السؤال
أود الاستفسار عن أمر أعلمه، ولكنني أريد الأدلة ليزداد تأكدي من هذا الأمر: حصل نقاش مع أحد الإخوة الشباب الذي كان ملتزما جدا فيما مضى ثم انتكس وتغير تفكيره ليس من ناحية الصلاة والطاعة، بل من هذه الناحية ـ والحمد لله ـ ما زال ملتزما، ولكنه بدأ يستمع إلى الموسيقى ثم قال إن الموسيقى حلال، وقال صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث له وهو عن آخر الزمن: يستحلون الحر والحرير والخمر والمعارف ـ فهذا الحديث قد نسخه الله واستبدل هذا الحديث بقول الله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ـ ويقول لك أعلم أن لهو الحديث هو الغناء ولكن يقول الله: ليضل عن سبيل الله، ونحن نسمع الأناشيد والأغاني الشعبية التي بها الموسيقى والألحان ونحن لا نضل عن سبيل الله، ويقول لو كان حراما ما هناك مقرؤون يقرؤون القرآن وينشدون، وأناشيدهم ممتلئة بالموسيقى والألحان ولا أريد أن أسمي أحدا بالاسم، لا أريد جوابا مختصرا بأن الموسيقى حرام، لأن هذا الجواب لن يفيدني، لأنني أعلم أنها حرام، ولكنني أريد الأدلة من القرآن والسنة ورأي العلماء، وأريد ردا مفصلا.
وشكرا لكم.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمعروف من مذاهب الأئمة تحريم آلات الملاهي والمعازف كلها، إلا أشياء مخصوصة جرى استثناؤها في حالات خاصة، كالدف في العرس، وطبل الغزاة والصيادين والقافلة، ففي هذه الأشياء خلاف وتفصيل بين المذاهب، وأما ما عداها فقد حكى الإجماع على تحريمه جماعة من العلماء، وقد سبق لنا بيان ذلك، وذكر طرف من أدلته، ومن نقل الإجماع عليه، فراجع الفتاوى التالية أرقامها: 35708، 54316، 130531.
وأما حديث الحر والحرير: فقد استشكل بعضهم دلالته على تحريم المعازف، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 237118.
وأما دعوى نسخه بالآية: فمستنكرة، لأنه خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، كما هو مقرر عند أهل العلم! وراجع الفتويين رقم: 3715، ورقم: 95777.
وأما قوله تعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ـ في آية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ {لقمان: 6} فلا يستبين معناه إلا بمعرفة معنى اللام في قوله: ليضل ـ فإنه للعاقبة وليست للتعليل! هذا مع ضرورة الاستضاءة بتفسير الصحابة والتابعين للآية، ومعرفة علة تحريم الغناء، قال الشيخ الألباني في كتاب: تحريم آلات الطرب ـ وردت آثار كثيرة عن السلف من الصحابة وغيرهم تدل على حكمة التحريم وهي أنها تلهي عن ذكر الله تعالى وطاعته والقيام بالواجبات الشرعية، مقتبسين ذلك من تسمية الله تعالى إياه بـ: لَهْوَ الْحَدِيثِ، في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ـ وأنها نزلت في الغناء ونحوه، فأذكر منها ما ثبت إسناده إليهم ـ فذكر تفسير ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ومجاهد والحسن البصري ـ ثم قال: ولهذا قال الواحدي في تفسيره الوسيط: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء، قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ ورد بالاشتراء، لأن هذا اللفظ يذكر في الاستبدال والاختيار كثيرا، ومن الآثار السلفية الدالة على حكمة التحريم: أولا: عن ابن مسعود قال: الغناء ينبت النفاق في القلب...
ثانيا: عن الشعبي قال: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع، وإن الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع...
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ عقب أثر ابن مسعود المتقدم: فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطبب الناس، فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله.. إلى أن قال: فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج في النفاق، وبالجملة، فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل الذكر والقرآن تبين لهم حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها، وبالله التوفيق. اهـ.
وبعد أن تبينت الحكمة في تحريم الغناء من الآثار المتقدمة وهي أنه يلهي عن طاعة الله وذكره، وهذا مشاهد وحينئذ فالملتهون به إسماعا واستماعا لكل منهم نصيبه من الذم المذكور في الآية الكريمة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... وذلك بحسب الالتهاء قلة وكثرة، وقد عرفت أن الاشتراء بمعنى الاستبدال والاختيار، مع ملاحظة هامة وهي أن اللام في قوله تعالى: لِيُضِلَّ ـ إنما هو لام العاقبة، كما في تفسيرالواحدي أي: ليصير أمره إلى الضلال، وكما قاله ابن الجوزي في زاد المسير، فليس هو للتعليل، كما يقول بعضهم، وله وجه بالنسبة للكفار الذين يتخذون آيات الله هزوا، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: إذا عرف هذا فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا، وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئا استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم فلهم حصة ونصيب من هذا الذم، يوضحه: أنك لا تجد أحدا عنى بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علما وعملا، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه، والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {المائدة: 41}.. اهـ.
وقد سبق لنا بيان أنواع الغناء وحكم كل نوع في الفتويين رقم: 5282، ورقم: 987.
كما سبق أن تعرضنا لمسألة الإجماع على تحريم المعازف في الفتويين رقم: 130531، ورقم: 54316.
والله أعلم.