المسألة السادسة : هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة ، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل ، والنكت الوعظية فيه من وجوه : الإخلاص
أحدها : كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك ، بل بذلت لك البعض ، فأطلب منك البعض نصفا من العشرين ، وشاة من الأربعين ، لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك ، فلا ترد بطاعتك سواي ، فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلا من أن تستثنيه لغيرك ، فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص ، وأما الالتفات المكروه فذا حظ الشيطان .
وثانيها : كأنه تعالى قال : يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك البتة ، فإذا لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد ، ثم إنه سبحانه ملك العالمين ، والعقل ملك لهذا البدن ، فكأنه تعالى بفضله قال : الملك لا يخدم الملك لكن [لكي] نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [البقرة : 29] فاجعل أنت أيضا جميع ما تفعله لأجلي : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) .
واعلم أن قوله : ( مخلصين ) نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه ، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه ، والواجب لوجوبه ، فيأتي بالفعل لوجهه [ ص: 44 ] مخلصا لربه ، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر ، بل قالوا : لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا وإن كان لا بد من ذلك ، وفي التوراة : ما أريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل . وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير ، مثل : الواجب من الأضحية شاة ، فإذا ذبحت اثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك ، وإن زدت في الخشوع ، لأن الناس يرونه لم يجز ، فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة أخرى ، فكيف ولو خلطت بها محظورا مثل أن تتقدم على إمامك ، بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص ، فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص ، فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص ؟
وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله : ( مخلصين ) :
قال بعضهم : مقرين له بالعبادة ، وقال آخرون : قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة ، وقال الزجاج : أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره ، ويدل على هذا قوله : ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ) [التوبة : 31] .
أما قوله تعالى : ( حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) ففيه أقوال :
الأول : قال : متبعين دين مجاهد إبراهيم عليه السلام ، ولذلك قال : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [النحل : 123] وهذا التفسير فيه لطيفة كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضا بالكلية ، فلا جرم ذكر قوما أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم ، وهو إبراهيم ومن معه ، فقال : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) [الممتحنة : 4] فكأنه تعالى قال : إن كنت تقلد أحدا في دينك ، فكن مقلدا إبراهيم ، حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران ، ومن ماله حين بذله للضيفان ، ومن ولده حين بذله للقربان ، بل روي أنه سمع : سبوح قدوس فاستطابه ، ولم ير شخصا فاستعاده ، فقال : أما بغير أجر فلا ، فبذل كل ما ملكه ، فظهر له جبريل عليه السلام ، وقال : حق لك حيث سماك خليلا فخذ مالك ، فإن القائل كنت أنا ، بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال : أما إليك فلا ، فالحق سبحانه كأنه يقول : إن كنت عابدا فاعبد كعبادته ، فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين ، أما تترك الحرام وموافقة الشياطين ، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم ، فاجتهد في متابعة ولده الصبي ، كيف انقاد لحكم ربه مع صغره ، فمد عنقه لحكم الرؤيا ، وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل ، وهو أم الذبيح ، كيف تجرعت تلك الغصة ، ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الاثنتين تقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإرث ، والرقيقة نصف الحرة بدليل أن للحرة ليلتين من القسم ، فهاجر كانت ربع الرجل ، ثم انظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في أولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف لا يكلمها ولا يعطف عليها ، قالت : آلله أمرك بهذا ؟ فأومأ برأسه نعم ، فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق .
والقول الثاني : المراد من قوله : ( حنفاء ) أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة ، وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل ، كقولنا للأعمى بصير وللمهلكة مفازة ، ونظيره قوله تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) [فصلت : 30] ، ( اهدنا الصراط المستقيم ) [الفاتحة : 5] .
[ ص: 45 ]
والقول الثالث : قال رضي الله عنهم حجاجا ؛ وذلك لأنه ذكر العباد أولا ثم قال : ( ابن عباس حنفاء ) وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال .
الرابع : قال أبو قلابة : الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحدا منهم ، فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفا .
الخامس : حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين ، قال عليه السلام : بعثت بالحنيفية السهلة السمحة
السادس : قال قتادة : هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم ، فقوله : ( حنفاء ) إشارة إلى النفي ، ثم أردفه بالإثبات ، وهو قوله : ( ويقيموا الصلاة ) .
السابع : قال أبو مسلم : أصله من الحنف في الرجل ، وهو إدبار إبهامها عن أحوانها حتى يقبل على إبهام الأخرى ، فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام .
الثامن : قال الربيع بن أنيس : الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته ، وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مرارا كثيرة ، ثم قال : ( وذلك دين القيمة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المبرد والزجاج : ذلك دين الملة القيمة ، فالقيمة نعت لموصوف محذوف ، والمراد من القيمة إما المستقيمة أو القائمة ، وقد ذكرنا هذين القولين في قوله : ( كتب قيمة ) وقال الفراء : هذا من إضافة النعت إلى المنعوت ، كقوله : ( إن هذا لهو حق اليقين ) [ الواقعة : 95 ] والهاء للمبالغة كما في قوله : ( كتب قيمة ) .