الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكر للسائل الكريم تواصله معنا، وغيرته على دينه، ونسأل الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين على ما يرضيه، وأن يصلح ذات بينهم، وأن يؤلف بين قلوبهم ..
وأما بخصوص القضايا التي أثارها الأخ السائل، فهي كثيرة ومتشعبة، ونعجز هنا في مجال الفتوى عن إعطائها حقها من البحث والتحرير، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله أو جله. وسنحاول أن نشير إليها في نقاط منفصلة؛ طلبا للإيضاح، فنقول وبالله التوفيق:
ـ أولا: أهل العلم الثقات المشهود لهم بالفضل، ولا سيما الأئمة منهم، يجب أن يعطوا قدرهم من التوقير والتبجيل، مع الاعتراف أنهم يصيبون ويخطئون، فالأمر كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ورضي عنه ـ : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. وقال أيضا: ما منا إلا رادٌ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم. وقد اتفق على ذلك بقية الأئمة الأربعة والراسخون من أهل العلم. قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إذا قلت قولاً كتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله. قيل: إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة. وقال تلميذه أبو يوسف رحمه الله تعالى: لايحل لأحدٍ أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وقال أيضاً: إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال. وقال أيضاً: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا.
ومن فوائد هذا المنهج القويم: التنبيه على أن الاستفادة من فقه هؤلاء الأئمة والانتفاع بعلومهم لا يصح أن يجعل عائقا أمام تقديم السنة إذا استبانت للمرء، ولو خالف ذلك مذهب إمامه ورأي شيخه، فليست العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـ ثانيا: الغلو في أهل العلم مذموم وضار، وكذلك الجفاء عنهم، والحق وسط بين طرفين، فلا نغلو فيهم فنرفعهم فوق أقدارهم وننسب لهم العصمة، ولا نجفو عنهم فنحط من أقدارهم ونسوي بينهم وبين عموم الناس. وكذلك الحال مع مذاهبهم وقواعدهم، لا نرد بها النصوص فنُفْرِط، ولا نلغيها بالكلية فنفَرِّط. فلا يجوز أن يُردَّ الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد كائنا من كان، ولا يجوز أن نسيء الأدب مع أهل العلم ونتهمهم ونقع في أعراضهم. فأقوالهم لا تخرج عن اجتهادات في فهم الشريعة وأدلتها. وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 6787 بيان فوائد معرفة أقوالهم وأسباب اختلافهم وموقفنا من ذلك. كما سبق لنا بيان أنه لا تعارض بين الدعوة إلى مذهب السلف وبين العمل بمذاهبهم، وذلك في الفتوى رقم: 31966. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 2397.
ثالثا: لا يصح الادعاء بأن الإمام مالكا أو غيره من الأئمة لم يغب عنه شيء من الحديث، أو لم يخف عليه شيء من السنة، وقد نقل ابن القيم في (الصواعق المرسلة) عن الإمام أبي عمر ابن عبد البر حافظ المغرب قوله: ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد خفيت عليه بعض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة فمن بعدهم. ثم قال: وصدق أبو عمر رضي الله عنه، فإن مجموع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وإقراره لا يوجد عند رجل واحد أبدا ولو كان أعلم أهل الأرض. فإن قيل: فالسنة قد دونت وجمعت وضبطت وصار ما تفرق منها عند الفئة الكثيرة مجموعا عند واحد ؟ قيل: هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض عصر الأئمة المتبوعين. ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة ثم لو فرض انحصار السنة في هذه الدواوين فليس كل ما فيها يعلمه العالم ولا يكاد يحصل ذلك لأحد أبدا، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علما بما فيها، بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول أو بإسناد منقطع أو لا يبلغنا بالكلية وكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين. اهـ.
ـ رابعا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكذلك الشيخ الألباني كغيرهما من أهل العلم، لم يَدِّعيا العصمة، ولم يدعها لهما أحد من أهل العلم، فإن وجد من يتعصب لشخص أي منهما، أو يدعي أن الحقيقة المطلقة محصورة في اجتهاد واحد منهما، أو اختياراته وترجيحاته، فقد أخطأ وأبعد عن الحق. فليسا أعلا قدرا ولا أرسخ علما من أئمة العلم السالفين، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله.
وقد سبقت لنا عدة فتاوى عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعن الوهابية، فراجع منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 5408، 38579، 38579. كما سبقت لنا عدة فتاوى عن الشيخ الألباني منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 56333، 40958، 156637.
وأما ما يتعلق بالسلفية فراجع فيه الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 5608، 39218، 117313.
ـ خامسا: الخلاف في المسائل الشرعية، لابد من التفريق فيه بين الخلاف السائغ المعتبر، وبين الخلاف غير السائغ ولا المعتبر، فالأول إنما هو اختلاف في الفهم ولا يصادم نصا ولا إجماعا سابقا، بخلاف الثاني فإنه لا يعتمد على الأدلة الشرعية، وإنما يعتمد في الغالب على الهوى والرأي المجرد. أو على دليل بعيد المأخذ، وقد سبق لنا بيان نوعي الخلاف، وبيان أسباب اختلاف العلماء وموقف المسلم من ذلك وما وراء ذلك من الحكم، فراجع الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 8675، 6787، 62771، 16387، 26350.
ـ سادسا: من تمذهب بمذهب الإمام مالك في الفقه والفروع ينبغي أن يكون أحرص على مذهبه في العقيدة والأصول، فهو إمام عَلَم من جهابذة المتقدمين المجمع على إمامتهم. وأما المذهب الأشعري على حالته المعروفة عند المتأخرين فهو يخالف في بعض مسائله ما كان عليه الإمام مالك وغيره من أئمة العلم الكبار، بل يخالف ما انتهى إليه أبو الحسن الأشعري نفسه في آخر حياته في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) والأشاعرة وإن كان مذهبهم أقرب من غيرهم إلى مذهب السلف الصالح ، إلا أنهم خالفوا أئمة السلف في كثير من المسائل ، وراجع تفصيل ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 117496، 10400، 38987، 163555.
ـ سابعا: التكفير والتبديع من المسائل الخطيرة، والخطأ فيها له عواقب وخيمة، وينبغي أن يقتصر الكلام فيه على الراسخين في العلم، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 721.
ـ ثامنا: الاحتفال بالمولد النبوي بالطرق المعهودة عند المتأخرين ليس من السنة ولا من هدي السلف الصالح رضي الله عنهم، وإن كان من يقوم بذلك يقوم به على وجه التعظيم والتبجيل لجناب النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه من المقاصد الحسنة والنوايا الطبية ولكن الطريقة والوسيلة ليست شرعية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم): الأعياد شريعة من الشرائع، فيجب فيها الاتباع لا الابتداع ... وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا. والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضا أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان .. وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصًا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حسن القصد والاجتهاد الذين يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه ... واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير، لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضًا شر، من بدعة وغيرها، فيكون ذلك العمل خيرًا بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من أنواع المشروع، وشرًا بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من الإعراض عن الدين بالكلية، كحال المنافقين والفاسقين، وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة، فعليك هنا بأدبين: أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنًا وظاهرًا، في خاصتك وخاصة من يطيعك. وأعرف المعروف وأنكر المنكر. الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان ... اهـ.
وراجع في ذلك الفتوى رقم: 137747.
ـ تاسعا: التكبير الجماعي أيام التشريق قد اختلف فيه أهل العلم، والخلاف في ذلك مما يسوغ، ولا داعي للإنكار فيه على المخالف، وليكتف كل طالب علم بعرض ما يعتقده وبيان وجه رجحانه دون تعصب، والمفتى به عندنا أنه مشروع ، وراجع في ذلك الفتويين: 130945، 170005.
ـ عاشرا: مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، هي الأخرى من مسائل الخلاف، وقد سبق لنا تناولها في عدة فتاوى، منها الفتويين: 17593، 11669.
ـ حادي عشر: مسألة السدل في الصلاة عند المالكية سبق لنا بيان ذلك في الفتوى رقم: 2591.
ـ ثاني عشر: مسألة المشاركة في الانتخابات النيابية، هي الأخرى من المسائل المختلف فيها، وقد سبق لنا تناولها في عدة فتاوى، منها الفتوى رقم: 134999 وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.