الحكم الثالث
في الخمر
( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما )
اعلم أن قوله : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا ; فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع به ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته ، إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان واقعا عن الحل والحرمة .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قالوا : ، نزل نزلت في الخمر أربع آيات بمكة قوله تعالى : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) [النحل : 67] وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ، ثم عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فنزل فيها قوله تعالى : ( قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا ناسا منهم ، فشربوا وسكروا ، فقام بعضهم يصلي فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون . فنزلت : ( عبد الرحمن بن عوف لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) [النساء : 43] فقل من شربها ، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد بن أبي وقاص سعد شعرا فيه هجاء للأنصار ، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجة موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزل : ( إنما الخمر والميسر ) [المائدة : 90] إلى قوله : ( فهل أنتم منتهون ) [المائدة : 91] فقال عمر : انتهينا يا رب . إن
قال القفال رحمه الله : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا ، وكان انتفاعهم بذلك كثيرا ، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج ، وهذا الرفق ، ومن الناس من قال بأن شرب الخمر بهذه الآية ، ثم نزل قوله تعالى : ( الله حرم الخمر والميسر لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) [النساء : 43] فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة ; لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي إلا مع السكر ، فكان المنع من ذلك منعا من الشرب ضمنا ، ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم ، وعن أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر . الربيع بن أنس