أحدها : أن الإيلاف هو الإلف . قال علماء اللغة : ألفت الشيء وألفته إلفا وإلافا وإيلافا بمعنى واحد ، أي لزمته فيكون المعنى لإلف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا ، وقرأ أبو جعفر : " لإلف قريش " وقرأ الآخرون : " لإلاف قريش " ، وقرأ عكرمة : " ليلاف قريش " .
وثانيها : أن يكون هذا من قولك : لزمت موضع كذا وألزمنيه الله ، كذا تقول : ألفت كذا ، وألفنيه الله ويكون المعنى . ألف بنفسه إلفا وآلفه غيره إيلافا ، والمعنى أن هذه إثبات الألفة بالتدبير الذي فيه لطف قريش بتدبير الله وهو كقوله : ( الإلفة إنما حصلت في ولكن الله ألف بينهم ) [ الأنفال : 63 ] وقال : ( فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) [ آل عمران : 103 ] وقد تكون المسرة سببا للمؤانسة والاتفاق ، كما وقعت عند انهزام أصحاب الفيل لقريش ، فيكون المصدر ههنا مضافا إلى المفعول ويكون المعنى لأجل أن يجعل الله قريشا ملازمين لرحلتيهم .
وثالثها : أن يكون الإيلاف هو التهيئة والتجهيز وهو قول الفراء ، فيكون المصدر على هذا القول مضافا إلى الفاعل ، والمعنى : لتجهيز وابن الأعرابي قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا ، وقرأ أبو جعفر " ليلاف " بغير همز فحذف همزة الإفعال حذفا كليا وهو كمذهبه في " يستهزءون " وقد مر تقريره .
المسألة الثالثة : التكرير في قوله : ( لإيلاف قريش إيلافهم ) هو أنه أطلق الإيلاف أولا ثم جعل المقيد بدلا لذلك المطلق تفخيما لأمر الإيلاف وتذكيرا لعظيم المنة فيه ، والأقرب أن يكون قوله : ( لإيلاف قريش ) عاما يجمع كل مؤانسة وموافقة كان بينهم ، فيدخل فيه مقامهم وسيرهم وجميع أحوالهم ، ثم خص إيلاف الرحلتين بالذكر لسبب أنه قوام معاشهم كما في قوله : ( وجبريل وميكال ) [ البقرة : 98 ] وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة ، تقول العرب : ألفت كذا أي لزمته ، والإلزام ضربان : إلزام بالتكليف والأمر ، وإلزام بالمودة والمؤانسة فإنه إذا أحب المرء شيئا لزمه ، ومنه : ( وألزمهم كلمة التقوى ) [ الفتح : 26 ] ، كما أن الإلجاء ضربان :
أحدهما : لدفع الضرر كالهرب من السبع .
والثاني : لطلب النفع العظيم ، كمن يجد مالا عظيما ولا مانع من أخذه لا عقلا ولا شرعا ولا حسا فإنه يكون كالملجأ إلى الأخذ ، وكذا الدواعي التي [ ص: 100 ] تكون دون الإلجاء ، مرة تكون لدفع الضرر وأخرى لجلب النفع ، وهو المراد في قوله : ( إيلافهم ) .
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن قريشا ولد النضر بن كنانة ، قال عليه الصلاة والسلام : بني النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا وذكروا في سبب هذه التسمية وجوها : إنا
أحدها : أنه تصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ، ولا تنطلق إلا بالنار ، وعن معاوية أنه سأل : بم سميت ابن عباس قريش ؟ قال : بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، تعلو ولا تعلى ، وأنشد :
وقريش هي التي تسكن البحـ ـر بها سميت قريش قريشا
والتصغير للتعظيم ، ومعلوم أن قريشا موصوفون بهذه الصفات لأنها تلي أمر الأمة ، فإن الأئمة من قريش .
وثانيها : أنه مأخوذ من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد .
وثالثها : قال الليث : كانوا متفرقين في غير الحرم ، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكنا ، فسموها قريشا لأن التقرش هو التجمع ، يقال : تقرش القوم إذا اجتمعوا ، ولذلك سمي قصي مجمعا ، قال الشاعر :
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر
ورابعها : أنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج ، فسموا بذلك قريشا ، لأن القرش التفتيش قال ابن حرة :
أيها الشامت المقرش عنا عند عمرو وهل لذاك بقاء
قوله تعالى : ( رحلة الشتاء والصيف ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الليث : الرحلة اسم الارتحال من القوم للمسير ، وفي المراد من هذه الرحلة قولان :
الأول : وهو المشهور ، قال المفسرون : لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأن اليمن أدفأ وبالصيف إلى الشأم ، وذكر كانت عطاء عن أن السبب في ذلك هو أن ابن عباس قريشا إذا أصاب واحدا منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع وضربوا على أنفسهم خباء حتى يموتوا ، إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف ، وكان سيد قومه ، وكان له ابن يقال له : أسد ، وكان له ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه فشكا إليه الضرر والمجاعة فدخل أسد على أمه يبكي فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياما ، ثم أتى ترب أسد إليه مرة أخرى وشكا إليه من الجوع فقام هاشم خطيبا في قريش ، فقال : إنكم أجدبتم جدبا تقلون فيه وتذلون ، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم والناس لكم تبع . قالوا : نحن تبع لك فليس عليك منا خلاف فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات ، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش ، قال الشاعر فيهم :
الخالطين فقيرهم بغنيهم حتى يكون فقيرهم كالكافي
واعلم أن المذكورين في قوله : ( وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا ، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضا لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود وقطعناهم في الأرض أمما ) [ الأعراف : 168 ] [ ص: 101 ] واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى ، ونبه تعالى أن ، ومنه قوله تعالى : ( من شرط السفر المؤانسة والألفة ولا جدال في الحج ) [ البقرة : 197] والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة .
القول الثاني : أن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة ، فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفا ، وموسم منافع مكة يكون بهما ، ولو كان يتم لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة .
المسألة الثانية : نصب الرحلة بإيلافهم مفعولا به ، وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس كقوله : كلوا في بعض بطنكم ، وقيل : معناه رحلة الشتاء ورحلة الصيف ، وقرئ " رحلة " بضم الراء وهي الجهة .