[ ص: 16 ] ( الذي خلق خلق الإنسان من علق )
أما قوله تعالى : ( الذي خلق خلق الإنسان من علق ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون قوله : ( الذي خلق ) لا يقدر له مفعول ، ويكون المعنى أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه .
والثاني : أن يقدر له مفعول ويكون المعنى أنه الذي خلق كل شيء ، فيتناول كل مخلوق ، لأنه مطلق ، فليس حمله على البعض أولى من حمله على الباقي ، كقولنا : الله أكبر ، أي من كل شيء ، ثم قوله بعد ذلك : ( خلق الإنسان من علق ) تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات ، إما لأن التنزيل إليه أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض .
والثالث : أن يكون قوله : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) مبهما ثم فسره بقوله : ( خلق الإنسان من علق ) تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته .
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه ، قالوا : لأنه سبحانه جعل الخالقية صفة مميزة لذات الله تعالى عن سائر الذوات ، وكل صفة هذا شأنها فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها ، قالوا : وبهذا الطريق عرفنا أن خاصية الإلهية هي القدرة على الاختراع ومما يؤكد ذلك أن لا خالق غير الله تعالى فرعون لما طلب حقيقة الإله ، فقال : ( وما رب العالمين ) [الشعراء : 23] قال موسى : ( ربكم ورب آبائكم الأولين ) [الشعراء : 26] والربوبية إشارة إلى الخالقية التي ذكرها ههنا ، وكل ذلك يدل على قولنا .
المسألة الثالثة : اتفق المتكلمون على أن ، أو النظر في معرفة الله أو القصد إلى ذلك النظر على الاختلاف المشهور فيما بينهم ، ثم إن الحكيم سبحانه لما أراد أن يبعثه رسولا إلى المشركين ، لو قال له : اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له ، لأبوا أن يقبلوا ذلك منه ، لكنه تعالى قدم لذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به كما يحكى أن زفر لما بعثه أول الواجبات معرفة الله تعالى إلى أبو حنيفة البصرة لتقرير مذهبه ، فلما ذكر زيفوه ولم يلتفتوا إليه ، فرجع إلى أبو حنيفة . وأخبره بذلك ، فقال : إنك لم تعرف طريق التبليغ ، لكن ارجع إليهم ، واذكر في المسألة أقاويل أئمتهم ثم بين ضعفها ، ثم قل بعد ذلك : ههنا قول آخر ، واذكر قولي وحجتي ، فإذا تمكن ذلك في قلبهم ، فقل : هذا قول أبي حنيفة لأنهم حينئذ يستحيون فلا يردون ، فكذا ههنا أن الحق سبحانه يقول : إن هؤلاء عباد الأوثان ، فلو أثنيت علي وأعرضت عن الأوثان لأبوا ذلك ، لكن اذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره ، ثم قل : ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه ، فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون الأوثان ، كما قال تعالى : ( أبي حنيفة ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [الزخرف : 87] ثم لما صارت الإلهية موقوفة على الخالقية وحصل القطع بأن من لم يخلق لم يكن إلها ، فلهذا قال تعالى : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) [النحل : 17] ودلت الآية على أن القول بالطبع باطل ، لأن المؤثر فيه إن كان حادثا افتقر إلى مؤثر آخر ، وإن كان قديما فإما أن يكون موجبا أو قادرا ، فإن كان موجبا لزم أن يقارنه الأثر فلم يبق إلا أنه مختار وهو عالم لأن التغير حصل على الترتيب الموافق للمصلحة .
المسألة الرابعة : إنما قال : ( من علق ) على الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع ، كقوله : ( إن الإنسان لفي خسر ) [العصر : 2] .