الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالغاية التي يقترحها السائل لتحقيق العدل المطلق -أعني التسوية بين الخلق فيما يتعلق بأمور التسيير- لو تأملها؛ لعلم أنها تأتي على أصل الحكمة من وجود الخلق بالإبطال! وأنها تفسد نظام العالم، ولا يتصور معها انتظام أمور المعاش!!!
وذلك أن التفاوت الحاصل، والذي يؤثر على كسب العباد في الخير والشر، لا ينحصر في أمر الولادة، أو الديانة، بل يتعداه ليتناول كافة المؤثرات في اختيار العباد، كالغنى والفقر، والصحة والمرض، والذكورة والأنوثة، والرفعة والضعة، والقوة والضعف، والذكاء والغباء ... وغير ذلك، فما من أمر من هذه الأمور إلا وله مدخل في اختيار العبد في الخير أو الشر، وعلاقةٌ ما بالأسباب المؤدية إلى كل منهما. وما من وصف من هذه الأوصاف المتقابلة، إلا وقد أثر في بعض الناس هداية أو ضلالًا، توفيقًا أو خذلانًا.
ولا يخفى أن اقتراح المساواة بين الناس في هذه الأمور كلها، إنما هو اقتراح لإعدام الخلق وإفنائهم!! وهذا بيِّن لمن تأمله؛ ولذلك قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام: 165].
قال ابن كثير في تفسيره: قوله: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} أي: فاوت بينكم في الأرزاق، والأخلاق، والمحاسن والمساوئ، والمناظر، والأشكال، والألوان، وله الحكمة في ذلك ... وقوله: {ليبلوكم في ما آتاكم} أي: ليختبركم في الذي أنعم به عليكم، وامتحنكم به. اهـ.
وقال الماوردي في النكت والعيون: {ورفع بعضكم على بعض درجات}: يعني ما خالف بينهم في الغنى بالمال، وشرف الآباء، وقوة الأجسام، وهذا وإن ابتدأه تفضلًا من غير جزاء، ولا استحقاق، لحكمةٍ منه، تضمنت ترغيبًا في الأعلى، وترهيبًا من الأدنى؛ لتدوم له الرغبة والرهبة، وقد نبه على ذلك بقوله: {ليبلوكم فيما آتاكم} ... اهـ.
وقال الخازن في لباب التأويل: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ}: يعني أنه تعالى خالف بين أحوال عباده، فجعل بعضهم فوق بعض في الخلق، والرزق، والشرف، والعقل، والقوة، والفضل، فجعل منهم الحسن والقبيح، والغني والفقير، والشريف والوضيع، والعالم والجاهل، والقوي والضعيف، وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات، ليس لأجل العجز، أو الجهل، أو البخل؛ فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان، وهو قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ}: يعني يعاملكم معاملة المبتلي والمختبر، وهو أعلم بأحوال عباده. اهـ.
وبهذا تظهر حكمة المفاوتة بين أحوال الخلق، وهي الحكمة نفسها من أصل الخلق على هذه الهيئة، وهي الابتلاء، والامتحان، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2]، وقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7].
ولو تأمل السائل مقتضى اقتراحه في المثال الذي ذكره فيمن ولد لعائلة مسلمة، وأخرى كافرة؛ لعرف مناقضته لهذه الحكمة، ومنافاته للتخيير نفسه، فإن ذلك يقتضي أن يجتمع الناس كلهم إما على الإيمان، أو على الكفر؛ حتى تحصل التسوية بين الأولاد في النشأة، وليس هذا قاصرًا على الجيل الأول فقط، بل لا بد من تحققه في كل جيل، وهذا هو الجبر والتسيير بعينه!! وقد نص القرآن على خلاف هذا، كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118، 119].
قال ابن الجوزي في زاد المسير: قولة تعالى: {وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ}، في المشار إِليه بذلك، أربعة أقوال:
أحدها: أنه يرجع إِلى ما هم عليه. قال ابن عباس: خلقهم فريقين، فريقًا يُرحم فلا يختلف، وفريقًا لا يُرحم يختلف.
والثاني: أنه يرجع إِلى الشقاء والسعادة، قاله ابن عباس أيضًا، واختاره الزجاج، قال: لأن اختلافهم مؤدِّيهم إِلى سعادة وشقاوة. قال ابن جرير: واللام في قوله: {ولذلك} بمعنى: «على».
والثالث: أنه يرجع إِلى الاختلاف، رواه مبارك عن الحسن.
والرابع: أنه يرجع إِلى الرحمة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة.
فعلى هذا يكون المعنى: ولرحمته خلق الذين لا يختلفون في دينهم. اهـ.
وراجع للأهمية الفتويين التاليتين: 343843 - 328231.
ثم إننا ننبه الأخ السائل على أن القدر هو سر الله في خلقه، ومسائله من الدقة بمكان؛ ولذلك ضل فيها طوائف كثيرة من الخلق، بل يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الخوض في القدر، هو أصل الضلالات كلها، حيث قال: الخوض في القدر، أصل كل شبهة في العالم. اهـ.
وقال الطحاوي: أصل القدر، سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرج الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا، أو فكرًا، أو وسوسة، فإنه تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال عز وجل: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، فمن سأل لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب، كان من الكافرين. اهـ.
وراجع في ذلك الفتويين: 312490 - 381029.
وأخيرًا: نلفت نظر السائل إلى أن الإيمان بعدل الله المطلق، هو الأصل المحكم الذي يرد إليه ما تشابه من أمر القدر، وراجع للأهمية في بقية الجواب الفتوى رقم: 311626.
والله أعلم.