( ( وشرط من أكرم بالنبوة حرية ذكورة كقوة ) )
( ( وشرط ) ) مبتدأ " من " أي : كل إنسان " أكرم " بضم الهمزة مبنيا لما لم يسم فاعله ، أي : أكرمه الله تعالى " بالنبوة " بضم النون والباء الموحدة ، وتشديد الواو ، ويجوز فيه تحقيق الهمزة وتخفيفه ، يقال : نبأ وأنبأ ، فإن قيل : روى النسائي " ، فالجواب ما حكاه أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا نبيء الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " لا تنبر باسمي فإنما أنا نبي الجوهري أنه يقال : نبأت على القوم إذا طلعت عليهم ، ونبأت من أرض إلى أرض كذا إذا خرجت إلى هذه ، وهذا المعنى أراد الأعرابي بقوله : يا نبيء الله ؛ لأنه خرج من مكة إلى المدينة ، فأنكر عليه الهمز لأنه ليس من لغة قريش . والحاصل : أن إما مشتق من النبإ أي الخبر ؛ لأنه ينبئ عن الله تعالى ، أي : يخبر ، قال النبي : ليس أحد من العرب إلا ويقول : تنبأ مسيلمة بالهمز ، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخبية ، إلا سيبويه أهل مكة فإنهم يهمزون هذه الأحرف الثلاثة ، ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك .
وإما مشتق من النبوة وهي الشيء المرتفع ؛ لأن النبي مرتفع الرتبة على سائر الخلق ، قال في القاموس : والنبيء المخبر عن الله ، وترك الهمز المختار ، والجمع أنبياء ونبآء وأنباء والنبيئون ، والاسم النبوءة . ذكره في باب الهمزة ، وقال في باب المعتل : والنباوة ما ارتفع من الأرض كالنبوة والنبي . انتهى .
" حرية " خبر المبتدأ الذي هو ( شرط من أكرم ) . . . إلخ ، وذلك لأن الرق وصف نقص لا يليق بمقام النبوة ، والنبي يكون داعيا للناس أناء الليل وأطراف النهار ، والرقيق لا يتيسر له ذلك ، وأيضا الرقية وصف نقص يأنف الناس ويستنكفون من اتباع من اتصف بها وأن يكون إماما لهم وقدوة ، وهي إثر الكفر ، والأنبياء منزهون عن ذلك ، " أي : أن يتصف بالذكورية لقوله تعالى ( وشرط من أكرمه الله بالنبوة أيضا " ذكورة وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) فأثبت الرسالة للرجال الموحى [ ص: 266 ] إليهم وأشعر بنفي ذلك عن غيرهم ، فلا تكون أنثى نبية خلافا لأهل التوراة الزاعمين بنبوة مريم بنت عمران أخت موسى وهارون عليهما السلام ، وقد خالف في اشتراط الذكورة ثم أبو الحسن الأشعري القرطبي ، وتبعهما على ذلك أناس من العلماء ، والحق اعتبار الذكورية لأن الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة ، والأنوثة تقتضي التستر وتنافي الاشتهار لما بين الاشتهار والاستتار من التمانع ، وقد حكى العلامة ابن الملقن في شرحه على عمدة الأحكام خلافا في نبوة مريم وآسية وسارة وهاجر وأم موسى عليه السلام ، واسمها يخابذ بنت لاوى بن يعقوب كما قال شيخ السنة البغوي ، والحافظ في تبصرته . ابن الجوزي
قال الحافظ برهان الدين الناجي : قيد هذا الاسم ( يوخابذ ) على شيخنا الحافظ بن ناصر الدين حال قراءة التبصرة عليه بمثناة تحتية مضمومة فواو ساكنة فخاء معجمة مفتوحة فألف مقصورة فباء موحدة مفتوحة فذال معجمة ، وهو غير مصروف للعجمة والتأنيث أي مع العلمية . قلت : في كتب أهل الكتاب ورأيته في التوراة يوكابد بكاف بدل الخاء ، وبدال مهملة بدل المعجمة والنطق بالكاف مفخما ، ومعناه بالعربية جليلة ، ورأيت الحافظ جلال الدين السيوطي ضبطه بحاء مهملة بدل الخاء المعجمة ، وبنون بدل الباء الموحدة كما هو في تاريخ الأنبياء له .
وقوله ( ( كقوة ) ) أي : كما بأعباء ما حمل من ثقل النبوة ، والقوة الطاقة ، والجمع قوى بالضم وبالكسر ، قال في القاموس : القوة بالضم ضد الضعف ، يقال : قوي كرضي فهو قوي ، والقوى بالضم العقل ، وطاقات الحبل . ذا عقل صحيح ، وفهم رجيح ، وعلم بالأمور الدينية حسن الخلق والخلق ، ليسهل عليه تحمل الخلق في مخالطاتهم وتعليمهم لأمور الديانة ، فإن الأنبياء منزهة عن جميع الرذائل من البخل والجبن واللهو واللغو وسائر الأخلاق الذميمة ، كما أنهم مبرءون من لؤم النسب ، وشره القلب ، وحرص النفس على الدنيا ، ولهذا لم يبعث الله نبيا إلا في أشرف منسب أمته ، فلم يبعث نبيا من ذي نسب مبذول ، كما لم يبعث نبيا عبدا ولا لئيما ، ولا امرأة لعلو مرتبة الذكورة على الأنوثة مع طلب عدم الاشتهار مع النساء المطلوب للدعوة ، ولكون النفوس مائلة في ذواتهن بحسب الطبع [ ص: 267 ] فيغفلون عن مقالهن . يعتبر فيمن أكرمه الله تعالى بالنبوة أن يكون قويا
والحاصل من كمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبا اختصاص النبوة بأشرف أفراد النوع الإنساني كعيسى ويحيى عليهما السلام ، والسلامة من كل ما نفر عن الاتباع كدناءة الآباء وعهر الأمهات والغلظة والعيوب المنفرة للطباع كالبرص والجذام ، والأمور المخلة بالمروءة كأكل على الطريق ، والحرف الدنية كالحجامة ، وكل ما يخل بحكمة البعثة ونحو ذلك ، وبالله التوفيق .
ولما ذكر ما أشعر بانفراد كمال النوع الإنساني بالنبوة واختصاص الذكور الأحرار المنزهين عن النقائص بها خشي أن يتوهم متوهم بأن ذلك يدرك بالرياضة والتهذيب والجد والاجتهاد والتأديب ، فنفى ذلك بقوله :