( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ) .
قوله تعالى : ( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ) .
اعلم أن أولئك الكفار لما قالوا للرسل : ( وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) . قالت رسلهم : وهل وفاطرا لأنفسنا وأرواحنا وأرزاقنا وجميع مصالحنا ؟ وإنا لا ندعوكم إلا إلى عبادة هذا الإله المنعم ، ولا نمنعكم إلا عن عبادة غيره . وهذه المعاني يشهد صريح العقل بصحتها ، فكيف قلتم : ( تشكون في الله ، وفي كونه فاطر السماوات والأرض وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) ؟ وهذا النظم في غاية الحسن . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : ( أفي الله شك ) استفهام على سبيل الإنكار ، فلما ذكر هذا المعنى أردفه بالدلالة الدالة على وجود الصانع المختار ، وهو قوله : ( فاطر السماوات والأرض ) وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن وجود السماوات والأرض كيف يدل على احتياجه إلى الصانع المختار الحكيم مرارا وأطوارا فلا نعيدها ههنا .
المسألة الثانية : قال صاحب " الكشاف " : أدخلت همزة الإنكار على الظرف ؛ لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في أن وجود الله تعالى لا يحتمل الشك ، وأقول : من الناس من ذهب إلى أنه قبل الوقوف على الدلائل الدقيقة فالفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار ، ويدل على أن الفطرة الأولية شاهدة بذلك وجوه :
الوجه الأول : قال بعض العقلاء : إن من لطم على وجه صبي لطمة فتلك اللطمة تدل على وجوب الصانع وعلى حصول التكليف وعلى وجوب دار الجزاء وعلى وجوب النبي ، أما دلالتها على وجود [ ص: 73 ] الصانع المختار ، فلأن الصبي العاقل إذا وقعت اللطمة على وجهه يصيح ويقول : من الذي ضربني ؟ وما ذاك إلا أن شهادة فطرته تدل على أن اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل فعلها ، ولأجل مختار أدخلها في الوجود فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار ذلك الحادث مع قلته وحقارته إلى الفاعل فبأن تشهد كان أولى ، وأما دلالتها على وجوب التكليف ، فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول : لم ضربني ذلك الضارب ؟ وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ومندرجة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي فعل شاء واشتهى ، وأما دلالتها على وجوب حصول دار الجزاء فهو أن ذلك الصبي يطلب الجزاء على تلك اللطمة وما دام يمكنه طلب ذلك الجزاء فإنه لا يتركه ، فلما شهدت الفطرة الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع الأعمال كان أولى ، وأما دلالتها على وجوب النبوة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي يقدر هذه الأمور ويبين لهم هذه الأحكام ، فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأمور الأربعة . بافتقار جميع حوادث العالم إلى الفاعل
الوجه الثاني : في التنبيه على أن بديهي هو أن الفطرة شاهد بأن حدوث دار منقوشة بالنقوش العجيبة ، مبنية على التركيبات اللطيفة الموافقة للحكم والمصلحة يستحيل إلا عند وجود نقاش عالم ، وبان حكيم ، ومعلوم أن آثار الحكمة في العالم العلوي والسفلي أكثر من آثار الحكمة في تلك الدار المختصرة ، فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار النقش إلى النقاش ، والبناء إلى الباني ، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم كان أولى . الإقرار بوجود الصانع
الوجه الثالث : أن الإنسان إذا وقع في محنة شديدة وبلية قوية لا يبقى في ظنه رجاء المعاونة من أحد ، فكأنه بأصل خلقته ومقتضى جبلته يتضرع إلى من يخلصه منها ويخرجه عن علائقها وحبائلها ، وما ذاك إلا شهادة الفطرة بالافتقار إلى الصانع المدبر .
الوجه الرابع : أن الموجود إما أن يكون غنيا عن المؤثر أو لا يكون ، فإن كان غنيا عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته ، فإنه لا معنى للواجب لذاته إلا الموجود الذي لا حاجة به إلى غيره . وإن لم يكن غنيا عن المؤثر فهو محتاج ، والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه وذلك هو الصانع المختار .
الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجود الإله المختار المكلف ، وبوجود المعاد أحوط ، فوجب المصير إليه فهذه مراتب أربعة :
أولها : أن الإقرار بوجود الإله أحوط ، لأنه لو لم يكن موجودا فلا ضرر في الإقرار بوجوده وإن كان موجودا ففي إنكاره أعظم المضار .
وثانيها : الإقرار بكونه فاعلا مختارا لأنه لو كان موجبا فلا ضرر في الإقرار بكونه مختارا . أما لو كان مختارا ففي إنكار كونه مختارا أعظم المضار .
وثالثها : الإقرار بأنه كلف عباده ، لأنه لو لم يكلف أحدا من عبيده شيئا فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد ، أما إنه لو كلف ففي إنكار تلك التكاليف أعظم المضار .
ورابعها : الإقرار بوجود المعاد فإنه إن كان الحق أنه لا معاد فلا ضرر في الإقرار بوجوده ، لأنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية وهي حقيرة ومنقوصة وإن كان الحق هو وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار . فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه ؛ لأن بديهة العقل حاكمة بأنه يجب دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان .
[ ص: 74 ]