( تنبيهات )
الأول : وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة وأنكروا جلوس الميت في قبره ، قالوا وقد وضعوا على صدر الميت زيبقا فكشفوا عنه فوجدوه بحاله ولم يجدوا فيه ملائكة يضربون الموتى بمطارق من حديد ولا وجدوا حيات ولا عقارب ولا نيرانا وأجنبوا وأجلبوا مثل هذه الوساوس والترهات ، وقال إخوانهم من أهل البدع والضلال كل حديث يخالف مقتضى العقول نقطع بتخطئة ناقله ، قالوا ونحن نرى المصلوب على الخشبة المدة الطويلة لا يسأل ولا يجيب ولا يتحرك ولا يتوقد جسمه نارا ، قالوا ومن افترسته السباع ونهشته الطير وتفرقت أجزاؤه في حواصل الطيور وأجواف السباع وبطون الحيتان ومدارج الرياح كيف يسأل ؟ وكيف يصير القبر على مثل هذا روضة أو حفرة ؟ وكيف يتسع قبره أو يضيق ؟ وأكثروا من هذا الهذيان . أنكرت الملاحدة والزنادقة عذاب القبر
[ ص: 21 ] وأجاب عن ذلك أئمة الحق من علماء السنة وأمناء الأمة بما يقمع المفترين ويقلع عن الشاكين ، منهم الإمام المحقق ابن القيم في كتاب الروح فإنه أجاب عن ذلك بعدة أجوبة ( منها ) أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لم تخبر بما تحيله العقول بل أخبارهم قسمان : أحدهما ما يشهد العقل والفطرة السليمة به والثاني : ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر والثواب والعقاب فلا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا . والحاصل أن الأنبياء لا تأتي بمحالات العقول بل بمحاراتها فكل خبر يظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين إما خطأ في النقل أو فساد في العقل فتكون شبهة خيالية ظن صاحبها أنها أمر عقلي صريح والحال أنه خيال وهمي غير صحيح قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وأما الذين في قلوبهم زيغ فلا يزدادون إلا رجسا على رجسهم .
( ومنها ) أن يضم إلى خبر الرسول مراده من غير غلو ولا تقصير ولا يحمل كلامه على ما لا يحتمله ولا يقصر به عن مراده وعما قصده من الهدى والبيان وبإهمال ذلك حصل ما حصل من الضلال والعدول عن نهج الصواب .
( ومنها ) أن الله سبحانه جعل الدور ثلاثة ، دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، ولهذا جعل أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات الإنسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافه ، فالعقوبات الدنيوية تقع على البدن الظاهر وتتألم الروح بالتبعية ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها ، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها ولذتها وكانت هي المباشرة لأسباب النعيم والعذاب فكذلك تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها وكان العذاب والنعيم على الروح ولها بالأصالة والبدن تابع للروح في ذلك عكس دار الدنيا ، فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم لدار القرار والمعاد صار الحكم من النعيم والعذاب وغيرهما على الأرواح والأجساد باديا ظاهرا أصلا وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر [ ص: 22 ] ونعيمه من هذا القبيل ، فإذا ظهر للذوق السليم طابق العقل المستقيم .
( ومنها ) أن الله تعالى جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبيا وحجبها عن إدراك العقول في هذه الدار وذلك من كمال حكمته وليتميز الذين آمنوا بالغيب من غيرهم ، فأول ذلك الملائكة تنزل على المحتضر وتجلس قريبا منه ويشاهدهم عيانا ويتحدثون عنده ومعه وربما كلمهم ورد أجوبة لهم ، وتكون معهم الأكفان والحنوط إما من الجنة وإما من النار .
ويؤمنون على دعاء الحاضرين بالخير والشر وقد يسلمون على المحتضر ويرد عليهم السلام تارة بلفظه وتارة بإشارة وتارة بقلبه إذا لم يتمكن من النطق والإشارة وقد سمع بعض المحتضرين يقول أهلا وسهلا ومرحبا بهذه الوجوه . ومن ذلك حكايات كثيرة وقد شاهدنا من ذلك ما لم يخطر بالبال ولا يتصوره الخيال .
( ومنها ) أن النار التي في القبر ليست من نار الدنيا فيشاهدها من شاهد نار الدنيا وإنما هي من نار الآخرة فهي وإن كانت أشد من نار الدنيا إلا أن شدتها على من هي له وعليه دون من مسها من أهل الدنيا ، بل ربما دفن الرجلان في قبر واحد فيكون أحدهما في روضة ونعيم والآخر في حفرة وعذاب أليم وقدرة الرب أعظم وأعجب من ذلك ولكن الكافرون لا يشعرون .
( ومنها ) أن الله سبحانه وتعالى يحدث في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك فهذا جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويتمثل له رجلا فيكلمه بكلام يسمعه ومن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم لا يراه وكذلك غيره من الأنبياء ، وكانت الملائكة تضرب الكفار بالسياط وتضرب رقابهم وتصيح بهم والمسلمون معهم لا يرونهم ولا يسمعون كلامهم ، والله سبحانه وتعالى حجب ابن آدم عن كثير مما يحدث في الأرض وهو بينهم فهذا جبريل كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن والحاضرون لا يسمعونه .
وكيف يستنكر من عرف الله وأقر بقدرته أن يحدث حوادث يصرف عنها أبصار خلقه وأسماعهم حكمة منه ورحمة بهم لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها والعبد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر وكثير ممن أشهده الله ذلك ضعف وغشي عليه ولم ينتفع بالعيش زمنا ، وبعضهم كشف قناع قلبه فمات .
وسر المسألة أن [ ص: 23 ] توسعة القبر وضيقه وإضاءته وخضرته وناره ليس من جنس المعهود في هذا العالم ، والله سبحانه إنما أشهد عباده هذه الدار وما كان فيها ومنها وأما ما كان من أمر الآخرة فقد أسبل عليه الغطاء ليكون الإقرار به والإيمان سببا لسعادتهم ولو كشف عنه الغطاء لكان مشاهدا عيانا وفاتته نتيجة الإيمان بالغيب وما يترتب على ذلك من الثواب .
قلت : وحاصل ذلك أن ما أخبر به الصادق المصدوق وجب الإيمان به وقد تواتر عنه ذلك كما قدمنا ولم تحله العقول وحيث كان ممكنا فمعارضة صحيح الأخبار إلحاد ، وهو كما أنه مقتضى السنة الصحيحة متفق عليه بين أهل السنة قال المروذي قال رضي الله عنه : عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل . وقال أبو عبد الله الإمام أحمد حنبل : قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر فقال هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها ، كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به ، إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره ، قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . قلت وعذاب القبر حق ؟ قال : حق يعذبون في القبور . قال وسمعت أبا عبد الله يقول : نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير ( وأن العبد يسأل في قبره فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة في القبر . وقال أحمد بن القاسم : قلت يا أبا عبد الله نقر بمنكر ونكير ) . وما يروى في عذاب القبر ؟ فقال سبحان الله نعم نقر بذلك ، قلت هذه اللفظة نقول منكر ونكير هكذا أو نقول ملكين ؟ قال : منكر ونكير . قلت يقولون ليس في حديث منكر ونكير ؟ قال هو هكذا - يعني أنهما منكر ونكير .
قال الإمام ابن القيم في كتابه الروح : وأما أئمة أهل البدع والضلال فقال أبو الهذيل : من خرج عن سنة الإيمان فإنه يعذب بين النفختين ، قالا والمسألة في القبر إنما تقع في ذلك الوقت . قال وبشر المريسي ابن القيم : وأثبت الجبائي وابنه والبلخي عذاب القبر لكنهم نفوه عن المؤمنين وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار والفساق على أصولهم وبالله التوفيق .