الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الشفقة على العصاة والمذنبين لا يعني الرضا بفعلهم

السؤال

لدي تعليق على إجابتك السابقة يا والدي، كيف لا يكفر من يفرح بتعطيل شرع الله؟ وأرجو أن لا تقول لي أنت موسوسة لأنها والله حقيقة أشعر بها وأستغفر الله، كيف لا أكفر وأنا لا أتمنى أن يقام التعزير يا شيخ ؟
أنا خائفة كثيرا يا شيخ ادع الله لي بالهداية وحسن الخاتمة، ولدي شبهة يا شيخ فقد أصبح يوسوس لي الشيطان أنه إذا عزر العصاة فيفوتني أجر النهي عن المنكر لأن الناس سيجتنبون المعاصي، أرجو الرد على هذه الشبهة يا شيخ؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فنسأل الله تعالى أن يهديك لأرشد أمرك، وأن يقيك شر نفسك، وأن يلهمك رشدك ..

فنحن لا نشك في ردة وحبوط عمل من يكره شريعة الله تعالى حقيقة، وكذلك المنافقين الذي يمالئون هذا النوع من الناس ويناصحونهم ويرضون بحالهم، فقد قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ. {محمد: 9،8}.

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. {محمد:26،25}.

ولكن الذي نود أن تنتبه له السائلة الكريمة ـ عافاها الله ـ أن حالها الذي تذكره الآن والذي ذكرته من قبل في أسئلتها السابقة ـ ليس فيه شيء من هذا الوصف، بحمد الله. فليس فرحها بتعطيل شرع الله أبدا، وإنما فرحها من باب الشفقة على المذنبين ورجائها في توبتهم. فحقيقة هذا الشعور إنما هو محبة صادقة لشرع الله، ورغبة خالصة في تطبيق الناس له والتزامهم به واستقامتهم عليه. على عكس ما تتصوره السائلة. ومما يبين ذلك أننا نتصور أن الأمر لو كان بيدها لسعت في كل ما من شأنه أن يطبق الشرع وأن يقبل الناس عليه محبة والتزاما.

ونقرب للسائلة هذا الأمر بمثال من كتاب الله تعالى، وهو قوله عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. {النور: 2}.

فهل لو رأينا زانيا يُرجم، فرحمناه ورقت له قلوبنا رأفة وشفقة، فهل نكون بذلك خالفنا أمر الله تعالى، ولم نحقق الإيمان المطلوب ؟؟ والجواب: أن ذلك ليس كذلك، وإنما المراد بالرأفة المنهي عنها الرأفة التي تحمل على ترك إقامة الحد أو تخفيفه بعد ثبوته.

قال ابن كثير: قوله: { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } أي: في حكم الله. لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية ألا تكون حاصلة على ترك الحد، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد، فلا يجوز ذلك. اهـ.

وقال البغوي: الرأفة معنى في القلب، لا ينهى عنه لأنه لا يكون باختيار الإنسان. اهـ.

ونزيد الأمر وضوحا فنذكر للسائلة حديث ماعز الأسلمي فإنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني. فرده، فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله إني قد زنيت. فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى. فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم. رواه مسلم.

وفي رواية لهذه القصة أن ماعزا رضي الله عنه لما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فر حين وجد مس الحجارة ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه. رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وصححه الألباني.

فهل معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يكره إقامة حد الله تعالى على الزاني ؟! والجواب: أنه لا يكره ذلك من غير ريب. ولكنها الشفقة على خلق الله، والرغبة في حصول توبتهم. وهذا هو ما تفرح به السائلة وتتمناه، كما سبق أن ذكرت ذلك وأجبناها في الفتوى رقم: 134576. ولذلك فإنا نكرر ونلح في نصيحة الأخت السائلة بأن تطرح عن نفسها هذه الوسوسة ولا تجعل للشيطان عليها سبيلا.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني