السؤال
من علامات دخول الجنة أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، وكلنا أصحاب ذنوب، فإذا كانت قبورنا روضة من رياض الجنة، فهل يعني ذلك أن ذنوبنا قد غفرت، أم إننا سوف نحاسب عليها، ونعاقب عليها، ثم ندخل الجنة -إن شاء الله-؟ وجزاكم الله خيرًا.
من علامات دخول الجنة أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، وكلنا أصحاب ذنوب، فإذا كانت قبورنا روضة من رياض الجنة، فهل يعني ذلك أن ذنوبنا قد غفرت، أم إننا سوف نحاسب عليها، ونعاقب عليها، ثم ندخل الجنة -إن شاء الله-؟ وجزاكم الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فصيغة السؤال ليست واضحة بالشكل الكافي!
وفي ضوء القدر الذي فهمناه من السؤال، فإن جوابه يستفاد من بحث أهل العلم في حال المؤمن المذنب أو المخلط، كيف يكون في القبر؟ وإذا عُذّب في قبره بذنوبه، فهل يعرض عليه مقعدٌ من الجنة أم مقعدٌ من النار؟ بناء على حديث: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة. رواه البخاري ومسلم.
وقد عقد أبو عبد الله القرطبي في كتاب: التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، بابًا لهذا الحديث، وذكر قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا {غافر:46}، ثم قال: فأخبر تعالى أن الكافرين يعرضون على النار، كما أن أهل السعادة يعرضون على الجنان بالخبر الصحيح في ذلك، وهل كل مؤمن يعرض على الجنان؟ فقيل: ذلك مخصوص بالمؤمن الكامل الإيمان، ومن أراد الله إنجاءه من النار.
وأما من أنفذ الله عليه وعيده من المخلطين، الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فله مقعدان يراهما جميعًا، كما أنه يرى عمله شخصين في وقتين، أو في وقت واحد قبيحًا وحسنًا.
وقد يحتمل أن يراد بأهل الجنة كل من يدخلها كيفما كان. اهـ.
وقال أبو العباس القرطبي في كتاب المفهم: غير الشهداء إما مؤمن، وإما غير مؤمن. فغير المؤمن هو الكافر. فهذا يرى مقعده من النار غدوًّا وعشيًّا، وهذا هو المعني بقوله تعالى: {النَّارُ يُعرَضُونَ عَلَيهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدخِلُوا آلَ فِرعَونَ أَشَدَّ العَذَابِ}، وأما المؤمن: فإما ألا يدخل النار، أو يدخلها بذنوبه، فالأول يرى مقعده من الجنة، لا يرى غيره رؤية خوف، وأما المؤمن المؤاخذ بذنوبه، فله مقعدان: مقعد في النار زمن تعذيبه، ومقعد في الجنة بعد إخراجه، فهذا يقتضي أن يعرضا عليه بالغداة والعشي، إلا إن قلنا: إنه أراد بأهل الجنة كل من يدخلها كيف كان، فلا يحتاج إلى ذلك التفسير. اهـ.
فالأمر محتمل! والذي اختاره ولي الدين ابن العراقي في طرح التثريب، هو الاحتمال الثاني، حيث قال: الأمر واضح في الكافر والمؤمن المخلص، أما المخلط الذي له ذنوب هو مؤاخذ بها غير معفو عنها، فماذا يعرض عليه؟ الذي يظهر أن المعروض عليه مقعده من الجنة، وأما النار فليس له بها مقعد مستقر، وإنما يدخلها لعارض لينقى ويطهر ويمحص، ثم يدخل مقعده من الجنة نقيًّا مخلصًا. اهـ.
واختار ذلك أيضا أبو الحسن المباركفوري في شرح مشكاة المصابيح، فقال: يكون عرض المقعدين على كل واحد من: المؤمن المخلص، والكافر، والمؤمن المخلط؛ لأنه يدخل الجنة في الجملة، فيرى مقعده في الجنة، فيقال له: هذا مقعدك، وستصير إليه بعد مجازاتك بالعقوبة على ما تستحق. اهـ.
ومال الحافظ ابن حجر إلى محصل الاحتمال الأول، وهو رؤية مقعدين: أحدهما في الجنة باعتبار المآل، والثاني في النار باعتبار الحال، حيث قال: الانفصال عن هذا الإشكال يظهر من الحديث الذي أخرجه ابن أبي الدنيا، والطبراني، وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة السؤال في القبر، وفيه: "ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له: هذا مقعدك، وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسرورًا. ثم يفتح له باب من أبواب النار، فيقال له: هذا مقعدك، وما أعد الله لك فيها لو عصيته، فيزداد غبطة وسرورًا .. " الحديث.
وفيه في حق الكافر: "ثم يفتح له باب من أبواب النار". وفيه: "فيزداد حسرة وثبورًا"، في الموضعين. وفيه: "لو أطعته".
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود: "ما من نفس إلا وتنظر في بيت في الجنة، وبيت في النار، فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة، فيقال: لو عملتم. ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال: لولا أن منّ الله عليكم".
فعلى هذا يحتمل في المذنب الذي قدر عليه أن يعذب قبل أن يدخل الجنة، أن يقال له مثلًا بعد عرض مقعده من الجنة: هذا مقعدك من أول وهلة لو لم تذنب، وهذا مقعدك من أول وهلة لعصيانك -نسأل الله العفو، والعافية من كل بلية في الحياة، وبعد الموت؛ إنه ذو الفضل العظيم-. اهـ.
وإذا قلنا: إن المؤمن المخلّط يرى مقعده من الجنة الذي يؤول إليه، فهذا لا يلزم منه أن يُنعَّم في قبره كالمؤمن المخلص؛ ولذلك فرَّق بعض أهل العلم بين مجرد رؤية المقعد من الجنة، وبين حصول النعيم في القبر، فقد قال ابن أبي زيد القيرواني في مقدمته: أرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدين. اهـ.
فقال شارحه أبو الحسن الشاذلي المالكي، في كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني: (وأرواح أهل السعادة) أي: أهل الجنة، وهم المؤمنون: محسنهم ومسيئهم ... (ناعمة) أي: منعمة برؤيتها لمقعدها في الجنة (إلى يوم يبعثون) أي: إلى يوم القيامة (وأرواح أهل الشقاوة) وهم الكفار (معذبة) برؤيتها لمقعدها في النار، وغير ذلك من أنواع العذاب. اهـ.
فعلّق العدوي في حاشيته على كفاية الطالب الرباني، فقال: ظاهر عبارة الشارح أن التنعيم ليس إلا برؤية المقعد في الجنة، وليس كذلك، بل من نعيمه، كما أفاده اللقاني: توسيعه؛ فقد ورد أنه يفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعًا ... وظاهر أن هذا الذي ذكره اللقاني في المؤمن الطائع، لا في مطلق مؤمن، بخلاف رؤية المقعد في الجنة، ففي كل مؤمن، ولو عاصيًا. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 94206، 120238. وراجع في بيان بعض الأعمال المنجية من عذاب القبر الفتاوى التالية أرقامها: 30742، 196387، 295483.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني