الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كان الصيد غير مأكول نظرت فإن كان متولدا بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل كالسمع المتولد بين الذئب والضبع والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل فحكمه حكم ما يؤكل في تحريم صيده ووجوب الجزاء ; لأنه اجتمع فيه جهة التحليل والتحريم فغلب التحريم كما غلبت جهة التحريم في أكله وإن كان حيوانا لا يؤكل ولا هو متولد مما يؤكل فالحلال والحرام فيه واحد لقوله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } فحرم من الصيد ما يحرم بالإحرام وهذا لا يكون إلا فيما يؤكل وهل يكره قتله أو لا يكره ؟ ينظر فيه فإن كان مما يضر ولا ينفع كالذئب والأسد والحية والعقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور والبق والبرغوث والقمل والقرقش والزنبور فالمستحب أن يقتله ; لأنه يدفع ضرره عن نفسه وعن غيره وإن كان مما ينتفع به ويستضر به كالفهد والبازي فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة ولا يكره لما فيه من المضرة وإن كان مما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان وبنات وردان فإنه يكره قتله ولا يحرم ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) السمع - بكسر السين - والضبع اسم للأنثى ( وأما ) الذكر فيقال له ضبعان - بكسر الضاد وإسكان الباء - والفأرة مهموزة ويجوز تخفيفها بترك الهمزة والحدأة - بكسر الحاء - وبعد الدال همزة وجمعهما حدأ كعنبة وعنب والبرغوث - بضم الباء - والقرقش - بقافين مكسورتين - قال الجوهري : هو البعوض الصغار قال : ويقال : الجرجس - بجيمين مكسورتين - وقيل : إنه نوع من البق ( وأما ) البازي ففيه ثلاث لغات - تخفيف الياء وتشديدها - والثالثة باز بغير ياء [ ص: 335 ] أفصحهن البازي بالياء المخففة ولغة التشديد غريبة وممن حكاها ابن مكي وأنكرها الأكثرون وقد أوضحت ذلك مع ما يتعلق به من جمع الكلمة وتصريفها في تهذيب اللغات أما الأحكام فنمهد قبلها بحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور } رواه البخاري ومسلم وفي رواية لهما : { فيقتلن في الحل والحرام } وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور } رواه البخاري ومسلم وفيه رواية لمسلم : { في الحرم والإحرام } وفي رواية لمسلم : { خمس من قتلهن وهو محرم لا جناح عليه } وفي رواية عن زيد بن جبير قال : { سأل رجل ابن عمر ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم ؟ قال : حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأر والعقرب والغراب والحية } قال : وفي الصلاة أيضا والله أعلم وعن أبي سعيد الخدري { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم قال : الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي } رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم وهو من رواية يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف جدا وقد قال الترمذي : إنه حديث حسن فإن صح حمل قوله : ويرمي الغراب ولا يقتله على أنه لا يتأكد ندب قتله كتأكده في الحية والفأرة والكلب العقور والله أعلم .

                                      وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 336 ] قال { : الوزغ فويسق - ولم أسمعه أمر بقتله } رواه البخاري ومسلم وعن أم شريك رضي الله عنها { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ } رواه البخاري ومسلم وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : { أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ وسماه فويسقا } رواه مسلم وعن طارق بن شهاب " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر المحرم بقتل الزنبور " رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن الجبير أنه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرد بعيرا له في طين بالسقيا وهو محرم " رواه مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي بإسناد صحيح والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : ما ليس مأكولا من الدواب والطيور ضربان : ( أحدهما ) ما ليس في أصله مأكولا ( والثاني ) ما أحد أصليه مأكول فالأول لا يحرم التعرض له بالإحرام فيجوز للمحرم قتله ولا جزاء عليه وكذلك يجوز قتله للحلال والمحرم في الحرم ولا جزاء عليه للأحاديث السابقة قال أصحابنا : وهذا الضرب ثلاثة أقسام : ( أحدها ) ما يستحب قتله للمحرم وغيره وهي المؤذيات كالحية والفأرة والعقرب والخنزير والكلب العقور والغراب والحدأة والذئب والأسد والنمر والدب والنسر والعقاب والبرغوث والبق والزنبور والقراد واللكة والقرقش وأشباهها ( القسم الثاني ) ما فيه نفع ومضرة كالفهد والبازي والصقر ونحوها فلا يستحب قتلها ولا يكره لما ذكره المصنف قال القاضي : نفع هذا الضرب أنه يعلم للاصطياد وضرره أنه يعدو على الناس والبهائم ( الثالث ) ما لا يظهر فيه نفع ولا ضر كالخنافس والدود والجعلان والسرطان والبغاثة والرخمة والعضاء واللحكاء والذباب وأشباهها فيكره قتلها ولا يحرم هكذا قطع به المصنف والجمهور وحكى إمام الحرمين [ ص: 337 ] وجها شاذا أنه يحرم قتل الطيور دون الحشرات ودليل الكراهة أنه عبث بلا حاجة وقد ثبت في صحيح مسلم عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا } إلى آخره وليس من الإحسان قتلها عبثا وروى البيهقي عن قطبة بن مالك الصحابي رضي الله عنه قال " كان يكره أن يقتل الرجل ما لا يضره " قال أصحابنا : ولا يجوز قتل النحل والنمل والخطاف والضفدع وفي وجوب الجزاء بقتل الهدهد والصرد خلاف مبني على الخلاف في جواز أكلهما إن جاز وجب وإلا فلا واستدل البيهقي وغيره في المسألة بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن قتل أربع من الدواب : النملة والنحلة والهدهد والصرد } رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله - تعالى - إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح } رواه البخاري ومسلم والله أعلم .

                                      ( وأما ) الكلب الذي ليس بعقور فإن كان فيه منفعة مباحة فقتله حرام بلا خلاف وإن لم يكن منفعة مباحة فالأصح أنه يحرم قتله وقيل : يكره والأمر بقتل الكلاب منسوخ وقد سبقت المسألة مستوفاة في باب إزالة النجاسة وسنعيدها واضحة إن شاء الله - تعالى - حيث ذكر المصنف مادتها في باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز ( أما ) القمل فقتله مستحب في غير الإحرام بلا شك ; لأنه في معنى المنصوص عليه في الأحاديث السابقة [ ص: 338 ] وأما ) في حال الإحرام فإن ظهر على ثياب المحرم أو بدنه فلا يكره له تنحيته ولا يحرم عليه قتله فإن قتله فلا شيء فيه ; لأنه ليس مأكولا قال الشافعي والأصحاب : ويكره أن يفلي رأسه ولحيته فإن فعل وأخرج منها قملة وقتلها قال الشافعي : تصدق ولو بلقمة قال جمهور الأصحاب : هذا التصدق مستحب وحكى القاضي حسين في تعليقه وإمام الحرمين وآخرون وجها شاذا ضعيفا أنه واجب لما فيه من إزالة الأذى عن الرأس قال القاضي حسين : ولو جعل الزيت في رأسه فمات القمل والصئبان ففي وجوب الجزاء هذان الوجهان هذا إذا جعله في شعر رأسه أو لحيته بعد الإحرام قال الشافعي والأصحاب : قالوا جميعا : فإن جعله قبل الإحرام فلا فدية قطعا لا واجبة ولا مستحبة قال الشافعي : وللصئبان حكم القمل وهو بيض القمل لكن فديته أقل من فدية القمل لكونه أصغر منه قال أصحابنا : وحقيقة الفدية ليست للقمل بل للترفه بإزالة الأذى عن الرأس فأشبه حلق شعر الرأس ( الضرب الثاني ) ما في أصله مأكول كالمتولد بين ذئب وضبع أو حمار وحش وإنس فيحرم التعرض له ويجب الجزاء لما ذكره المصنف ويلحق بهذا الضرب ما تولد من صيد وحيوان أهلي كمتولد بين ضبع وشاة ودجاجة ويعفور ونحو ذلك فيحرم على المحرم التعرض له ويضمنه بالجزاء لما ذكرناه في المتولد بين مأكول وغيره وهذا كله لا خلاف فيه والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال الشافعي : فإن أتلف حيوانا وشك هل هو مأكول أم لا ؟ أو شك هل خالطه وحشي مأكول أم لا ؟ لم يجب الجزاء ; لأن الأصل براءته ولكن يستحب احتياطا واتفق الأصحاب على هذا وكذلك البيض كالحيوان عند الشك والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية