[ ص: 126 ] المسألة الخامسة : اعلم أن من تأمل في مطالع هذه السورة ومقاطعها عرف أن الفوائد التي ذكرناها بالنسبة إلى ما استأثر الله بعلمه من فوائد هذه السورة كالقطرة في البحر ، روي عن مسيلمة أنه عارضها فقال : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وجاهر ، إن مبغضك رجل كافر ، ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب لوجوه :
أحدها : أن الألفاظ والترتيب مأخوذان من هذه السورة ، وهذا لا يكون معارضة .
وثانيها : أنا ذكرنا أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها ، وكالأصل لما بعدها ، فذكر هذه الكلمات وحدها يكون إهمالا لأكثر لطائف هذه السورة .
وثالثها : التفاوت العظيم الذي يقر به من له ذوق سليم بين قوله : ( إن شانئك هو الأبتر ) وبين قوله : إن مبغضك رجل كافر ، ومن لطائف هذه السورة أن كل أحد من الكفار وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصف آخر ، فوصفه بأنه لا ولد له ، وآخر بأنه لا معين له ولا ناصر له ، وآخر بأنه لا يبقى منه ذكر ، فالله سبحانه مدحه مدحا أدخل فيه كل الفضائل ، وهو قوله : ( إنا أعطيناك الكوثر ) لأنه لما لم يقيد ذلك الكوثر بشيء دون شيء ، لا جرم تناول جميع خيرات الدنيا والآخرة ، ثم أمره حال حياته بمجموع الطاعات ؛ لأن الطاعات إما أن تكون طاعة البدن أو طاعة القلب ، أما طاعة البدن فأفضله شيئان ؛ لأن ، وأما طاعة البدن هي الصلاة ، وطاعة المال هي الزكاة ، واللام في قوله : ( لربك ) يدل على هذه الحالة ، ثم كأنه نبه على أن طاعة القلب لا تحصل إلا بعد حصول طاعة البدن ، فقدم طاعة البدن في الذكر ، وهو قوله : ( فصل ) وأخر اللام الدالة على طاعة القلب تنبيها على فساد مذهب أهل الإباحة في أن العبد قد يستغني بطاعة قلبه عن طاعة جوارحه ، فهذه اللام تدل على بطلان مذهب الإباحة ، وعلى أنه لا بد من الإخلاص ، ثم نبه بلفظ الرب على علو حاله في المعاد ، كأنه يقول : كنت ربيتك قبل وجودك ، أفأترك تربيتك بعد مواظبتك على هذه الطاعات ، ثم كما تكفل أولا بإفاضة النعم عليه تكفل في آخر السورة بالذب عنه وإبطال قول أعدائه ، وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول بإفاضة النعم ، والآخر بتكميل النعم في الدنيا والآخرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم . طاعة القلب فهو أن لا يأتي بشيء إلا لأجل الله