السؤال
يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ـ إذا كان هذا الفاسق يقصد الإضرار، ونشر الأخبار الكاذبة ليؤذي بريئًا، وصدّقه الناس، ورفضوا تصديق المظلوم، وأدّى ذلك إلى سجن بريء، وظلمه، وسرقة أمواله، واتهامه في عرضه، بل قتله أحيانًا، والفاسق زيّن للناس ذلك، حتى فرحوا، وشمتوا في البريء، بل من كثرة الخداع، وما زرعه في أنفسهم من غل شاركوا في ظلم البريء بأنفسهم، فهل يعذرون بالجهل، وأنهم مخدوعون؟ وهل معنى الندم في قوله تعالى: فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ـ مجرد الندم المعنوي؟ أم يكونون مشاركين للفاسق في العقوبة؛ لأن تصديقهم له هو ما مكّنه من المظلوم، وكانوا سببًا في تقوية الظالم بجهلهم؟ وإذا كانوا معذورين، فهل يعذر من يتبع المسيح الدجال؛ لأنه سيخدع الناس بالمعجزات التي سيجريها الله على يديه؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز قبول خبر الفاسق، ولا شهادته، ولا يجوز أذية مسلم بموجب هذا الخبر، أو تلك الشهادة، ومن قبل خبر فاسق، وجعله ذريعة لأذية مسلم، أو النيل منه، أو أعان على ذلك وهو يعلم كون المخبر فاسقًا، فهو آثم متعرض للوعيد، قال القرطبي: ومن ثبتَ فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعًا؛ لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها، وقال الجصّاص: وقوله تعالى: فتبينوا ـ اقتضى ذلك النهي عن قبول شهادة الفاسق مطلقًا، إذ كان كل شهادة خبرًا، وكذلك سائر أخباره؛ فلذلك قلنا: شهادة الفاسق غير مقبولة في شيء من الحقوق. انتهى.
وكلام العلماء في هذا المعنى -وهو عدم جواز قبول شهادة الفاسق، وخبره- كثير جدًّا.
وإذا علم هذا، وتبين أن قبول خبر الفاسق، أو شهادته على مسلم بما يتضمن أذيته غير جائز، فمن قبل هذا الخبر، أو أعان على تلك الأذية، فهو آثم إن كان عالمًا بفسق المخبر، ثم الندامة المراد لحوقها بمن لم يتبين من صحة خبر الفاسق هي على ما قاله المفسرون ما يلحقه من الهم، والحزن بسبب إصابة بريء، قال القاسمي: في قوله تعالى: فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ـ فائدتان:
إحداهما: تقرير التحذير، وتأكيده، ووجهه هو أنه تعالى لما قال: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ـ قال بعده: وليس ذلك مما لا يلتفت إليه، ولا يجوز للعاقل أن يقول: هب أني أصبت قومًا، فماذا عليّ؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم، ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه.
والثانية: مدح المؤمنين، أي لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها، أفاده الرازيّ. انتهى.
وعلى كل حال؛ فمن تعمد قبول شهادة فاسق، وآذى مسلمًا أو أعان على ذلك بشهادته، فهو آثم متعرض للوعيد، وأما من ظن عدالة المخبر فقبل قوله لعدم قيام بينة على فسقه، فهذا لا إثم عليه؛ لأنه فعل ما شرع له، وإن كان هذا المخبر فاسقًا في نفس الأمر، وليس هذا من أمر المسيح الدجال في شيء؛ لأن المسيح الدجال ظاهر الضلالة، مكتوب بين عينيه كافر، يراها كل مؤمن، فلا يخفى أمر مثل هذا على من عنده مثقال ذرة من إيمان، وإنما يفتن به من هو غاو مثله، وأما قبول خبر فاسق قد يخفى فسقه، فليس من هذا الباب، على أن هنا مسألة وهي: هل تقبل شهادة مجهول الحال أو لا؟ فقبلها أبو حنيفة في غير الحدود ولم يقبلها الجمهور، واشترطوا العلم بالعدالة، وقول الجمهور أقرب؛ لقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ {البقرة:282}.
والمسألة مبسوطة في المطولات، كالمغني، ونحوه، فعلى قول أبي حنيفة، فإن من قبل شهادة مجهول الحال لظنه أنه عدل، فقد فعل ما يقتضيه الشرع، وعلى قول الجمهور، فلا يقبل إلا قول من علمت عدالته، فمن قبل شهادة من لم تعلم عدالته، فهو آثم مخالف للشرع.
والله أعلم.