وثانيها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=28906قرئ ( nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35واجنبني ) وفيه ثلاث لغات : جنبه وأجنبه وجنبه . قال
الفراء :
أهل الحجاز يقول : جنبني يجنبني بالتخفيف .
وأهل نجد يقولون : جنبني شره وأجنبني شره ، وأصله جعل الشيء عن غيره على جانب وناحية .
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : الإشكال على هذه الآية من وجوه :
أحدها : أن
إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل
مكة آمنا ، وما قبل الله دعاءه ، لأن جماعة خربوا
الكعبة وأغاروا على
مكة .
وثانيها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28751الأنبياء عليهم السلام لا يعبدون الوثن البتة ، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله : اجنبني عن عبادة الأصنام ؟
وثالثها : أنه طلب من الله تعالى أن لا يجعل أبناءه من عبدة الأصنام ، والله تعالى لم يقبل دعاءه ، لأن كفار
قريش كانوا من أولاده ، مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام .
فإن قالوا : إنهم ما كانوا أبناء
إبراهيم وإنما كانوا أبناء أبنائه ، والدعاء مخصوص بالأبناء ، فنقول : فإذا كان المراد من أولئك الأبناء أبناءه من صلبه ، وهم ما كانوا إلا
إسماعيل وإسحاق ، وهما كانا من أكابر الأنبياء ، وقد علم أن الأنبياء لا يعبدون الصنم ، فقد عاد السؤال في أنه ما الفائدة في ذلك الدعاء ؟
والجواب عن السؤال الأول من وجهين :
الأول : أنه نقل أنه عليه السلام لما فرغ من بناء
الكعبة ذكر هذا الدعاء ، والمراد منه : جعل تلك البلدة آمنة من الخراب .
والثاني : أن المراد جعل أهلها آمنين ، كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82واسأل القرية ) [ يوسف : 82 ] أي أهل القرية ، وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين ، وعلى هذا التقدير فالجواب من وجهين :
الوجه الأول :
nindex.php?page=treesubj&link=31577ما اختصت به مكة من حصول مزيد من الأمن ، وهو أن الخائف كان إذا التجأ إلى
مكة أمن ، وكان الناس مع شدة العداوة بينهم يتلاقون
بمكة فلا يخاف بعضهم بعضا ، ومن ذلك أمن الوحش فإنهم يقربون من الناس إذا كانوا
بمكة ، ويكونون مستوحشين عن الناس خارج
مكة ، فهذا النوع من الأمن حاصل في
مكة فوجب حمل الدعاء عليه .
والوجه الثاني : أن يكون المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35اجعل هذا البلد آمنا ) أي بالأمر والحكم بجعله آمنا ، وذلك الأمر والحكم حاصل لا محالة .
والجواب : عن السؤال الثاني قال
الزجاج : معناه ثبتني على اجتناب عبادتها كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128واجعلنا مسلمين لك ) [ البقرة : 128 ] أي ثبتنا على الإسلام .
ولقائل أن يقول : السؤال باق لأنه لما كان من المعلوم أنه تعالى يثبت الأنبياء عليهم السلام على
[ ص: 105 ] الاجتناب من عبادة الأصنام فما الفائدة في هذا السؤال ؟ والصحيح عندي في الجواب وجهان :
الأول : أنه عليه السلام وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضما للنفس وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب .
والثاني : أن الصوفية يقولون : إن الشرك نوعان : شرك جلي وهو الذي يقول به المشركون ، وشرك خفي وهو تعليق القلب بالوسايط وبالأسباب الظاهرة ، والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسايط ولا يرى متصرفا سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) المراد منه أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي ، والله أعلم بمراده .
والجواب عن السؤال الثالث من وجوه :
الأول : قال صاحب " الكشاف " : قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35وبني ) أراد بنيه من صلبه ، والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35واجنبني ) .
والثاني : قال بعضهم : أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ، ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم .
الثالث : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد :
nindex.php?page=treesubj&link=28751لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنما ، والصنم هو التمثال المصور وما ليس بمصور فهو وثن . وكفار
قريش ما عبدوا التمثال ، وإنما كانوا يعبدون أحجارا مخصوصة وأشجارا مخصوصة ، وهذا الجواب ليس بقوي ، لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى ، والحجر كالصنم في ذلك .
الرابع : أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36فمن تبعني فإنه مني ) وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ، ونظيره قوله تعالى
لنوح : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) [ هود : 46 ] .
والخامس : لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن الله تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض ، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام ، ونظيره قوله تعالى في حق
إبراهيم عليه السلام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=124قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) [ البقرة : 124 ] .
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30458_30455الكفر والإيمان من الله تعالى ، وتقرير الدليل أن
إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر ، فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى ، وقول
المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد ، لأنه عدول عن الظاهر ، ولأنا قد ذكرنا وجوها كثيرة في إفساد هذا التأويل .
ثم حكى الله تعالى عن
إبراهيم عليه السلام أنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) واتفق كل الفرق على أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36أضللن ) مجاز لأنها جمادات ، والجماد لا يفعل شيئا البتة ، إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها ، كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرتهم أي افتتنوا بها واغتروا بسببها .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36فمن تبعني فإنه مني ) يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني ، أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ، ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن
إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام ، والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته ، والدليل عليه أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة . فنقول : أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك ، والأول باطل من وجهين :
الأول : أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) وأيضا قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36فمن تبعني فإنه مني ) يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم بإصلاح مهماته .
والثاني : أن الأمة
[ ص: 106 ] مجمعة على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30377الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة ، ولما بطل هذا ثبت أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار .
وإذا ثبت هذا فنقول : تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة ، والأول والثاني باطلان لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36ومن عصاني ) اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر ، وأيضا فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه ، فثبت أن هذه الآية
nindex.php?page=treesubj&link=24359شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة ، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق
إبراهيم عليه السلام ثبت حصولها في حق
محمد صلى الله عليه وسلم لوجوه :
الأول : أنه لا قائل بالفرق .
والثاني : وهو أن هذا المنصب أعلى المناصب فلو حصل
لإبراهيم عليه السلام مع أنه غير حاصل
لمحمد صلى الله عليه وسلم لكان ذلك نقصانا في حق
محمد عليه السلام .
والثالث : أن
محمدا صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداء
بإبراهيم عليه السلام لقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) فهذا وجه قريب في
nindex.php?page=treesubj&link=30373إثبات الشفاعة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفي إسقاط العقاب عن أصحاب الكبائر . والله أعلم .
إذا عرفت هذا فلنذكر أقوال المفسرين : قال
السدي : معناه ومن عصاني ثم تاب ، وقيل : إن هذا الدعاء إنما كان قبل أن يعلم أن الله تعالى لا يغفر الشرك ، وقيل : من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم ، يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام ، وقيل : المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يمهلهم حتى يتوبوا ، أو يكون المراد أن لا تعجل اخترامهم فتفوتهم التوبة . واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة .
أما الأول : وهو حمل هذه الشفاعة على المعصية بشرط التوبة فقد أبطلناه .
وأما الثاني : وهو قوله : إن هذه الشفاعة إنما كانت قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك فنقول : هذا أيضا بعيد ، لأنا بينا أن مقدمة هذه الآية تدل على أنه لا يجوز أن يكون مراد
إبراهيم عليه السلام من هذا الدعاء هو الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر .
وأما الثالث : وهو قوله المراد من كونه غفورا رحيما أن ينقله من الكفر إلى الإيمان فهو أيضا بعيد ، لأن المغفرة والرحمة مشعرة بإسقاط العقاب ولا إشعار فيهما بالنقل من صفة الكفر إلى صفة الإيمان . والله أعلم .
وأما الرابع : وهو أن تحمل المغفرة والرحمة على تعجيل العقاب أو ترك تعجيل الإماتة . فنقول : هذا باطل ؛ لأن كفار زماننا هذا أكثر منهم ولم يعاجلهم الله تعالى بالعقاب ولا بالموت مع أن أهل الإسلام متفقون على أنهم ليسوا مغفورين ولا مرحومين ، فبطل تفسير المغفرة والرحمة على ترك تعجيل العقاب بهذا الوجه ، وظهر بما ذكرنا صحة ما قررناه من الدليل . والله أعلم .
وَثَانِيهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
المسألة الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=28906قُرِئَ ( nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35وَاجْنُبْنِي ) وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ : جَنَبَهُ وَأَجْنَبَهُ وَجَنَّبَهُ . قَالَ
الْفَرَّاءُ :
أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُ : جَنَبَنِي يَجْنُبُنِي بِالتَّخْفِيفِ .
وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ : جَنَّبَنِي شَرَّهُ وَأَجْنَبَنِي شَرَّهُ ، وَأَصْلُهُ جَعْلُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى جَانِبٍ وَنَاحِيَةٍ .
المسألة الثَّانِيَةُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْإِشْكَالُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ
مَكَّةَ آمِنًا ، وَمَا قَبِلَ اللَّهِ دُعَاءَهُ ، لِأَنَّ جَمَاعَةً خَرَّبُوا
الْكَعْبَةَ وَأَغَارُوا عَلَى
مَكَّةَ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28751الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَعْبُدُونَ الْوَثَنَ الْبَتَّةَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ : اجْنُبْنِي عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ؟
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَجْعَلَ أَبْنَاءَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْ دُعَاءَهُ ، لِأَنَّ كُفَّارَ
قُرَيْشٍ كَانُوا مِنْ أَوْلَادِهِ ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ .
فَإِنْ قَالُوا : إِنَّهُمْ مَا كَانُوا أَبْنَاءَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا كَانُوا أَبْنَاءَ أَبْنَائِهِ ، وَالدُّعَاءُ مَخْصُوصٌ بِالْأَبْنَاءِ ، فَنَقُولُ : فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أُولَئِكَ الْأَبْنَاءِ أَبْنَاءَهُ مِنْ صُلْبِهِ ، وَهُمْ مَا كَانُوا إِلَّا
إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ، وَهُمَا كَانَا مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَعْبُدُونَ الصَّنَمَ ، فَقَدْ عَادَ السُّؤَالُ فِي أَنَّهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ الدُّعَاءِ ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ
الْكَعْبَةِ ذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ : جَعْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ آمِنَةً مِنَ الْخَرَابِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ جَعْلُ أَهْلِهَا آمِنِينَ ، كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) [ يُوسُفَ : 82 ] أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، وَهَذَا الوجه عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الوجه الْأَوَّلُ :
nindex.php?page=treesubj&link=31577مَا اخْتَصَّتْ بِهِ مَكَّةُ مِنْ حُصُولِ مَزِيدٍ مِنَ الْأَمْنِ ، وَهُوَ أَنَّ الْخَائِفَ كَانَ إِذَا الْتَجَأَ إِلَى
مَكَّةَ أَمِنَ ، وَكَانَ النَّاسُ مَعَ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ يَتَلَاقَوْنَ
بِمَكَّةَ فَلَا يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَمِنْ ذَلِكَ أَمْنُ الْوَحْشِ فَإِنَّهُمْ يَقْرَبُونَ مِنَ النَّاسِ إِذَا كَانُوا
بِمَكَّةَ ، وَيَكُونُونَ مُسْتَوْحِشِينَ عَنِ النَّاسِ خَارِجَ
مَكَّةَ ، فَهَذَا النوع مِنَ الْأَمْنِ حَاصِلٌ فِي
مَكَّةَ فَوَجَبَ حَمْلُ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ .
وَالوجه الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ) أَيْ بِالْأَمْرِ وَالحكم بِجَعْلِهِ آمِنًا ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ وَالحكم حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ .
وَالْجَوَابُ : عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي قَالَ
الزَّجَّاجُ : مَعْنَاهُ ثَبِّتْنِي عَلَى اجْتِنَابِ عِبَادَتِهَا كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) [ الْبَقَرَةِ : 128 ] أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : السُّؤَالُ بَاقٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى يُثَبِّتُ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى
[ ص: 105 ] الِاجْتِنَابِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا السُّؤَالِ ؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْصِمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ هَضْمًا لِلنَّفْسِ وَإِظْهَارًا لِلْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ فِي كُلِّ الْمَطَالِبِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الصُّوفِيَّةَ يَقُولُونَ : إِنَّ الشِّرْكَ نَوْعَانِ : شِرْكٌ جَلِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ ، وَشِرْكٌ خَفِيٌّ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْقَلْبِ بِالْوَسَايِطِ وَبِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ ، وَالتَّوْحِيدُ الْمَحْضُ هُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ نَظَرُهُ عَنِ الْوَسَايِطِ وَلَا يَرَى مُتَصَرِّفًا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ) الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَعْصِمَهُ عَنْ هَذَا الشِّرْكِ الْخَفِيِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35وَبَنِيَّ ) أَرَادَ بَنِيهِ مِنْ صُلْبِهِ ، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ عَيْنُ الْفَائِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35وَاجْنُبْنِي ) .
وَالثَّانِي : قَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَادَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ كُلَّ مَنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ حَالَ الدُّعَاءِ ، وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ فِيهِمْ .
الثَّالِثُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٌ :
nindex.php?page=treesubj&link=28751لَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَنَمًا ، وَالصَّنَمُ هُوَ التِّمْثَالُ الْمُصَوَّرُ وَمَا لَيْسَ بِمُصَوَّرٍ فَهُوَ وَثَنٌ . وَكُفَّارُ
قُرَيْشٍ مَا عَبَدُوا التِّمْثَالَ ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ أَحْجَارًا مَخْصُوصَةً وَأَشْجَارًا مَخْصُوصَةً ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا الدُّعَاءِ إِلَّا عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْحَجَرُ كَالصَّنَمِ فِي ذَلِكَ .
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى
لِنُوحٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) [ هُودٍ : 46 ] .
وَالْخَامِسُ : لَعَلَّهُ وَإِنْ كَانَ عَمَّمَ فِي الدُّعَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ دُعَاءَهُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَحْقِيرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=124قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) [ الْبَقَرَةِ : 124 ] .
المسألة الثَّالِثَةُ : احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ) عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30458_30455الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَجْنُبَهُ وَيَجْنُبَ أَوْلَادَهُ مِنَ الْكُفْرِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّبْعِيدَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّقْرِيبَ مِنَ الْإِيمَانِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَوْلُ
الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَلْطَافِ فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ ، وَلِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي إِفْسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ .
ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) وَاتَّفَقَ كُلُّ الْفِرَقِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36أَضْلَلْنَ ) مَجَازٌ لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ ، وَالْجَمَادُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْإِضْلَالُ عِنْدَ عِبَادَتِهَا أُضِيفَ إِلَيْهَا ، كَمَا تَقُولُ : فَتَنَتْهُمُ الدُّنْيَا وَغَرَّتْهُمْ أَيِ افْتُتِنُوا بِهَا وَاغْتَرُّوا بِسَبَبِهَا .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) يَعْنِي مَنْ تَبِعَنِي فِي دِينِي وَاعْتِقَادِي فَإِنَّهُ مِنِّي ، أَيْ جَارٍ مَجْرَى بَعْضِي لِفَرْطِ اخْتِصَاصِهِ بِي وَقُرْبِهِ مِنِّي ، وَمَنْ عَصَانِي فِي غَيْرِ الدِّينِ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) صَرِيحٌ فِي طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِأُولَئِكَ الْعُصَاةِ . فَنَقُولُ : أُولَئِكَ الْعُصَاةُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ فِي مُقَدِّمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُبَرَّأٌ عَنِ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=35وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ) وَأَيْضًا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَهْتَمُّ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْأُمَّةَ
[ ص: 106 ] مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30377الشَّفَاعَةَ فِي إِسْقَاطِ عِقَابِ الْكُفْرِ غَيْرُ جَائِزَةٍ ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) شَفَاعَةٌ فِي الْعُصَاةِ الَّذِينَ لَا يَكُونُونَ مِنَ الْكُفَّارِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ أَوْ مِنَ الْكَبَائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي بَاطِلَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=36وَمَنْ عَصَانِي ) اللَّفْظُ فِيهِ مُطْلَقٌ فَتَخْصِيصُهُ بِالصَّغِيرَةِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ ، وَأَيْضًا فَالصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَاجِبَةُ الْغُفْرَانِ عِنْدَ الْخُصُومِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
nindex.php?page=treesubj&link=24359شَفَاعَةٌ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ حُصُولُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ حُصُولُهَا فِي حَقِّ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ أَعْلَى الْمَنَاصِبِ فَلَوْ حَصَلَ
لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ حَاصِلٍ
لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي حَقِّ
مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِدَاءِ
بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) [ الْأَنْعَامِ : 90 ] ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) فَهَذَا وَجْهٌ قَرِيبٌ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=30373إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَذْكُرْ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ : قَالَ
السُّدِّيُّ : مَعْنَاهُ وَمَنْ عَصَانِي ثُمَّ تَابَ ، وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ ، وَقِيلَ : مَنْ عَصَانِي بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، يَعْنِي أَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لَهُ وَتَرْحَمَهُ بِأَنْ تَنْقُلَهُ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ أَنْ لَا يُعَاجِلَهُمْ بِالْعِقَابِ بَلْ يُمْهِلُهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ لَا تُعَجِّلَ اخْتِرَامَهُمْ فَتَفُوتَهُمُ التَّوْبَةُ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ ضَعِيفَةٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : وَهُوَ حَمْلُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ فَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ : إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ فَنَقُولُ : هَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مُقَدِّمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ هُوَ الشَّفَاعَةَ فِي إِسْقَاطِ عِقَابِ الْكُفْرِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُهُ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا أَنْ يَنْقُلَهُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ ، لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مُشْعِرَةٌ بِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ وَلَا إِشْعَارَ فِيهِمَا بِالنَّقْلِ مِنْ صِفَةِ الْكُفْرِ إِلَى صِفَةِ الْإِيمَانِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ تُحْمَلَ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ عَلَى تَعْجِيلِ الْعِقَابِ أَوْ تَرْكِ تَعْجِيلِ الْإِمَاتَةِ . فَنَقُولُ : هَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ كَفَّارَ زَمَانِنَا هَذَا أَكْثَرُ مِنْهُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِقَابِ وَلَا بِالْمَوْتِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَغْفُورِينَ وَلَا مَرْحُومِينَ ، فَبَطَلَ تَفْسِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى تَرْكِ تَعْجِيلِ الْعِقَابِ بِهَذَا الوجه ، وَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا صِحَّةُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .