أهل به لغير الله ، وما قبله ، وهو { و ما أكل السبع } و { إلا ما ذكيتم } فهو مستثنى من الخمسة ، إذ كانت تذكيته سبب موته .

                                                      قال ابن مالك : اتفق العلماء على تعلق الشرط بالجميع في نحو : لا تصحب زيدا ، ولا تزن ، ولا تكلم ، إلا تائبا من الظلم ومذهب أبي حنيفة والشافعي تساوي الاستثناء والشرط في التعلق بالجميع . وهو صحيح للإجماع على سد كل واحد مسد الآخر ، نحو اقتل الكافر إن لم يسلم ، واقتله إلا أن يسلم . انتهى .

                                                      الثامن : أن يتحد العامل ، فإن اختلف خص بالأخيرة . ذكره ابن مالك ، ونحو اكسوا الفقراء ، وأطعموا أبناء السبيل ، إلا من كان مبتدعا ، وصرح إلكيا الطبري بأن الشرط اتحاد العامل والمعمول . قال : فإن اختلفا اختص بما يليه ، ونحو ضرب الأمير زيدا وخرج إلى السفر ، وخلع علي فلان . قال : وهو حسن جدا . وبه يتهذب مذهب الشافعي . ا هـ .

                                                      والظاهر أن المراد اتحاده لفظا أو معنى ، فإن إمام الحرمين جعل من الأمثلة : وقفت ، وحبست ، وتصدقت ، ومن أمثلته في الصفة إذ لا فرق بينهما وبين الاستثناء قوله تعالى : { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } فإن [ ص: 425 ] الشافعي يجعل هذا الوصف وهو قوله : { اللاتي دخلتم بهن } مختصا بالأخيرة ، وهي قوله : { وربائبكم } لأن الربيبة عنده لا تحرم إلا بالدخول ، وأم الزوجة تحرم بالعقد ، وإن لم يدخل . قال المبرد والزجاجي : وإنما كان كذلك لاختلاف العامل ، إذ العامل في قوله : { وأمهات نسائكم } الإضافة ، وفي { ربائبكم } حرف الجر الذي هو قوله : { من نسائكم } فلما اختلف العامل أشعر بانقطاع الأولى عن الثانية . ولك أن تقول : إذا جعلنا العامل في الإضافة حرف الجر المقدر اتحد العامل على كل تقدير ، وهذا الشرط أيضا مخرج مما نقله ابن الحاجب عن أبي الحسين البصري .

                                                      التاسع : أن يكون في الجمل ، فإن كان في المفردات عاد للجميع اتفاقا ونقله ابن القشيري عن اختيار إمام الحرمين ، ومثله بقولك : أكرم زيدا وعمرا وبكرا إلا من فسق منهم . ويؤخذ من كلام إمام الحرمين في " البرهان " وابن الحاجب في جواب شبهة الخصم : أن ذلك محل وفاق ، وحينئذ فتعبير أصحابنا بالجمل ليس للتقيد ، وإنما جرى الغالب . نعم نص الشافعي على أنه إذا قال : أنت طالق طلقة وطالقة إلا طلقة ، أنها تطلق ثنتين ، فجعل الاستثناء لما يليه في المفردات .

                                                      ومن المهم معرفة المراد بالجملة في هذا الموضوع ، فالمشهور أنها المركبة من الفعل والفاعل ، أو المبتدأ والخبر . وخالف في ذلك ابن تيمية ، وقال : إنما المراد بها اللفظ الذي فيه شمول ، ويصح إخراج بعضه ، ولهذا ذكروا من صورها الأعداد واحتج بآية المحاربة { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } إلى قوله : { إلا الذين تابوا } قال : وإنما هي من الجملة بالمعنى الذي فسرناه ، وبما روى الصحابة ، أن [ ص: 426 ]

                                                      قوله : { إلا الذين تابوا } في آية القذف عائد إلى الجملتين . وقوله عليه السلام : { لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه } .

                                                      العاشر : أن يكون الاستثناء متأخرا على ظاهر عباراتهم بالتعقيب ، لكن الصواب أن ذلك ليس بشرط ، والخلاف جار في الجميع كما صرح به الرافعي في كتاب " الأيمان " ، وقد سبق التنبيه عليه في الشرط الأول .

                                                      وقد صرح القفال في فتاويه " بعود الصفة السابقة إلى الجميع ، فقال فيما إذا وقف على محاويج حتى يستحقوا ، لأنه معطوف على محاويج أقاربه : والمحاويج هم الذين يكون لهم حاجة بحيث يجوز لهم أخذ الصدقة . انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية