المسألة السادسة : قال - رحمه الله - : الشافعي ، وقال الترتيب شرط لصحة الوضوء مالك - رحمهما الله - : ليس كذلك ، احتج وأبو حنيفة - رحمه الله - بهذه الآية على قوله من وجوه : الشافعي
الأول : أن قوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) يقتضي وجوب الابتداء بغسل الوجه لأن الفاء للتعقيب ، وإذا وجب الترتيب في هذا العضو وجب في غيره لأنه لا قائل بالفرق .
فإن قالوا : فاء التعقيب إنما دخلت في جملة هذه الأعمال فجرى الكلام مجرى أن يقال : إذا قمتم إلى الصلاة فأتوا بمجموع هذه الأفعال .
قلنا : فاء التعقيب إنما دخلت على الوجه لأن هذه الفاء ملتصقة بذكر الوجه ، ثم إن هذه الفاء بواسطة دخولها على الوجه دخلت على سائر الأعمال ، وعلى هذا دخول الفاء في غسل الوجه أصل ، ودخولها على مجموع هذه الأفعال تبع لدخولها على غسل الوجه ، ولا منافاة بين إيجاب تقديم غسل الوجه وبين إيجاب مجموع هذه الأفعال ، فنحن اعتبرنا دلالة هذه الفاء في الأصل والتبع ، وأنتم ألغيتموها في الأصل واعتبرتموها في التبع ، فكان قولنا أولى .
والوجه الثاني : أن نقول : وقعت البداءة في الذكر بالوجه ، فوجب أن تقع البداءة به في العمل لقوله : [ ص: 122 ] ( فاستقم كما أمرت ) [هود : 112] ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : " " وهذا الخبر وإن ورد في قصة ابدءوا بما بدأ الله به الصفا والمروة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، أقصى ما في الباب أنه مخصوص في بعض الصور لكن العام حجة في غير محل التخصيص .
والثالث : أنه تعالى ذكر هذه الأعضاء لا على وفق الترتيب المعتبر في الحس ، ولا على وفق الترتيب المعتبر في الشرع ، وذلك يدل على أن الترتيب واجب .
بيان المقدمة الأولى أن الترتيب المعتبر في الحس أن يبدأ من الرأس نازلا إلى القدم ، أو من القدم صاعدا إلى الرأس ، والترتيب المذكور في الآية ليس كذلك ، وأما الترتيب المعتبر في الشرع فهو أن يجمع بين الأعضاء المغسولة ، ويفرد الممسوحة عنها ، والآية ليست كذلك ، فإنه تعالى أدرج الممسوح في أثناء المغسولات .
إذا ثبت هذا فنقول : هذا يدل على أن الترتيب واجب ، والدليل عليه أن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح ، فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ، ترك العمل به فيما إذا صار ذلك محتملا للتنبيه على أن ذلك الترتيب واجب ، فيبقى في غير هذه الصورة على وفق الأصل .
الرابع : أن إيجاب الوضوء غير معقول المعنى ، وذلك يقتضي وجوب الإتيان به على الوجه الذي ورد في النص .
بيان المقام الأول من وجوه :
أحدها : أن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب من موضع آخر وهو خلاف المعقول .
وثانيها : أن أعضاء المحدث طاهرة لقوله تعالى : ( إنما المشركون نجس ) [التوبة : 28] وكلمة إنما للحصر ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا " وتطهير الطاهر محال .
وثالثها : أن ، ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة . الشرع أقام التيمم مقام الوضوء
ورابعها : أن ، ومعلوم أنه لا يفيد البتة في نفس العضو نظافة . الشرع أقام المسح على الخفين مقام الغسل
وخامسها : أن ، فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى ، وإذا ثبت هذا وجب الاعتماد فيه على مورد النص ، لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبرا إما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها ، فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة ، بل ههنا أولى ، لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى . الماء الكدر العفن يفيد الطهارة ، وماء الورد لا يفيدها
واحتج - رحمه الله - بهذه الآية على قوله فقال : الواو لا توجب الترتيب ، فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب ، فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص ، وهو نسخ وهو غير جائز . أبو حنيفة
وجوابنا : أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب والله أعلم .