بيان الطريق في
nindex.php?page=treesubj&link=18689_19539معالجة الكبر واكتساب التواضع :
اعلم أن الكبر من المهلكات وإزالته فرض عين ، ولا يزول بمجرد التمني ، بل بالمعالجة ، وفي معالجته مقامان :
أحدهما : قلع شجرته من مغرسها في القلب .
الثاني : دفع العارض منه بالأسباب التي قد يتكبر بها .
المقام الأول في استئصال أصله :
علاجه علمي وعملي ، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما :
أما العلمي : فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر ، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه لا يليق به إلا التواضع ، وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله . أما معرفته ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول ، وأما معرفته نفسه فهو أيضا يطول ولكنا نذكر من ذلك ما ينفع في إثارة التواضع ، ويكفيه أن يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله ، فإن في القرآن علم الأولين والآخرين لمن فتحت بصيرته ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=17قتل الإنسان ما أكفره nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=18من أي شيء خلقه nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=19من نطفة خلقه فقدره nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=20ثم السبيل يسره nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=21ثم أماته فأقبره nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=22ثم إذا شاء أنشره ) [ عبس : 17 22 ] فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه ، فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية ، أما أول الإنسان فهو أنه لم يكن شيئا مذكورا ، وقد كان في حيز العدم دهورا ، وأي شيء أخس من العدم ، ثم خلقه الله من أقذر الأشياء إذ خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم جعله عظما ثم كسا العظم لحما ، فهذا بداية وجوده ، فما صار شيئا مذكورا إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت ، إذ لم يخلق في ابتدائه كاملا ، بل خلقه جمادا ميتا لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يحس ، ولا يتحرك ، ولا ينطق ، ولا يبطش ، ولا يدرك ، ولا يعلم ، فبدأ بموته قبل حياته ، وبضعفه قبل قوته ، وبجهله قبل علمه ، وبعماه قبل بصره ، وبصممه قبل سمعه ، وببكمه قبل نطقه ، وبضلاله قبل هداه ، وبفقره قبل غناه ، وبعجزه قبل قدرته ، فهذا معنى قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=18من أي شيء خلقه nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=19من نطفة خلقه فقدره ) [ عبس : 18 ، 19 ] ثم امتن عليه فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=20ثم السبيل يسره ) [ عبس : 20 ] وهذا إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت . وإنما خلقه من التراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام والنطفة القذرة بعد عدمها ليعرف خسة ذاته فيعرف بها ذاته ، فيعرف بها نفسه ، وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ويعلم بها عظمته وجلاله ، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا .
[ ص: 249 ] فمن كان هذا بدأه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء ، وهو على التحقيق أضعف الضعفاء ، ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم ، وذلك لدلالة خسة أوله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
نعم ، لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى ، ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض والآفات يهدم البعض من أجزائه البعض شاء أم أبى ، فيجوع كرها ويعطش كرها ، ويمرض كرها ، ويموت كرها ، لا يملك لنفسه نفعا ، ولا ضرا ، ولا خيرا ، ولا شرا .
يريد أن يعلم الشيء فيجهله ، ويريد أن يذكر الشيء فينساه ، ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه ، ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره ، وتفلج أعضاؤه ، ويختلس عقله ، ويختطف روحه ، ويسلب جميع ما يهواه في دنياه ، فهو مضطر ذليل ، إن ترك بقي وإن اختطف فني ، عبد مملوك لا يقدر على شيء من نفسه ، ولا شيء من غيره ، فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه ، وأنى يليق الكبر به لولا جهله ، فهذا وسط أحواله فليتأمله . وأما آخره فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=21ثم أماته فأقبره nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=22ثم إذا شاء أنشره ) [ عبس : 21 22 ] ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته فيعود جمادا كما كان أول مرة ، لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته ، لا حس فيه ، ولا حركة ، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة ، ثم تبلى أعضاؤه ، وتتفتت أجزاؤه ، وتنخر عظامه ، ويأكل الدود أجزاءه فيصير روثا في أجواف الديدان ويكون جيفة يهرب منه الحيوان ، ويستقذره كل إنسان ويهرب منه لشدة الإنتان ، وليته بقي كذلك فما أحسنه لو ترك ، لا ، بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شديد البلا ، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة ، ويخرج إلى أهوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة ، وسماء مشققة ممزقة ، وأرض مبدلة ، وجبال مسيرة ، ونجوم منكدرة ، وشمس منكسفة ، وأحوال مظلمة ، وملائكة غلاظ شداد ، وجهنم تزفر ، وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر ، ويرى صحائف منشورة ، فيقال له : اقرأ كتابك ، فيقول : " وما هو " ؟ فيقال : كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تتكبر بنعيمها وتفتخر بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك ما تنطق به أو تعمله من قليل أو كثير وصغير وكبير ، قد نسيت ذلك وأحصاه الله عليك ، فهلم إلى الحساب ، واستعد للجواب ، أو تساق إلى دار العذاب ، فينقطع قلبه فزعا من هول هذا الخطاب قبل أن تنتشر الصحيفة ويشاهد ما فيها من مخازيه ، فإذا شاهده قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) [ الكهف : 49 ] فهذا آخر أمره ، وهو معنى قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=22ثم إذا شاء أنشره ) [ عبس : 22 ] فما لمن هذا حاله والتكبر والتعظم ؟ ، بل ما له وللفرح فضلا عن البطر ؟ فقد ظهر له أول حاله ووسطه ، ولو ظهر آخره والعياذ بالله تعالى ربما اختار أن يصير مع البهائم ترابا ، ولا يكون إنسانا يسمع خطابا أو يلقى عذابا . فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفو الله عنه ، وهو على شك من العفو فكيف يفرح ويبطر ؟ وكيف يتكبر ويتجبر ؟ حقا يكفيه ذلك حزنا وخوفا وإشفاقا ومهانة وذلا . فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر .
وأما العلاج العملي : فهو التواضع لله بالفعل ، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق
[ ص: 250 ] المتواضعين كما وصفناه من شمائل رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أحوال الصالحين ، ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل ، ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعا ، وقيل : الصلاة عماد الدين ، وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عمادا ، ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائما وبالركوع وبالسجود ، وقد كان العرب قديما يأنفون من الانحناء فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه ، وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه ، فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم ويزول كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم . وبه أمر سائر الخلق .
المقام الثاني : فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المتقدمة :
ذكرنا في كتاب ذم الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل ، فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي ، ونحن نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في جميع أسبابه السبعة :
الأول النسب : فمن يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه بمعرفة أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره ، ومن كان خسيسا فمن أين تجبر خسته بكمال غيره وبمعرفة نسبه الحقيقي أعني أباه وجده ، فإن أباه القريب نطفة قذرة ، وجده البعيد تراب ، وقد عرف الله تعالى نسبه فقال (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7وبدأ خلق الإنسان من طين nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) [ السجدة : 7 ، 8 ] فإذا كان أصله من التراب وفصله من النطفة فمن أين تأتيه الرفعة ؟ فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ، ومن عرفه لا يتكبر بالنسب .
الثاني الكبر بالجمال : ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ، ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم ، ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال ، إذ خلق من أقذار ووكل به في جميع أجزائه الأقذار ، وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار ، وجماله لا بقاء له ، بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو سبب من الأسباب ، فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب . فمعرفة ذلك تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها .
الثالث الكبر بالقوة : ويمنعه من ذلك أن يعلم ما سلط الله عليه من العلل والأمراض ، وأنه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كل عاجز ، أو أن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته ، وأن حمى يوم تحلل من قوته ما لا ينجبر في مدة ; فمن لا يطيق شوكة ، ولا يقاوم بقة فلا ينبغي أن يفتخر بقوته . ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل ، وأي افتخار في صفة يسبقك بها البهائم .
السبب الرابع والخامس الغنى وكثرة المال : وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار ، والتكبر بالمناصب والولايات ، وكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان ، وهذا أقبح أنواع الكبر ، فلو ذهب ماله أو احترقت داره لعاد ذليلا ، وكم في
اليهود من يزيد عليه في الغنى والثروة والتجمل ، فأف لشرف يسبقه به يهودي ، أو يأخذه سارق في لحظة فيعود ذليلا مفلسا .
[ ص: 251 ] السادس الكبر بالعلم : وهو أعظم الآفات وعلاجه بأمرين :
أحدهما أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد ، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم ، فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش وخطره أعظم .
ثانيهما : أن يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده ، وأنه إذا تكبر صار ممقوتا عن الله بغيضا ، فهذا مما يزيل التكبر ويبعث على التواضع . وإذا دعته نفسه للتكبر على فاسق أو مبتدع فليتذكر ما سبق من ذنوبه وخطاياه لتصغر نفسه في عينه ، وليلاحظ إبهام عاقبته وعاقبة الآخر فلعله يختم له بالسوء ولذاك بالحسنى ، حتى يشغله الخوف عن التكبر عليه ، ولا يمنعه ترك التكبر عليه أن يكرهه ، ويغضب لفسقه ، بل يبغضه ويغضب لربه إذ أمره أن يغضب عليه من غير تكبر عليه .
السابع : التكبر بالورع والعبادة : وذلك فتنة عظيمة على العباد ، وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه : " ما تم عقل عبد حتى يكون فيه خصال " وعد منها خصلة قال : " بها ساد مجده ، وبها علا ذكره أن يرى الناس كلهم خيرا منه ، وإنما الناس عنده فرقتان : فرقة هي أفضل منه وأرفع ، وفرقة هي شر منه وأدنى ، فهو يتواضع للفرقتين جميعا بقلبه ، وإن رأى من هو خير منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به ، وإن رأى من هو شر منه قال : لعل هذا ينجو وأهلك أنا ، فلا تراه إلا خائفا من العاقبة ، ويقول : لعل بر هذا باطن فذلك خير له ، ولا أدري لعل فيه خلقا كريما بينه وبين الله فيرحمه الله ويتوب عليه ، ويختم له بأحسن الأعمال ، وبري ظاهر فذلك شر لي ، فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها " ، قال : " فحينئذ كمل عقله وساد أهل زمانه " .
والذي يدل على فضيلة هذا الإشفاق قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=60يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ) [ المؤمنون : 60 ] أي أنهم يؤتون الطاعات وهم على وجل عظيم من قبولها ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=57إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ) [ المؤمنون : 57 ] وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=26إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ) [ الطور : 26 ] .
وقد وصف الله تعالى الملائكة عليهم السلام مع تقدسهم عن الذنوب ومواظبتهم على العبادات بالدؤوب على الإشفاق فقال تعالى مخبرا عنهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=20يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ الأنبياء : 20 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28وهم من خشيته مشفقون ) [ الأنبياء : 28 ] فمتى زال الإشفاق والحذر غلب الأمن من مكر الله ، وذلك يوجب الكبر ، وهو سبب الهلاك ،
nindex.php?page=treesubj&link=19540_18682_29649فالكبر دليل الأمن والأمن مهلك ، والتواضع دليل الخوف ، وهو مسعد .
فإذن ما يفسده العباد بإضمار الكبر واحتقار الخلق أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال .
فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب ، إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد تضمر التواضع ، وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة ، فإذا وقعت الواقعة عادت إلى طبعها ، فعن هذا لا
[ ص: 252 ] ينبغي أن يكتفى في المداواة بمجرد المعرفة ، بل ينبغي أن تكمل بالعمل ، وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر من النفس ، وبيانه أن يمتحن النفس بالامتحانات الدالة على استخراج ما في الباطن ، والامتحانات كثيرة ، فمنها وهو أولها : أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه ، فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والشكر له على تنبيه فذلك يدل على أن فيه كبرا دفينا ، فليتق الله فيه ويشتغل بعلاجه .
أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه ، وخطر عاقبته وأن
nindex.php?page=treesubj&link=29691_18682الكبر لا يليق إلا بالله تعالى .
وأما العمل فبأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق ، وأن يطلق اللسان بالحمد والثناء ، ويقر على نفسه بالعجز ، ويشكره على الاستفادة ويقول : " ما أحسن ما فطنت له ، وقد كنت غافلا عنه فجزاك الله خيرا كما نبهتني له " فالحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها ينبغي أن يشكر من دله عليها .
فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعا ، وسقط ثقل الحق عن قلبه ، وطاب له قبوله ، ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه بما فيهم ففيه كبر .
الامتحان الثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=18689_19539يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ، ويمشي خلفهم ، ويجلس في الصدور تحتهم ، فإن ثقل ذلك عليه فهو متكبر . فليواظب عليه تكلفا حتى يسقط عنه ثقله ، فبذلك يزايله الكبر .
وهاهنا للشيطان مكيدة ، وهو أن يجلس في صف النعال أو يجلس بينه وبين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضع ، وهو عين الكبر ، فإن ذلك يخف على نفوس المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل فيكون قد تكبر بإظهار التواضع أيضا ، بل ينبغي أن يقدم أقرانه ، ويجلس بجنبهم ، ولا ينحط عنهم إلى صف النعال ، فذلك هو الذي يخرج خبث الكبر من الباطن .
الامتحان الثالث : أن يجيب دعوة الفقير ، ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب ، فإن ثقل ذلك عليه فهو كبر ، فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق ، والثواب عليها جزيل ، فنفور النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن ، فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر .
الامتحان الرابع : أن
nindex.php?page=treesubj&link=18689يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت ، فإن أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء .
وكل ذلك من أمراض القلوب وعلله المهلكة له إن لم تتدارك . وقد أهمل الناس طب القلوب واشتغلوا بطب الأجساد مع أن الأجساد قد كتب عليها الموت لا محالة ، والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها إذ قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=89إلا من أتى الله بقلب سليم ) [ الشعراء : 89 ] .
بَيَانُ الطَّرِيقِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=18689_19539مُعَالَجَةِ الْكِبْرِ وَاكْتِسَابِ التَّوَاضُعِ :
اعْلَمْ أَنَّ الْكِبْرَ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ وَإِزَالَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ ، وَلَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ التَّمَنِّي ، بَلْ بِالْمُعَالَجَةِ ، وَفِي مُعَالَجَتِهِ مَقَامَانِ :
أَحَدُهُمَا : قَلْعُ شَجَرَتِهِ مِنْ مَغْرِسِهَا فِي الْقَلْبِ .
الثَّانِي : دَفْعُ الْعَارِضِ مِنْهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ يُتَكَبَّرُ بِهَا .
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي اسْتِئْصَالِ أَصْلِهِ :
عِلَاجُهُ عِلْمِيٌّ وَعَمَلِيٌّ ، وَلَا يَتِمُّ الشِّفَاءُ إِلَّا بِمَجْمُوعِهِمَا :
أَمَّا الْعِلْمِيُّ : فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَيَعْرِفَ رَبَّهُ تَعَالَى ، وَيَكْفِيهِ ذَلِكَ فِي إِزَالَةِ الْكِبْرِ ، فَإِنَّهُ مَهْمَا عَرَفَ نَفْسَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا التَّوَاضُعُ ، وَإِذَا عَرَفَ رَبَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَلِيقُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ إِلَّا بِاللَّهِ . أَمَّا مَعْرِفَتُهُ رَبَّهُ وَعَظَمَتَهُ وَمَجْدَهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ يَطُولُ ، وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ نَفْسَهُ فَهُوَ أَيْضًا يَطُولُ وَلَكُنَّا نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَنْفَعُ فِي إِثَارَةِ التَّوَاضُعِ ، وَيَكْفِيهِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى آيَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِمَنْ فُتِحَتْ بَصِيرَتُهُ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=17قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=18مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=19مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=20ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=21ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=22ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) [ عَبَسَ : 17 22 ] فَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَوَّلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَإِلَى آخِرِ أَمْرِهِ وَإِلَى وَسَطِهِ ، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ لِيَفْهَمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ ، أَمَّا أَوَّلُ الْإِنْسَانِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، وَقَدْ كَانَ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ دُهُورًا ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَخَسُّ مِنَ الْعَدَمِ ، ثُمَّ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ أَقْذَرِ الْأَشْيَاءِ إِذْ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ثُمَّ جَعَلَهُ عَظْمًا ثُمَّ كَسَا الْعَظْمَ لَحْمًا ، فَهَذَا بِدَايَةُ وُجُودِهِ ، فَمَا صَارَ شَيْئًا مَذْكُورًا إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَخَسِّ الْأَوْصَافِ وَالنُّعُوتِ ، إِذْ لَمْ يُخْلَقْ فِي ابْتِدَائِهِ كَامِلًا ، بَلْ خَلَقَهُ جَمَادًا مَيِّتًا لَا يَسْمَعُ ، وَلَا يُبْصِرُ ، وَلَا يُحِسُّ ، وَلَا يَتَحَرَّكُ ، وَلَا يَنْطِقُ ، وَلَا يَبْطِشُ ، وَلَا يُدْرِكُ ، وَلَا يَعْلَمُ ، فَبَدَأَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ حَيَاتِهِ ، وَبِضَعْفِهِ قَبْلَ قُوَّتِهِ ، وَبِجَهْلِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ ، وَبِعَمَاهُ قَبْلَ بَصَرِهِ ، وَبِصَمَمِهِ قَبْلَ سَمْعِهِ ، وَبِبَكَمِهِ قَبْلَ نُطْقِهِ ، وَبِضَلَالِهِ قَبْلَ هُدَاهُ ، وَبِفَقْرِهِ قَبْلَ غِنَاهُ ، وَبِعَجْزِهِ قَبْلَ قُدْرَتِهِ ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=18مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=19مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) [ عَبَسَ : 18 ، 19 ] ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=20ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) [ عَبَسَ : 20 ] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَيَسَّرَ لَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ إِلَى الْمَوْتِ . وَإِنَّمَا خَلَقَهُ مِنَ التُّرَابِ الذَّلِيلِ الَّذِي يُوطَأُ بِالْأَقْدَامِ وَالنُّطْفَةِ الْقَذِرَةِ بَعْدَ عَدَمِهَا لِيَعْرِفَ خِسَّةَ ذَاتِهِ فَيَعْرِفَ بِهَا ذَاتَهُ ، فَيَعْرِفَ بِهَا نَفْسَهُ ، وَإِنَّمَا أَكْمَلَ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ لِيَعْرِفَ بِهَا رَبَّهُ وَيَعْلَمَ بِهَا عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ الْكِبْرِيَاءُ إِلَّا بِهِ جَلَّ وَعَلَا .
[ ص: 249 ] فَمَنْ كَانَ هَذَا بَدْأَهُ وَهَذِهِ أَحْوَالَهُ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْبَطَرُ وَالْكِبْرِيَاءُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ ، وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ أَضْعَفُ الضُّعَفَاءِ ، وَلَكِنَّ هَذِهِ عَادَةُ الْخَسِيسِ إِذَا رُفِعَ مِنْ خِسَّتِهِ شَمَخَ بِأَنْفِهِ وَتَعَظَّمَ ، وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ خِسَّةِ أَوَّلِهِ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ .
نَعَمْ ، لَوْ أَكْمَلَهُ وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَهُ وَأَدَامَ لَهُ الْوُجُودَ بِاخْتِيَارِهِ لَجَازَ أَنْ يَطْغَى وَيَنْسَى الْمَبْدَأَ وَالْمُنْتَهَى ، وَلَكِنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِ فِي دَوَامِ وُجُودِهِ الْأَمْرَاضَ وَالْآفَاتِ يَهْدِمُ الْبَعْضُ مِنْ أَجْزَائِهِ الْبَعْضَ شَاءَ أَمْ أَبَى ، فَيَجُوعُ كُرْهًا وَيَعْطَشُ كُرْهًا ، وَيَمْرَضُ كُرْهًا ، وَيَمُوتُ كُرْهًا ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا ، وَلَا ضَرًّا ، وَلَا خَيْرًا ، وَلَا شَرًّا .
يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ فَيَجْهَلُهُ ، وَيُرِيدُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ فَيَنْسَاهُ ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْسَى الشَّيْءَ وَيَغْفُلُ عَنْهُ فَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ ، وَلَا يَأْمَنُ فِي لَحْظَةٍ مِنْ لَيْلِهِ أَوْ نَهَارِهِ أَنْ يُسْلَبَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ ، وَتُفَلَّجَ أَعْضَاؤُهُ ، وَيُخْتَلَسَ عَقْلُهُ ، وَيُخْتَطَفَ رُوحُهُ ، وَيُسْلَبَ جَمِيعَ مَا يَهْوَاهُ فِي دُنْيَاهُ ، فَهُوَ مُضْطَرٌّ ذَلِيلٌ ، إِنْ تُرِكَ بَقِيَ وَإِنِ اخْتُطِفَ فَنِيَ ، عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ ، وَلَا شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَذَلُّ مِنْهُ لَوْ عَرَفَ نَفْسَهُ ، وَأَنَّى يَلِيقُ الْكِبْرُ بِهِ لَوْلَا جَهْلُهُ ، فَهَذَا وَسَطُ أَحْوَالِهِ فَلْيَتَأَمَّلْهُ . وَأَمَّا آخِرُهُ فَهُوَ الْمَوْتُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=21ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=22ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) [ عَبَسَ : 21 22 ] وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُسْلَبُ رُوحَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَعِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَحِسَّهُ وَإِدْرَاكَهُ وَحَرَكَتَهُ فَيَعُودُ جَمَادًا كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، لَا يَبْقَى إِلَّا شَكْلُ أَعْضَائِهِ وَصُورَتِهِ ، لَا حِسَّ فِيهِ ، وَلَا حَرَكَةَ ، ثُمَّ يُوضَعُ فِي التُّرَابِ فَيَصِيرُ جِيفَةً مُنْتِنَةً قَذِرَةً ، ثُمَّ تَبْلَى أَعْضَاؤُهُ ، وَتَتَفَتَّتُ أَجْزَاؤُهُ ، وَتَنْخُرُ عِظَامُهُ ، وَيَأْكُلُ الدُّودُ أَجْزَاءَهُ فَيَصِيرُ رَوْثًا فِي أَجْوَافِ الدِّيدَانِ وَيَكُونُ جِيفَةً يَهْرُبُ مِنْهُ الْحَيَوَانُ ، وَيَسْتَقْذِرُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ وَيَهْرُبُ مِنْهُ لِشِدَّةِ الْإِنْتَانِ ، وَلَيْتَهُ بَقِيَ كَذَلِكَ فَمَا أَحْسَنَهُ لَوْ تُرِكَ ، لَا ، بَلْ يُحْيِيهِ بَعْدَ طُولِ الْبِلَى لِيُقَاسِيَ شَدِيدَ الْبَلَا ، فَيَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ بَعْدَ جَمْعِ أَجْزَائِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ ، وَيَخْرُجُ إِلَى أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ فَيَنْظُرُ إِلَى قِيَامَةٍ قَائِمَةٍ ، وَسَمَاءٍ مُشَقَّقَةٍ مُمَزَّقَةٍ ، وَأَرْضٍ مُبَدَّلَةٍ ، وَجِبَالٍ مُسَيَّرَةٍ ، وَنُجُومٍ مُنْكَدِرَةٍ ، وَشَمْسٍ مُنْكَسِفَةٍ ، وَأَحْوَالٍ مُظْلِمَةٍ ، وَمَلَائِكَةٍ غِلَاظٍ شِدَادٍ ، وَجَهَنَّمَ تَزْفِرُ ، وَجَنَّةٍ يَنْظُرُ إِلَيْهَا الْمُجْرِمُ فَيَتَحَسَّرُ ، وَيَرَى صَحَائِفَ مَنْشُورَةً ، فَيُقَالُ لَهُ : اقْرَأْ كِتَابَكَ ، فَيَقُولُ : " وَمَا هُوَ " ؟ فَيُقَالُ : كَانَ قَدْ وُكِّلَ بِكَ فِي حَيَاتِكَ الَّتِي كُنْتَ تَتَكَبَّرُ بِنَعِيمِهَا وَتَفْتَخِرُ بِأَسْبَابِهَا مَلَكَانِ رَقِيبَانِ يَكْتُبَانِ عَلَيْكَ مَا تَنْطِقُ بِهِ أَوْ تَعْمَلُهُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، قَدْ نَسِيتَ ذَلِكَ وَأَحْصَاهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، فَهَلُمَّ إِلَى الْحِسَابِ ، وَاسْتَعِدَّ لِلْجَوَابِ ، أَوْ تُسَاقُ إِلَى دَارِ الْعَذَابِ ، فَيَنْقَطِعُ قَلْبُهُ فَزَعًا مِنْ هَوْلِ هَذَا الْخِطَابِ قَبْلَ أَنْ تَنْتَشِرَ الصَّحِيفَةُ وَيُشَاهِدَ مَا فِيهَا مِنْ مَخَازِيهِ ، فَإِذَا شَاهَدَهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ) [ الْكَهْفِ : 49 ] فَهَذَا آخِرُ أَمْرِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=22ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) [ عَبَسَ : 22 ] فَمَا لِمَنْ هَذَا حَالُهُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّعَظُّمُ ؟ ، بَلْ مَا لَهُ وَلِلْفَرَحِ فَضْلًا عَنِ الْبَطَرِ ؟ فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ أَوَّلُ حَالِهِ وَوَسَطُهُ ، وَلَوْ ظَهَرَ آخِرُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى رُبَّمَا اخْتَارَ أَنْ يَصِيرَ مَعَ الْبَهَائِمِ تُرَابًا ، وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا يَسْمَعُ خِطَابًا أَوْ يَلْقَى عَذَابًا . فَمَنْ هَذَا حَالُهُ فِي الْعَاقِبَةِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنَ الْعَفْوِ فَكَيْفَ يَفْرَحُ وَيَبْطَرُ ؟ وَكَيْفَ يَتَكَبَّرُ وَيَتَجَبَّرُ ؟ حَقًّا يَكْفِيهِ ذَلِكَ حُزْنًا وَخَوْفًا وَإِشْفَاقًا وَمَهَانَةً وَذُلًّا . فَهَذَا هُوَ الْعِلَاجُ الْعِلْمِيُّ الْقَامِعُ لِأَصْلِ الْكِبْرِ .
وَأَمَّا الْعِلَاجُ الْعَمَلِيُّ : فَهُوَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ بِالْفِعْلِ ، وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَخْلَاقِ
[ ص: 250 ] الْمُتَوَاضِعِينَ كَمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ شَمَائِلِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَحْوَالِ الصَّالِحِينَ ، وَلَا يَتِمُّ التَّوَاضُعُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ إِلَّا بِالْعَمَلِ ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ الْعَرَبُ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْإِيمَانِ وَبِالصَّلَاةِ جَمِيعًا ، وَقِيلَ : الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ ، وَفِي الصَّلَاةِ أَسْرَارٌ لِأَجْلِهَا كَانَتْ عِمَادًا ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا فِيهَا مِنَ التَّوَاضُعِ بِالْمُثُولِ قَائِمًا وَبِالرُّكُوعِ وَبِالسُّجُودِ ، وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ قَدِيمًا يَأْنَفُونَ مِنَ الِانْحِنَاءِ فَكَانَ يَسْقُطُ مِنْ يَدِ الْوَاحِدِ سَوْطُهُ فَلَا يَنْحَنِي لِأَخْذِهِ ، وَيَنْقَطِعُ شِرَاكُ نَعْلِهِ فَلَا يُنَكِّسُ رَأْسَهُ لِإِصْلَاحِهِ ، فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُمْ هُوَ مُنْتَهَى الذِّلَّةِ وَالضَّعَةِ أُمِرُوا بِهِ لِتَنْكَسِرَ بِذَلِكَ خُيَلَاؤُهُمْ وَيَزُولَ كِبْرُهُمْ وَيَسْتَقِرَّ التَّوَاضُعُ فِي قُلُوبِهِمْ . وَبِهِ أُمِرَ سَائِرُ الْخَلْقِ .
الْمَقَامُ الثَّانِي : فِيمَا يَعْرِضُ مِنَ التَّكَبُّرِ بِالْأَسْبَابِ السَّبْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ :
ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ ذَمِّ الْجَاهِ أَنَّ الْكَمَالَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ ، فَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِمَّا يَفْنَى بِالْمَوْتِ فَكَمَالٌ وَهْمِيٌّ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ طَرِيقَ الْعِلَاجِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي جَمِيعِ أَسْبَابِهِ السَّبْعَةِ :
الْأَوَّلُ النَّسَبُ : فَمَنْ يَعْتَرِيهِ الْكِبْرُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ فَلْيُدَاوِ قَلْبَهُ بِمَعْرِفَةِ أَنَّ هَذَا جَهْلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَزَّزَ بِكَمَالِ غَيْرِهِ ، وَمَنْ كَانَ خَسِيسًا فَمِنْ أَيْنَ تُجْبَرُ خِسَّتُهُ بِكَمَالِ غَيْرِهِ وَبِمَعْرِفَةِ نَسَبِهِ الْحَقِيقِيِّ أَعْنِي أَبَاهُ وَجَدَّهُ ، فَإِنَّ أَبَاهُ الْقَرِيبَ نُطْفَةٌ قَذِرَةٌ ، وَجَدَّهُ الْبَعِيدَ تُرَابٌ ، وَقَدْ عَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَسَبَهُ فَقَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) [ السَّجْدَةِ : 7 ، 8 ] فَإِذَا كَانَ أَصْلُهُ مِنَ التُّرَابِ وَفَصْلُهُ مِنَ النُّطْفَةِ فَمِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِ الرِّفْعَةُ ؟ فَهَذَا هُوَ النَّسَبُ الْحَقِيقِيُّ لِلْإِنْسَانِ ، وَمَنْ عَرَفَهُ لَا يَتَكَبَّرُ بِالنَّسَبِ .
الثَّانِي الْكِبْرُ بِالْجَمَالِ : وَدَوَاؤُهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَاطِنِهِ نَظَرَ الْعُقَلَاءِ ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَى الظَّاهِرِ نَظَرَ الْبَهَائِمِ ، وَمَهْمَا نَظَرَ إِلَى بَاطِنِهِ رَأَى مِنَ الْقَبَائِحِ مَا يُكَدِّرُ عَلَيْهِ تَعَزُّزَهُ بِالْجَمَالِ ، إِذْ خُلِقَ مِنْ أَقْذَارٍ وَوُكِّلَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ الْأَقْذَارُ ، وَسَيَمُوتُ فَيَصِيرُ جِيفَةً أَقْذَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَقْذَارِ ، وَجَمَالُهُ لَا بَقَاءَ لَهُ ، بَلْ هُوَ فِي كُلِّ حِينٍ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَزُولَ بِمَرَضٍ أَوْ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ ، فَكَمْ مِنْ وُجُوهٍ جَمِيلَةٍ قَدْ سَمُجَتْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ . فَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ تَنْزِعُ مِنَ الْقَلْبِ دَاءَ الْكِبْرِ بِالْجَمَالِ لِمَنْ أَكْثَرَ تَأَمُّلَهَا .
الثَّالِثُ الْكِبْرُ بِالْقُوَّةِ : وَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ مَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ ، وَأَنَّهُ لَوْ تَوَجَّعَ عِرْقٌ وَاحِدٌ فِي يَدِهِ لَصَارَ أَعْجَزَ مِنْ كُلِّ عَاجِزٍ ، أَوْ أَنَّ شَوْكَةً لَوْ دَخَلَتْ فِي رِجْلِهِ لَأَعْجَزَتْهُ ، وَأَنَّ حُمَّى يَوْمٍ تُحَلِّلُ مِنْ قُوَّتِهِ مَا لَا يَنْجَبِرُ فِي مُدَّةٍ ; فَمَنْ لَا يُطِيقُ شَوْكَةً ، وَلَا يُقَاوِمُ بَقَّةً فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْتَخِرَ بِقُوَّتِهِ . ثُمَّ إِنْ قَوِيَ الْإِنْسَانُ فَلَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حِمَارٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ فِيلٍ أَوْ جَمَلٍ ، وَأَيُّ افْتِخَارٍ فِي صِفَةٍ يَسْبِقُكَ بِهَا الْبَهَائِمُ .
السَّبَبُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْغِنَى وَكَثْرَةُ الْمَالِ : وَفِي مَعْنَاهُ كَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ ، وَالتَّكَبُّرُ بِالْمَنَاصِبِ وَالْوِلَايَاتِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَبُّرٌ بِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْإِنْسَانِ ، وَهَذَا أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ ، فَلَوْ ذَهَبَ مَالُهُ أَوِ احْتَرَقَتْ دَارُهُ لَعَادَ ذَلِيلًا ، وَكَمْ فِي
الْيَهُودِ مَنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ وَالتَّجَمُّلِ ، فَأُفٍّ لِشَرَفٍ يَسْبِقُهُ بِهِ يَهُودِيٌّ ، أَوْ يَأْخُذُهُ سَارِقٌ فِي لَحْظَةٍ فَيَعُودُ ذَلِيلًا مُفْلِسًا .
[ ص: 251 ] السَّادِسُ الْكِبْرُ بِالْعِلْمِ : وَهُوَ أَعْظَمُ الْآفَاتِ وَعِلَاجُهُ بِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ آكَدُ ، وَأَنَّهُ يُحْتَمَلُ مِنَ الْجَاهِلِ مَا لَا يُحْتَمَلُ عُشْرُهُ مِنَ الْعَالِمِ ، فَإِنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى عَنْ مَعْرِفَةٍ وَعِلْمٍ فَجِنَايَتُهُ أَفْحَشُ وَخَطَرُهُ أَعْظَمُ .
ثَانِيهِمَا : أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْكِبْرَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ ، وَأَنَّهُ إِذَا تَكَبَّرَ صَارَ مَمْقُوتًا عَنِ اللَّهِ بَغِيضًا ، فَهَذَا مِمَّا يُزِيلُ التَّكَبُّرَ وَيَبْعَثُ عَلَى التَّوَاضُعِ . وَإِذَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ لِلتَّكَبُّرِ عَلَى فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ فَلْيَتَذَكَّرْ مَا سَبَقَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ لِتَصْغُرَ نَفْسُهُ فِي عَيْنِهِ ، وَلِيُلَاحِظَ إِبْهَامَ عَاقِبَتِهِ وَعَاقِبَةِ الْآخَرِ فَلَعَلَّهُ يُخْتَمُ لَهُ بِالسُّوءِ وَلِذَاكَ بِالْحُسْنَى ، حَتَّى يَشْغَلَهُ الْخَوْفُ عَنِ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَمْنَعُهُ تَرْكُ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ أَنْ يَكْرَهَهُ ، وَيَغْضَبَ لِفِسْقِهِ ، بَلْ يُبْغِضُهُ وَيَغْضَبُ لِرَبِّهِ إِذْ أَمَرَهُ أَنْ يَغْضَبَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ عَلَيْهِ .
السَّابِعُ : التَّكَبُّرُ بِالْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ : وَذَلِكَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْعِبَادِ ، وَسَبِيلُهُ أَنْ يُلْزِمَ قَلْبَهُ التَّوَاضُعَ لِسَائِرِ الْعِبَادِ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : " مَا تَمَّ عَقْلُ عَبْدٍ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خِصَالٌ " وَعَدَّ مِنْهَا خَصْلَةً قَالَ : " بِهَا سَادَ مَجْدُهُ ، وَبِهَا عَلَا ذِكْرُهُ أَنْ يَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ خَيْرًا مِنْهُ ، وَإِنَّمَا النَّاسُ عِنْدَهُ فِرْقَتَانِ : فِرْقَةٌ هِيَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَرْفَعُ ، وَفِرْقَةٌ هِيَ شَرٌّ مِنْهُ وَأَدْنَى ، فَهُوَ يَتَوَاضَعُ لِلْفِرْقَتَيْنِ جَمِيعًا بِقَلْبِهِ ، وَإِنْ رَأَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ سَرَّهُ ذَلِكَ وَتَمَنَّى أَنْ يَلْحَقَ بِهِ ، وَإِنْ رَأَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ قَالَ : لَعَلَّ هَذَا يَنْجُو وَأَهْلِكُ أَنَا ، فَلَا تَرَاهُ إِلَّا خَائِفًا مِنَ الْعَاقِبَةِ ، وَيَقُولُ : لَعَلَّ بِرَّ هَذَا بَاطِنٌ فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ ، وَلَا أَدْرِي لَعَلَّ فِيهِ خُلُقًا كَرِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَتُوبَ عَلَيْهِ ، وَيَخْتِمَ لَهُ بِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ ، وَبِرِّي ظَاهِرٌ فَذَلِكَ شَرٌّ لِي ، فَلَا يَأْمَنُ فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنَ الطَّاعَةِ أَنْ يَكُونَ دَخَلَهَا الْآفَاتُ فَأَحْبَطَتْهَا " ، قَالَ : " فَحِينَئِذٍ كَمُلَ عَقْلُهُ وَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ " .
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ هَذَا الْإِشْفَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=60يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) [ الْمُؤْمِنُونَ : 60 ] أَيْ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَ الطَّاعَاتِ وَهُمْ عَلَى وَجَلٍ عَظِيمٍ مِنْ قَبُولِهَا ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=57إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) [ الْمُؤْمِنُونَ : 57 ] وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=26إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ) [ الطُّورِ : 26 ] .
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعَ تَقَدُّسِهِمْ عَنِ الذُّنُوبِ وَمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى الْعِبَادَاتِ بِالدَّؤُوبِ عَلَى الْإِشْفَاقِ فَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=20يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 20 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 28 ] فَمَتَى زَالَ الْإِشْفَاقُ وَالْحَذَرُ غَلَبَ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكِبْرَ ، وَهُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19540_18682_29649فَالْكِبْرُ دَلِيلُ الْأَمْنِ وَالْأَمْنُ مُهْلِكٌ ، وَالتَّوَاضُعُ دَلِيلُ الْخَوْفِ ، وَهُوَ مُسْعِدٌ .
فَإِذَنْ مَا يُفْسِدُهُ الْعِبَادُ بِإِضْمَارِ الْكِبْرِ وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِظَاهِرِ الْأَعْمَالِ .
فَهَذِهِ مَعَارِفُ بِهَا يُزَالُ دَاءُ الْكِبْرِ عَنِ الْقَلْبِ ، إِلَّا أَنَّ النَّفْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ قَدْ تُضْمِرُ التَّوَاضُعَ ، وَتَدَّعِي الْبَرَاءَةَ مِنَ الْكِبْرِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ عَادَتْ إِلَى طَبْعِهَا ، فَعَنْ هَذَا لَا
[ ص: 252 ] يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي الْمُدَاوَاةِ بِمُجَرَّدِ الْمَعْرِفَةِ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَكْمُلَ بِالْعَمَلِ ، وَتُجَرَّبَ بِأَفْعَالِ الْمُتَوَاضِعِينَ فِي مَوَاقِعِ هَيَجَانِ الْكِبْرِ مِنَ النَّفْسِ ، وَبَيَانُهُ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّفْسَ بِالِامْتِحَانَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِخْرَاجٍ مَا فِي الْبَاطِنِ ، وَالِامْتِحَانَاتُ كَثِيرَةٌ ، فَمِنْهَا وَهُوَ أَوَّلُهَا : أَنْ يُنَاظِرَ فِي مَسْأَلَةٍ مَعَ وَاحِدٍ مِنْ أَقْرَانِهِ ، فَإِنْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِهِ فَثَقُلَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَنْبِيهٍ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ كِبْرًا دَفِينًا ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِيهِ وَيَشْتَغِلْ بِعِلَاجِهِ .
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ فَبِأَنْ يُذَكِّرَ نَفْسَهُ خِسَّةَ نَفْسِهِ ، وَخَطَرَ عَاقِبَتِهِ وَأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29691_18682الْكِبْرَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا الْعَمَلُ فَبِأَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ ، وَأَنْ يُطْلِقَ اللِّسَانَ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ ، وَيُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَجْزِ ، وَيَشْكُرَهُ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ وَيَقُولَ : " مَا أَحْسَنَ مَا فَطِنْتَ لَهُ ، وَقَدْ كُنْتُ غَافِلًا عَنْهُ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا كَمَا نَبَّهْتَنِي لَهُ " فَالْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَإِذَا وَجَدَهَا يَنْبَغِيَ أَنْ يَشْكُرَ مَنْ دَلَّهُ عَلَيْهَا .
فَإِذَا وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَةً صَارَ ذَلِكَ لَهُ طَبْعًا ، وَسَقَطَ ثِقَلُ الْحَقِّ عَنْ قَلْبِهِ ، وَطَابَ لَهُ قَبُولُهُ ، وَمَهْمَا ثَقُلَ عَلَيْهِ الثَّنَاءُ عَلَى أَقْرَانِهِ بِمَا فِيهِمْ فَفِيهِ كِبْرٌ .
الِامْتِحَانُ الثَّانِي : أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=18689_19539يَجْتَمِعَ مَعَ الْأَقْرَانِ وَالْأَمْثَالِ فِي الْمَحَافِلِ وَيُقَدِّمَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ ، وَيَمْشِيَ خَلْفَهُمْ ، وَيَجْلِسَ فِي الصُّدُورِ تَحْتَهُمْ ، فَإِنْ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ . فَلْيُوَاظِبْ عَلَيْهِ تَكَلُّفًا حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهُ ثِقَلُهُ ، فَبِذَلِكَ يُزَايِلُهُ الْكِبْرُ .
وَهَاهُنَا لِلشَّيْطَانِ مَكِيدَةٌ ، وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ فِي صَفِّ النِّعَالِ أَوْ يَجْلِسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَقْرَانِ بَعْضُ الْأَرْذَالِ فَيَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ تَوَاضُعٌ ، وَهُوَ عَيْنُ الْكِبْرِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُخِفُّ عَلَى نُفُوسِ الْمُتَكَبِّرِينَ إِذْ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا مَكَانَهُمْ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّفَضُّلِ فَيَكُونُ قَدْ تَكَبَّرَ بِإِظْهَارِ التَّوَاضُعِ أَيْضًا ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ أَقْرَانَهُ ، وَيَجْلِسَ بِجَنْبِهِمْ ، وَلَا يَنْحَطَّ عَنْهُمْ إِلَى صَفِّ النِّعَالِ ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُ خُبْثَ الْكِبْرِ مِنَ الْبَاطِنِ .
الِامْتِحَانُ الثَّالِثُ : أَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ الْفَقِيرِ ، وَيَمُرَّ إِلَى السُّوقِ فِي حَاجَةِ الرُّفَقَاءِ وَالْأَقَارِبِ ، فَإِنْ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَهُوَ كِبْرٌ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَالثَّوَابَ عَلَيْهَا جَزِيلٌ ، فَنُفُورُ النَّفْسِ عَنْهَا لَيْسَ إِلَّا لِخُبْثٍ فِي الْبَاطِنِ ، فَلْيَشْتَغِلْ بِإِزَالَتِهِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ مَعَ تَذَكُّرِ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي تُزِيلُ دَاءَ الْكِبْرِ .
الِامْتِحَانُ الرَّابِعُ : أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=18689يَحْمِلَ حَاجَةَ نَفْسِهِ وَحَاجَةَ أَهْلِهِ وَرُفَقَائِهِ مِنَ السُّوقِ إِلَى الْبَيْتِ ، فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُهُ ذَلِكَ فَهُوَ كِبْرٌ أَوْ رِيَاءٌ .
وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَعِلَلِهِ الْمُهْلِكَةِ لَهُ إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْ . وَقَدْ أَهْمَلَ النَّاسُ طِبَّ الْقُلُوبِ وَاشْتَغَلُوا بِطِبِّ الْأَجْسَادِ مَعَ أَنَّ الْأَجْسَادَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ لَا مَحَالَةَ ، وَالْقُلُوبُ لَا تُدْرِكُ السَّعَادَةَ إِلَّا بِسَلَامَتِهَا إِذْ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=89إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) [ الشُّعَرَاءِ : 89 ] .