الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في أن الهداية وتوفيق العبد للخير، من فضل الله تعالى عليه ورحمته به، وقد ييسر الله تعالى بواسع رحمته وعظيم فضله الهداية لمن قصر في طلبها وتغافل عنها، كما سبق أن بيناه في الفتوى رقم: 157985.
وهذا لا يتعارض مع كون العبد يمكنه أن يتوسل إلى ذلك بتعرضه لرحمة الله وفضله، وذلك بالاجتهاد في طاعته سبحانه، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {المائدة: 35}.
قال الشنقيطي في أضواء البيان: اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، بإخلاص في ذلك لله تعالى، لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة، وأصل الوسيلة: الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه، وهي العمل الصالح بإجماع العلماء، لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {العنكبوت: 69}.
قال ابن القيم في الفوائد: علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا، وأفرض الجهاد: جهاد النفس وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد. اهـ.
وقد يحول العبد بين نفسه وبين الخير، بإعراضه وغفلته وتفريطه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كثير من خطأ بني آدم من تفريطهم في طلب الحق لا من العجز التام. اهـ.
وقال في موضع آخر: إذا ألهم العبد أن يسأل الله الهداية ويستعينه على طاعته، أعانه وهداه، وكان ذلك سبب سعادته في الدنيا والآخرة، وإذا خذل العبد فلم يعبد الله، ولم يستعن به، ولم يتوكل عليه، وكل إلى حوله وقوته، فيوليه الشيطان، وصد عن السبيل، وشقي في الدنيا والآخرة، وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره، لا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ، وليس لأحد على الله حجة، بل: فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ـ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل. اهـ.
وراجع للفائدة الفتويين رقم: 150809، ورقم: 95359.
فللهداية والتوفيق أسباب، وكذلك للغواية والضلالة أسباب، ومن أسباب الضلال: ذهاب العلم وأهله، وتصدر الجهال للفتوى، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر في فتح الباري: بفقدهم تنتفي القدرة والتمكن من الاجتهاد، وإذا انتفى أن يكون مقدورا لم يقع التكليف به. اهـ.
وفي هذه الحال قد يعذر المستفتي إذا عمل بفتوى الجاهل، وهو الذي يتحمل الإثم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
قال القاري في مرقاة المفاتيح: يعني: كل جاهل سأل عالما عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل، فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانه، فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده. اهـ.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: المعنى: من أفتاه مفت عن غير ثبت من الكتاب والسنة والاستدلال، كان إثمه على من أفتاه بغير الصواب، لا على المستفتي المقلد. اهـ.
والجهل ـ في الجملة ـ عذر من الأعذار التي ترفع المؤاخذة عن صاحبه، ولا سيما عند انتشاره وخفاء الأحكام الشرعية وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 166799، 149471، 242329.
ولهذا السبب وغيره، فليس كل من أراد الحق وطلبه أدركه، فقد يفوت طالبَ الحق العلمُ به بسبب التقليد أو الجهل أو غيره من الأسباب، وقد قال عبد الله بن مسعود لأناس من التابعين اجتمعوا في المسجد يذكرون الله على هيئة مخصوصة لم تثبت في السنة، فاعتذروا بقولهم: ما أردنا إلا الخير! فقال لهم: وكم من مريد للخير لن يصيبه. رواه الدارمي وصححه الألباني.
والله أعلم.