السؤال
يكثر الحديث بين الشباب ـ وخاصة أهل المساجد ـ في مسائل السنة والبدعة والاستحسان ومنها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل جميع المباحات، لأنها كثيرة لا يستطيع بشر أن يستوعبها عدا، فضلا عن أن يتناولها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان زاهدا متقللا يترك ما زاد على ذلك.
وفي الصحيحين عن خالد بن الوليد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقيل: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته فأكلته، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر.
وفي الحديث دليل على القاعدة الأصوليه: أن ترك الشيء، لا يقتضى تحريمه.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل جميع المندوبات، لاشتغاله بمهام عظام استغرقت معظم وقته: تبيلغ الدعوة، ومجادلة المشركين والكتابين، وجهاد الكفار، لحماية بيضة الإسلام، وعقد معاهدات الصلح والأمان والهدنة وإقامة الحدود، وإنفاذ السرايا للغزو، وبعث العمال لجباية الزكاة، وتبليغ الأحكام، وغير ذلك مما يلزم لتأسيس الدولة الإسلامية وتحديد معالمها ـ بل ترك صلى الله عليه وسلم بعض المندوبات عمدا، مخافة أن تفرض على أمته، أو تشق عليهم إذا هو فعلها.
ولأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالنصوص العامة الشاملة للمندوبات بجميع أنواعها منذ جاء الإسلام، إلى قيام الساعة، مثل: وما تفعلوا من خير يعلمه الله.
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا.
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره.
وجاءت الأحاديث النبوية، على هذا المنوال.
قال الحافظ بن رجب في شرحه: والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة.
وأن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة؟ قال ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا ـ في ساعة ليل أو نهار ـ إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: يستفاد منه جواز الاجتهاد في توقيت العبادة، لأن بلالا توصل إلى ما ذكرنا بالاستنباط.
وعن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤذنه بالصبح، فوجده راقدا فقال: الصلاة خير من النوم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أحسن هذا، اجعله في أذانك.
وأخرج البخاري من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح: قل هو الله أحد ـ حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أخبروه الخبر، فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ فقال: إني أحبها ـ فقال: حبك إياها أدخلك الجنة.
فهذا اجتهاد من الصحابي أقره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه عمل خيرا.
وفي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي يوما وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده ـ فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد: حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ـ فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: واستدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان لا يخالف المأثور.
وفي صحيح البخاري قصة قتل خبيب، وصلاته ركعتين قبل قتله، قال: وهو أول من سن صلاة ركعتين عند القتل.
والسؤال هو: لماذا يكثر العلماء من قولهم: العمل الفلاني لم يكن معروفا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، أو أن العمل الفلاني لو كان فيه خير لما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، وهم أحرص الناس على الخير، وما شابه ذلك، رغم الأدلة السابقة التي تدل على الاجتهاد في كل ما هو خير ولو لم يكن عليه دليل من الكتاب والسنة، ويكفي أن له أصلا ما لم يخالف الشرع؟.