الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 122 ] ( العلامة الخامسة )

من العلامات العظمى : هدم الكعبة المشرفة والقبلة المعظمة وإليها أشار بقوله ( ( ك ) ) ما أن أمر يأجوج ومأجوج حق ثابت يجب اعتقاده ووقوعه فكذا يجب اعتقاد وقوع ( ( هدم الكعبة ) ) المعظمة والقبلة المكرمة ، وسلب حليها ، وإخراج كنزها لما أخرج البخاري ومسلم ، والنسائي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " وفي لفظ " ذو السويقتين من الحبشة يخرب بيت الله " .

وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - نحوه وزاد " ويسلبها حليها ويجردها من كسوتها فلكأني أنظر إليه أصيلع ، أفيدع يضرب عليها بمسحاته ، أو معوله " .

وأخرج الأزرقي عنه " يجيش البحر عن فئة من السودان ثم يسيلون سيل النمل حتى ينتهي إلى الكعبة فيخربونها ، والذي نفسي بيده إني لكأني أنظر إلى صفته في كتاب الله تعالى أفيحج ، أصيلع ، أفيدع قائما بهدمها بمسحاته ، أو معوله " .

وفي الصحيحين : " كأني به أسود ، أفحج يهدمها حجرا حجرا " أي : ويتداولها أصحابه بينهم حتى يطرحوها في البحر ، كما ورد في حديث حذيفة مرفوعا " كأني أنظر إلى حبشي أحمر الساقين ، أزرق العينين ، أفطس الأنف ، كبير البطن ، وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له ينقضونها حجرا حجرا ويتداولونها حتى يطرحوها في البحر " الحديث .

قوله ( ذو السويقتين ) أي صاحبهما وهما تصغير ساقين ، أي : دقيق الساقين ، وقوله ( أصيلع ) تصغير الأصلع وهو : من ذهب شعر مقدم رأسه ، و ( الأفيدع ) تصغير أفدع وهو : من في يده اعوجاج ، وفي القاموس : الفدع محركة اعوجاج الرسغ من اليد أو الرجل حتى ينقلب الكف أو القدم ، أو هو المشي على ظهر القدم أو ارتفاع أخمص القدم حتى لو وطئ الأفدع عصفورا ما آذاه ، أو هو عوج في المفاصل لأنها قد زالت عن موضعها .

وأكثر ما يكون في الأرساغ خلقة ، وجاء في بعض روايات الحديث " أصعل " أي صغير الرأس ، وفي بعضها " أصمع " أي صغير الأذنين ، وقيل كبير الأذن ، و ( الأفيحج ) تصغير أفحج المتباعد الفخذين .

وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا " يبايع لرجل بين الركن والمقام ولن يستحل هذا البيت إلا أهله فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ثم تجيء الحبشة [ ص: 123 ] فيخربونه خرابا لا يعمر بعده أبدا وهم الذين يستخرجون كنزه . رواه بهذا اللفظ أيضا الأزرقي في تاريخ مكة ، والحاكم وصححه .

فإن قلت : ورد وتقدم أن المهدي هو الذي يخرج كنز الكعبة ، وفي هذا الحديث أن ذا السويقتين هو الذي يخرج كنزها ولعمري إنه لسؤال وارد واستشكال مضاد ولم أرى من تقدمني ممن نقب عن هذا السؤال وفي يمه خاض ، ولا من أجاب هذا السؤال ولا من تعرض لهذا الاعتراض ، ولعل الجواب أن المهدي يستخرج الكنز المذكور ثم بعد ذلك يجتمع في خزانة الكعبة - في مدة المهدي ومدة سيدنا عيسى إلى أن يخربها ذو السويقتين - مال كثير سيما مع كثرة المال وانكباب أهل ذلك الوقت على أنواع القربات مع كثرة الحجاج وهذا ممكن ، أو يكون المهدي كشفه وظهر عليه وأخذ منه عوزه وترك باقيه ، والله أعلم .

فإن قلت : تسلط هذا العدو الخبيث على هدم بيت الله المعظم ينافي قوله تعالى ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ) الآية ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) الآية ، وقد حماه سبحانه من أصحاب الفيل وجيرانه حينئذ كفار مشركون فكيف يسلط عليه الحبشة وهو قبلة المسلمين وهم جيرانه ؟ .

( فالجواب ) ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهو أن يقال : قد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - للجواب في الحديث بقوله ( ولن يستحل هذا البيت إلا أهله ) ففي زمن الفيل ما كانوا قد استحلوه فمنعه منهم ، وأما الحبشة فلا يهدمونه إلا بعد استحلال أهله مرارا ، وقد استحله جيش يزيد بن معاوية بأمره ، ثم الحجاج زمن عبد الملك بن مروان بأمره فسلط الله عليه القرامطة فقتلوا من المسلمين في المطاف ما لا يحصى ، وقلعوا الحجر ونقلوه لبلادهم فلما وقع استحلاله من أهله مرارا مكن غيرهم من ذلك عقوبة لهم على أنه ليس في الآية استمرار الأمن المذكور فيه . انتهى ملخصا

( قلت ) والذي يظهر لي أن هذا العالم مشعر بالاضمحلال ، وكما ورد الشرع بالأمن ورد باضمحلال هذا العالم ودماره فأشعر أن الأمن مغيا إلى غاية أشار الشارع إليها فوجب تصديق الأمرين كل واحد زمنه حسبما هو مقتضى الشرع ، وبالله التوفيق .

[ ص: 124 ] فإن قلت : هل هدم الكعبة من ذي السويقتين المذكور زمن سيدنا المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام أو بعده عند قيام الساعة حيث لا يبقى في الأرض أحد يقول الله ؟ ( فالجواب ) أن هذا مما اختلف فيه العلماء ، فعن كعب الأحبار أنه زمن عيسى عليه السلام ، وقيل زمنه وبعد هلاك يأجوج ومأجوج فيحج الناس ويعتمرون كما ثبت ذلك ، وأن عيسى عليه السلام يحج أو يعتمر ، أو يجمع بينهما كما تقدم ، فالظاهر أن هدم البيت بعد موت سيدنا المسيح ، وهبوب الريح التي يموت بها من في قلبه ذرة من إيمان ، وذكر الحافظ ابن حجر أنه وجد في كتاب " التيجان " لابن هشام أن عمر بن عامر كان ملكا متوجا وكان كاهنا معمرا وأنه قال لأخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا لما حضرته الوفاة ، إن بلادكم ستخرب وإن لله في أهل اليمن سخطين ورحمتين ، فالسخطة الأولى : هدم سد مأرب وخراب البلاد بسببه ، والثانية : غلبة الحبشة على اليمن .

والرحمة الأولى : بعثة نبي من تهامة اسمه محمد يرسل بالرحمة ويغلب أهل الشرك ، والثانية : إذا خرب بيت الله يبعث الله رجلا يقال له شعيب بن صالح فيهلك من خربه ويخرجهم حتى لا يكون بالدنيا إيمان إلا بأرض اليمن .

قال الحافظ ابن حجر إن ثبت هذا علم منه اسم القحطاني وسيرته وزمانه .

واعترضه البرزنجي في الإشاعة بأن ليس فيما ذكر ما يقتضي أن ذلك هو القحطاني ولم لا يجوز أن يكون شعيب بن صالح هو التميمي القادم بالرايات السود إلى المهدي وأنه يرسل عيسى عليه السلام إليه حين يأتيه الصريخ ويؤيده كونه لقبه المنصور وبتقدير أن يكون هو إياه فجائز أن يكون قبل خلافته ويكون في من أرسله عيسى عليه السلام أميرا عليهم فإنه ورد أن الصريخ يأتي عيسى بذلك فيبعث إليه بطائفة ما بين الثمانية إلى التسعة فيكون هو أميرهم ، وليس في كونه رحمة لأهل اليمن ما يقتضي أنه منهم ، ويكفي من كونه رحمة لهم أنه يدفع الحبشة عنهم بحيث لا يبقى إيمان إلا في أرض اليمن .

ثم إن الحجاز من اليمن ولذا يقال : الكعبة يمانية ، ولعل زمن اختصاص اليمن ببقاء الإيمان بعد قبض المسيح وهبوب الريح ، ولا ينافي ما ذكر حديث : " آخر ما يوجد الإيمان في المدينة " لأنها من اليمن ، والله أعلم .

[ ص: 125 ] وقيل إن هدم الكعبة بعد خروج الدابة ، وقيل بعد الآيات كلها قرب قيام الساعة حين ينقطع الحاج ولا يبقى في الأرض من يقول الله ، ويؤيد هذا أن زمن عيسى عليه السلام كله زمن سلم ، وبركة ، وأمان ، وخير وهذا أليق بكرم الله ، والذي تقتضيه الحكمة فإن البيت قبلة الإسلام ، والحج إليه أحد أركان الدين ومبانيه ، فالحكمة تقتضي بقاءه ببقاء الدين فإذا جاءت الريح الباردة الطيبة وقبضت المؤمنين فبعد ذلك يهدم البيت ويرتفع القرآن .

قال العلامة الشيخ مرعي في بهجته جاء عن الثقات الحفاظ : يمكث الناس ما شاء الله تعالى في الخصب والدعة بعد هلاك يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس وخروج الدابة ، قال ثم يخرج الحبشة وعليهم ذو السويقتين فيخربون مكة ويهدمون الكعبة ثم لا تعمر بعدها أبدا ، وهم الذين يستخرجون كنوز مصر .

قال ثم يجتمع بقايا المسلمين فيقاتلونهم فيقتلونهم ويسبونهم حتى يباع الحبشي بعباءة .

فبين أن هدم الكعبة بعد الآيات وإن كان لا يخلو من تأمل ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية