أما قوله تعالى : ( من بعد ما جاءتهم البينات ) فهو يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إياهم الكتاب كان بعد مجيء البينات ، فتكون هذه البينات مغايرة لا محالة لإيتاء الكتاب ، وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها ; وذلك لأن المتكلمين يقولون : كل ما لا يصح إثبات النبوة إلا بعد ثبوته ، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية وإلا وقع الدور ، بل لا بد من إثباتها بالدلائل العقلية ، فهذه الدلائل هي البينات المتقدمة على إيتاء الله الكتب إياهم .
أما قوله تعالى : ( بغيا بينهم ) فالمعنى أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية ، أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب ، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب ، فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة ، فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بسبب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) [البينة : 4] .
أما قوله تعالى : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) فاعلم أنه تعالى لما وصف حال أهل الكتاب وأنهم بعد كمال البينات أصروا على الكفر والجهل بسبب البغي والحسد بين أن حال هذه الأمة بخلاف حال أولئك ; فإن الله عصمهم عن الزلل وهداهم إلى الحق في الأشياء التي اختلف فيها أهل الكتاب ، يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لليهود ، وبعد غد للنصارى " قال نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، ونحن أول الناس دخولا الجنة يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فهذا اليوم الذي هدانا له ، والناس لنا فيه تبع وغدا ابن زيد : اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلى بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق ، فهدانا الله للكعبة ، واختلفوا في الصيام ، فهدانا الله لشهر رمضان ، واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود : كان يهوديا وقالت النصارى : كان نصرانيا ، فقلنا : إنه كان حنيفا مسلما ، واختلفوا في عيسى ، فاليهود فرطوا , والنصارى أفرطوا ، وقلنا القول العدل .