الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن نافع عن ابن عمر قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ) زاد مسلم من رواية الليث وغيره (مخافة أن يناله العدو) .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الثالث عشر .

                                                            وعن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو . (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه الشيخان ، وأبو داود ، وابن ماجه من طريق مالك ، وزاد في رواية ابن ماجه مخافة أن يناله العدو ، وفي رواية أبي داود : قال مالك : أراه مخافة أن يناله العدو ، وأخرجه مسلم ، والنسائي ، وابن ماجه من طريق الليث بن سعد بزيادة مخافة أن يناله العدو ، وأخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني بلفظ لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله [ ص: 217 ] العدو ، ومن طريق الضحاك بن عثمان بلفظ مخافة أن يناله العدو ، وعلقه البخاري من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر ، ومن طريق ابن إسحاق ستتهم عن نافع عن ابن عمرو قال أبو بكر البرقاني لم يقل كره إلا محمد بن بشر ، ورواه أبو همام عن محمد بن بشر كذلك ، ورواه عن عبيد الله بن عمر جماعة فاتفقوا على لفظة النهي ، وقال ابن عبد البر هكذا قال يحيى بن يحيى ، والقعنبي ، وابن بكير ، وأكثر الرواة يعني بلفظ قال مالك أراه مخافة أن يناله العدو ، ورواه ابن وهب عن مالك فقال في آخره خشية أن يناله العدو ، وفي سياقة الحديث لم يجعله من قول مالك (قلت) وتقدم أنه في سنن ابن ماجه من رواية مالك في نفس الحديث ، وهو عنده من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك قال : وكذلك قال عبيد الله بن عمر ، وأيوب ، والليث ، وإسماعيل بن أمية ، وليث بن أبي سليم ، وإن اختلفت ألفاظهم قال : وهو صحيح مرفوع

                                                            وقال القاضي عياض في الرواية المشهورة عن مالك يحتمل أنه شك هل هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ، وقد رويت عن مالك متصلا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كرواية غيره من رواية عبد الرحمن بن مهدي ، وعبد الله بن وهب .

                                                            وقال النووي هذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك .

                                                            (الثانية) فيه النهي عن السفر بالقرآن ، والمراد به المصحف إلى أرض العدو ، وهذا محتمل للتحريم والكراهة ، وفي لفظ مسلم لا تسافروا بالقرآن ، وظاهر هذا اللفظ التحريم ، ولفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله (كره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) وظاهره التنزيه فقط ، وقد بوب عليه البخاري (باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو) وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتابعه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه في أرض العدو ، وهم يعلمون القرآن انتهى .

                                                            وفي بعض نسخه باب السفر بدون ذكر الكراهة ، وقد اعتمد في الكراهة على لفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر ، وقد عرفت من كلام البرقاني أن المشهور لفظ النهي على أن لفظ الكراهة يحتمل التحريم أيضا ، وقال ابن عبد البر أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالقرآن إلى .

                                                            [ ص: 218 ] أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه ، واختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه فلم يفرق مالك بين الصغير والكبير ، وقال أبو حنيفة لا بأس في السفر بالعسكر العظيم ، وقال النووي في شرح مسلم إن أمنت العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهر عليهم فلا كراهة ، ولا منع حينئذ لعدم العلة هذا هو الصحيح ، وبه قال أبو حنيفة والبخاري ، وآخرون ، وقال مالك ، وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا ، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا ، والصحيح عنه ما سبق انتهى ، وقول البخاري رحمه الله قد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أرض العدو ، وهم يعلمون القرآن إن قصد به معارضة النهي عن ذلك فلا تعارض بينهما لأن النهي عن ذلك في المصحف لئلا يتمكنوا منه فينتهكوا حرمته ، وليس آدميا يمكنه الدفع عن نفسه بخلاف ما في صدور المؤمنين من القرآن فإنهم عند العجز عن المدافعة عن أنفسهم لا يعد المهين لهم مهينا للمصحف لأن الذي في صدورهم أمر معنوي ، والذي في المصحف مشاهد محسوس ، والله أعلم .



                                                            (الثالثة) يستنبط منه منع بيع المصحف من الكافر لوجود المعنى فيه ، وهو تمكنه من الاستهانة به ، ولا خلاف في تحريم ذلك ، ولكن هل يصح لو وقع ، اختلف أصحابنا فيه على طريقين (أحدهما) القطع ببطلانه (والثاني) إجراء الخلاف الذي في بيع العبد المسلم للكافر فيه ، والفرق بينهما على عظم حرمة المصحف ، وأنه لا يمكنه دفع الذل عن نفسه بالاستعانة بخلاف العبد .

                                                            (الرابعة) في صحيح مسلم عن أيوب السختياني أنه قال بعد رواية الحديث : فقد ناله العدو خاصموكم به يعني به أنكم لما خالفتم ما قال لكم نبيكم فمكنتم عدوكم من المصحف نالوه وتوجهت حجتهم عليكم من حيث مخالفتكم نبيكم ، وأيضا فلما وقفوا عليه وجدوا فيه ما يشهد عليكم بالمخالفة مثل قوله إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآيتين ، وغير ذلك من الآيات التي ترك العمل بها .



                                                            (الخامسة) قال ابن عبد البر واختلفوا في هذا الباب في تعليم الكافر القرآن فمذهب أبي حنيفة أنه لا بأس بتعلمه القرآن والفقه ، ولو كان حربيا ، وقال مالك لا يعلمون [ ص: 219 ] القرآن ، وعن الشافعي روايتان إحداهما الكراهة ، والثانية الجواز .

                                                            (السادسة) قال ابن عبد البر أيضا كره مالك ، وغيره أن يعطى الكافر درهما أو دينارا فيه سورة أو آية من كتاب الله تعالى قال : وما أعلم في هذا خلافا إذا كانت آية تامة أو سورة ، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم إذا كان في أحدهما اسم من أسماء الله تعالى فأما الدراهم التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن عليها قرآن ، ولا اسم الله ، ولا ذكر لأنها كانت من ضرب الروم ، وغيرهم من أهل الكفر ، وإنما ضربت دراهم الإسلام في أيام عبد الملك بن مروان قال النووي واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب لهم كتابا فيه آية أو آيات ، والحجة فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل .




                                                            الخدمات العلمية