( ( دلت على وجوده الحوادث سبحانه فهو الحكيم الوارث ) )
( ( دلت ) ) دلالة عقلية قطعية ( على وجوده ) - سبحانه وتعالى - ( الحوادث ) جمع حادث ، وهو خلاف القديم ، والدلالة هي كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم أو الظن بشيء آخر ، أو من الظن به الظن بشيء آخر ، فالأول يسمى دليلا برهانيا ، وبرهانا إن لم يتخلله الظن ، وإلا فدليلا إقناعيا وأمارة ، والشيء الثاني يسمى مدلولا . ثم الدال إن كان لفظا فالدلالة لفظية ، وإلا فغير لفظية ، فإن توسط الوضع فيها كالخطوط والعقود والإشارة والنصب فوضعية وإلا فعقلية ،
nindex.php?page=treesubj&link=29620كدلالة العالم على الصانع ، وقد استدل به جمع محققون من علماء الكلام وغيرهم ، وهو مبني على مقدمتين ، إحداهما : أن الحوادث موجودة ، والثاني : أن الحادث لا يوجد إلا بقديم ، وبعضهم يعبر أن
nindex.php?page=treesubj&link=29620الممكنات موجودة ، وأن الممكن لا يوجد إلا بواجب . فأما المقدمة الأولى فدليلها ما يشاهد من حدوث الحوادث ، فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن ، وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك ، وهذه
[ ص: 44 ] الحوادث ليست ممتنعة - فإن الممتنع لا يوجد - ولا واجبة الوجود بنفسها - فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم - وهذه كانت معدومة ثم وجدت ، فعدمها ينفي وجودها ، ووجودها ينفي امتناعها . وهذا دليل قاطع واضح بين على ثبوت الممكنات . وأصرح من ذلك وأوضح أن
nindex.php?page=treesubj&link=29620_29426نفس حدوث الحوادث دليل على إثبات المحدث لها ، فإن العلم بأن الحادث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن الممكن لا بد له من واجب ، فتكون هذه الطريق أبين وأقصر كما في النظم . وأما المقدمة الثانية وهي أن الحادث لا بد له من محدث فلاستحالة حدوثه بنفسه ، كما قال - تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=35أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) ، يقول الله - تعالى : أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم ، ومعلوم أن المحدث لا يوجد بنفسه ، وطريق العلم بذلك أن يقال : الموجود إما حادث وإما قديم ، والحادث لا بد له من قديم ، فيلزم ثبوت القديم على كل حال ، وذلك أن الفقر والحاجة لكل حادث وممكن وصف لازم لها ، فهي مفتقرة إليه دائما حال الحدوث وحال البقاء ، ومن زعم من أهل الكلام أن افتقارها إليه في حال الحدوث فقط ، كما يقوله من يقوله من
المعتزلة وغيرهم ، أو في حال البقاء فقط ، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة القائلين بمساواة العالم له ، وكلا القولين خطأ ، كما قاله
شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية - روح الله روحه - في شرح عقيدة
شمس الدين الأصبهاني - رحمه الله تعالى ،
nindex.php?page=treesubj&link=29426فالإمكان والحدوث متلازمان ، فكل محدث ممكن ، وكل ممكن محدث ، والفقر ملازم لهما ، فلا تزال مفتقرة إليه ، لا تستغني عنه لحظة عين ، وهو الصمد الذي يصمد إليه جميع المخلوقات ، ولا يصمد هو إلى شيء ، بل هو - سبحانه - المغني لما سواه .
وللإمام ابن تيمية :
الفقر لي وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
( ( دَلَّتْ عَلَى وُجُودِهِ الْحَوَادِثُ سُبْحَانَهُ فَهْوَ الْحَكِيمُ الْوَارِثُ ) )
( ( دَلَّتْ ) ) دَلَالَةً عَقْلِيَّةً قَطْعِيَّةً ( عَلَى وُجُودِهِ ) - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ( الْحَوَادِثُ ) جَمْعُ حَادِثٍ ، وَهُوَ خِلَافُ الْقَدِيمِ ، وَالدَّلَالَةُ هِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ بِشَيْءٍ آخَرَ ، أَوْ مِنَ الظَّنِّ بِهِ الظَّنُّ بِشَيْءٍ آخَرَ ، فَالْأَوَّلُ يُسَمَّى دَلِيلًا بُرْهَانِيًّا ، وَبُرْهَانًا إِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْهُ الظَّنُّ ، وَإِلَّا فَدَلِيلًا إِقْنَاعِيًّا وَأَمَارَةً ، وَالشَّيْءُ الثَّانِي يُسَمَّى مَدْلُولًا . ثُمَّ الدَّالُّ إِنْ كَانَ لَفْظًا فَالدَّلَالَةُ لَفْظِيَّةٌ ، وَإِلَّا فَغَيْرُ لَفْظِيَّةٍ ، فَإِنْ تَوَسَّطَ الْوَضْعُ فِيهَا كَالْخُطُوطِ وَالْعُقُودِ وَالْإِشَارَةِ وَالنُّصْبِ فَوَضْعِيَّةٌ وَإِلَّا فَعَقْلِيَّةٌ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29620كَدَلَالَةِ الْعَالَمِ عَلَى الصَّانِعِ ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ جَمْعٌ مُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ ، إِحْدَاهُمَا : أَنَّ الْحَوَادِثَ مَوْجُودَةٌ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَادِثَ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِقَدِيمٍ ، وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29620الْمُمْكِنَاتِ مَوْجُودَةٌ ، وَأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِوَاجِبٍ . فَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَدَلِيلُهَا مَا يُشَاهَدُ مِنْ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ ، فَإِنَّا نُشَاهِدُ حُدُوثَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ ، وَحَوَادِثَ الْجَوِّ كَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ
[ ص: 44 ] الْحَوَادِثُ لَيْسَتْ مُمْتَنِعَةً - فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يُوجَدُ - وَلَا وَاجِبَةَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهَا - فَإِنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ - وَهَذِهِ كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ وُجِدَتْ ، فَعَدَمُهَا يَنْفِي وُجُودَهَا ، وَوُجُودُهَا يَنْفِي امْتِنَاعَهَا . وَهَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ عَلَى ثُبُوتِ الْمُمْكِنَاتِ . وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْضَحُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29620_29426نَفْسَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُحْدِثِ لَهَا ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ أَبْيَنُ مِنَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ ، فَتَكُونُ هَذِهِ الطَّرِيقُ أَبْيَنَ وَأَقْصَرَ كَمَا فِي النَّظْمِ . وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنَّ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ فَلِاسْتِحَالَةِ حُدُوثِهِ بِنَفْسِهِ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=35أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) ، يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى : أُحْدِثُوا مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ أَمْ هُمْ أَحْدَثُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ ، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : الْمَوْجُودُ إِمَّا حَادِثٌ وَإِمَّا قَدِيمٌ ، وَالْحَادِثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ ، فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْقَدِيمِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ لِكُلِّ حَادِثٍ وَمُمْكِنٍ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهَا ، فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ دَائِمًا حَالَ الْحُدُوثِ وَحَالَ الْبَقَاءِ ، وَمَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنَّ افْتِقَارَهَا إِلَيْهِ فِي حَالِ الْحُدُوثِ فَقَطْ ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ، أَوْ فِي حَالِ الْبَقَاءِ فَقَطْ ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِمُسَاوَاةِ الْعَالَمِ لَهُ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ ، كَمَا قَالَهُ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي شَرْحِ عَقِيدَةِ
شَمْسِ الدِّينِ الْأَصْبَهَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ،
nindex.php?page=treesubj&link=29426فَالْإِمْكَانُ وَالْحُدُوثُ مُتَلَازِمَانِ ، فَكُلُّ مُحْدَثٍ مُمْكِنٌ ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ ، وَالْفَقْرُ مُلَازِمٌ لَهُمَا ، فَلَا تَزَالُ مُفْتَقِرَةً إِلَيْهِ ، لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ لَحْظَةَ عَيْنٍ ، وَهُوَ الصَّمَدُ الَّذِي يَصْمُدُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَلَا يَصْمُدُ هُوَ إِلَى شَيْءٍ ، بَلْ هُوَ - سُبْحَانَهُ - الْمُغْنِي لِمَا سِوَاهُ .
وَلِلْإِمَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ :
الْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي