المقدمـة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد: فهذا كتاب مفتوح إلى شعوب الأمة الإسلامية عامة، التي خصها الله بالشهادة على الأمم السابقة يوم البعث وقيام الأشهاد، كتاب لا يدعي أن فيه فصل الخطاب، بقدر ما هـو محاولة صادقة لتحديد مسار للتقدم والنهوض، بعد أن تعددت بالمسلمين الطرق، وتاهت بهم خطاهم بين اليمين واليسار، والشرق والغرب، فقد آن لهم أن يتأكدوا أن عماد نهضتهم، وسند تقدمهم هـو إيمانهم المطلق، بأن لا هـادي لهم من الله إلا كتابه وسنة نبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وأن لا ملجأ لهم من الله إلا إليه.
جرب المسلمون في الخمسين سنة الأخيرة ـ حتى لا نوغل في التاريخ، وحتى يكون الحديث من واقع مشاهدات الجيل الحاضر ـ شتى السبل، ومختلف الطرق، لكي ينهضوا ويستعيدوا مجدهم التليد، ونشط المنظرون والمفكرون من رجال العلم والسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرهم في رسم المسارات، وتحديد المتطلبات، ووضع الاشتراطات، وتراكمت الخطط، وتعددت الرؤى، وتفرقت السبل، حتى لكأننا نشهد مبارزة حامية الوطيس، استهدفت تجاذب الأمة بشعوبها المتعددة بين النظريات، و " الأيدولوجيات " .
الكل مجتهد في تحسين بضاعته، والكل جاد في عرض أفكاره، فمن منكفئ لا يرى أبعد من أنفه، ولا يشعر بفعل الزمن من حوله، إلى " ليبرالي " متحرر يسعى إلى التبعية الحضارية، بانسلاخ تام من ذاته، [ ص: 21 ] وهروب كامل من تراثه، إلى علماني متعسف يستعدي العالم على دينه وتراث أمته، إلى يساري مخدوع سجن نفسه وعقله في فكر غيره، ولبس رداء سواه.
كان هـذا حال الأمة لا يتغير ولا يتبدل، والمسلم العادي يرقب بحذر وريبة تارة، وبحسن الظن، وطيب سريرة، تارة أخرى، لكنه ـ على أي حال ـ فقد الثقة أو كاد في كل ما سمع ويسمع، وأخذ يبحث بجدية وحزم وإصرار عمن يهديه إلى طريق الرشد، ويصرفه عن طرق التيه، ويخرجه من محنته مع حضارة عصره.. فقد طال انتظاره.
ثم كان أن توالت النكبات والأزمات والهزائم والنكسات على الأمة، بأيدي من وعدوها بالتقدم والنهضة والتطور، إن هـى سارت في طريقهم، والتحقت بركابهم، واعتنقت مبادئهم، والتزمت بمنهجهم. لقد امتحن الله صبر أمتنا، وقوة تمسكها بعقيدتها بأن سلط عليها من أبنائها لفترة من الزمن بعض تجار المبادئ المنحرفة، ومروجي العقائد الضالة، وسدنة الأيدولوجيات الهدامة، تسلط وعظ وإرشاد، وتنبيه وتحذير وإيقاظ، فجربوا فيها، وعليها، وبها، أفكارهم وضلالاتهم كلها، فلم يفلحوا في زحزحتها عن دينها، وظلت متمسكة به، رغم التعسف والظلم والطغيان والضلال.
واكتشف المسلم ذاته، وعرف طريقه، وظهرت ملامح صحوة إسلامية فطرية، وعفوية طبيعية، وتلقائية مدهشة، ما كان للفئات الخاذلة والجماعة المضلة، أن تترك لهذه الملامح أن تنضج، وللنور أن ينبثق، وللصحوة أن تنشط، فأخذت تشوه ما فيها من صدق العودة إلى الله، وحسن الالتزام بحبله عن عمد وتربص، ولكن الله غالب على أمره.
فظل الضمير المسلم يقظا يرقب، وحيا يشاهد، يرقب الأحداث تمور من حوله، ويشاهد الأحوال تمر من أمامه، حتى وإن غاب الرشد، وازداد التيه، وسوف يظل هـكذا يتنامى في حيويته، ويتعمق بنظرته باحثا عن المخرج.
والحديث هـنا بطبيعة الحال عن الضمير الملتزم بإطلاق اللفظ؛ لأن [ ص: 22 ] الالتزام في الحياة هـو زاد مسيرتها، ونبراس طريقها، ونعنى بالالتزام: التمسك بهدي الله، وباتباع ما أمر، والكف عن ما نهى.
ونحسب أن في هـذا الكتاب إصرارا على اصطحاب الأمة للصالح من قيمتها والمستقيم من مبادئها معها، وهي تسير في مشوارها الحضاري، نحو مبتغاها من التقدم والنهضة والسمو، وحرصا على تمسك الأمة بجوهر الحضارة ومعدنها، والزهد في قشورها ومظهرها؛ لأن الإصرار على قيم الإسلام ومبادئه عصمة من الله للأمة من الزلل، وفي الحرص على جوهر الحضارة ومعدنها ملاذا للأمة من الخطأ والسقوط.
يبدأ الكتاب في فصله الأول، بشرح لطبيعة الضغط الحضاري الذي تتعرض له أمتنا، وتخضع له باستجابة عجيبة، مع رصد لوسائله، وتوضيح لطرق تسربه، وقنوات انسيابه في مجتمعاتنا تمهيدا لتعريف ما أسميناه بـ " محنة المسلم مع حضارة عصره " .
في الفصل الثاني حيث حددت دوائر المحنة التي تأخذ بخناق مجتمعاتنا، وشروط الخروج منها.
وفي الفصل الثالث، طرحنا سؤالا هـاما، هـو عنوان الفصل: هـل إلى خروج من سبيل؟ بقصد الإجابة عليه، وهو محاولة لرسم طريق النهوض والتطور، وهو اجتهاد لتحديد كيفية البدء وفلسفته، مع استحضار تراث أمتنا الناصع، بصفحاته المشرقة، في هـذا المضمار، الأمر الذي من شأنه أن يقوي العزيمة، ويشد الأزر، مع التأكيد على أن الحضارة المعاصرة، اتخذت من تقنياتها المتقدمة، وخدماتها المتطورة، ومنتوجاتها المتنوعة،، وأنظمتها المبدعة، أسلحة قوية وفتاكة للسيطرة على الشعوب النامية، التي تأتي شعوب أمتنا الإسلامية في المقدمة منها، وليس لنا من بديل سوى المزاحمة في كل ذلك، آخذين في الاعتبار أن التقنية هـي وقود الحركة، وزاد الطريق، وقد اقتضى الأمر التوسع جزئيا في دارسة واقع التقنية في مجتمعاتنا، والتأثيرات المتعددة التي تساعد على نموها واضطرادها، والسلبيات المختلفة التي مازالت تقف عائقا [ ص: 23 ] أمام انطلاق مركبتها، فاستحقت بهذا أن تستقل بالفصل الرابع كاملا للحديث عن استنبات التقنية المتطورة في مجتمعاتنا وتنميتها. يحمل هـذا الفصل قناعة ذاتية ثابتة بأن التقنية لا تنقل بشراء المعدات والأجهزة، والمراجع والكتب مهما أغدقت شعوبنا عليها من المال، ولكنها معاناة، ومجاهدة، والتزام، وإصرار، وثبات من جميع قطاعات المجتمع، ثم أعقب هـذا التدليل على ذلك بتجارب الأمم اليابانية، والغربية والأوروبية منها على وجه الخصوص، التي سبقتنا في مضمار التقدم التقني، لاستخلاص العبر منها، ثم تلا هـذا تعداد ضروريات وأسس استنبات التقنية المعاصرة، واستيعابها مع ذكر الشروط اللازمة لتحقيقها.
أما الفصل الأخير، فهو اقتراح منهج للخروج بأمتنا من المحنة الحضارية، وتحديد الركائز التي تعد بحق عدة الخروج، إذا ما عقدت الأمة العزم عليه.
وبعد: فما كان لهذا الكتاب أن يجد مكانه بين يدي القارئ بهذه الصورة، التي هـو عليها ـ والتي أرجو الله أن يكون حسنة تحسب في موازين، كاتبها، وأن يجد لدى القارئ القبول، فيقبل عليه بحسن الظن الذي تجمعت به أفكاره ورتبت به فصوله ـ أقول: ما كان لهذا الكتاب أن يظهر، لولا الشعور والمعايشة، لما تكابده أمتنا المسلمة من ألم ومعاناة، تكاد تصل إلى مرحلة الإحباط، لولا استشراف الرجاء في الله، ثم الثقة في قدرة أمتنا على النهوض من كبوتها، واستعادة أمجادها، وسلطان قوتها بالإيمان والعلم، الإيمان بالله، ثم العلم النافع.
ويظل هـذا الكتاب في اعتقاد مؤلفه بداية على الطريق الشاق، طريق النهضة والتقدم الذي نسأل الله أن يعين أمتنا على السير عليه بزاد يقينها، وصدق معرفتها، والله يتولانا جميعا بفضله، ويشملنا برحمته وهو من وراء القصد.
الظهران: غرة ربيع الآخر 1409هـ
10 نوفمبر 1988م
الدكتور: محمود محمد سفر [ ص: 24 ]