الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المستقبل للإسـلام

الدكتور / أحمد علي الإمام

المقدمة

الحمد لله، الذي جعل المستقبل للإسلام، بالفتح المبين، والنصر العزيز، والتمكين لعباده المستضعفين، الذين، يسعون لنشر هدى الله، ونور الإسلام، أنحاء المعمورة، عبر القارات كلها، تحقيقا لوعد الله الحق: ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) (الروم: 47) .. ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (التوبة: 33) ، وهو مستقبل قريب، إن شاء الله، يتحقق معه استخلاف المسلمين في الأرض: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) (النور: 55) .. ( ألا إن نصر الله قريب ) (البقرة: 214) .. ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم ) (آل عمران: 160) .

وفي القرآن كله، يعضده ما صح من هدي نبينا عليه الصلاة والسلام ، تأكيد بأن المستقبل لدين الإسلام، والأمة المسلمة، فالمصدر محفوظ بحفظ الله، باق أبد الدهر: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر: 9) .

فهو كتاب مصون عن التحريف، والتبديل.. أخباره صادقة.. وأحكامه عادلة: ( وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) (الأنعام: 115) .. ورسالته عالمية، تعم كل مكان وزمان..ورحمته تشمل العالمين: ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) (الفرقان: 1) .. ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء: 107) .

والصلاة والسلام، على من بعثه ربه، بالرسالة الخاتمة: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) (الأحزاب: 40) ، فكان من خصائصه عليه الصلاة والسلام ، ختمه للرسالات، وعموم رسالته.. وختم الرسالة، وعموميتها، مقتضيان لأبديتها، وبقائها، لتؤدي دورها في هداية الإنسان، وعمران الكون، وسيادة الحضارة الإسلامية، التي هي حضارة الذاكرين، القانتين، الصالحين، الذين شروا [ ص: 35 ] أنفسهم، وأموالهم لله، وأقاموا شرع الله، فحكموا بالعدل بين الناس، وأحسنوا، وأصلحوا المجتمع، فكانت النهضة الواسعة، المؤذنة بتجديد أمر الدين، على سنة الله الماضية في القرون المتوالية: ( إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ) (رواه أبو داود ) .

وبعد:

فهذه دراسات، كتبتها في ظروف مختلفة، حول المستقبل، الذي نعتقد يقينا، بأنه للإسلام، بإذن الله، وعوامل وشروط صناعته، آخذين بعين الاعتبار، أنه يلزم لصناعة المستقبل، للإسلام، في عصرنا هذا، تضافر جهود العاملين في ميادين العمل للمستقبل، ومجالاته، لتلتقي، وتجتمع، وتتحرك إلى قبلتها، منشرحة الصدور، بتوحيد الله، مجتمعة القلوب، متحدة الكلمة، على حب الله تعالى، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحب المؤمنين: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) (المائدة: 54) .

ولعل في مقدمة هذه العوامل والشروط، الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام بمعناه الواسع، الذي يشمل: إلى جانب الجهاد بالأموال والأنفس، جهاد الحجة والبيان، ومجاهدة النفس، في سبيل الله، ليكون من ثم سبيل تمكين الدين، وإزالة العوائق والفتن، التي تحول دون صناعة المستقبل، ليعم من بعد السلام والأمن الحقيقيان، يقول تعالى: ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (الحج: 39-40) . [ ص: 36 ]

فالمؤمنون حين يمكن الله لهم دينهم الذي ارتضى، يؤدون واجبهم في بناء النفوس، ونشر الطمأنينة، وانشراح الصدور بذكر الله، وتحقيق التكافل، والإصلاح الاجتماعي، يقول تعالى: ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج: 41) .

ومثلما كانت مشروعية الجهاد بالسلاح، بعد سلوك السبل السليمة كلها، مع الصبر على الأذى، واحتساب ما لقي المؤمنون في سبيل الله، فهو كذلك في ترتيب العمل الإسلامي اليوم، لإحياء شعائر الله، وإقامة شرائعه، وتبليغ كلمة الحق ليكون الناس منها على بينة.. ولكن المؤمنين مأمورون أبدا بإعداد العدة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وعلى قدر طاقتهم في التصنيع الحربي، والإعداد القتالي: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) (الأنفال: 60) .

وعوامل النصر الحقيقية، هي الاستنصار بالله، والتوكل عليه، والافتقار إليه، يقول تعالى: ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) (الأنفال: 26) .. ويقول: ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران: 200) . وقد لزم إعداد المجاهدين أنفسهم، بما يشرح صدورهم، من التحقق بالمقامات الإيمانية، والتزام ذكر الله كثيرا، ليقبل على القتال، وهو كره للنفوس، من حبب الله إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر، والفسوق، والعصيان، ليكون جهاد المجاهدين، من ثم: حتى لا تكون فتنة، ولا صد عن سبيل الله، ويكون الدين كله الله، ولتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.

فالدعوة إلى الإسلام، هي دعوة الذاكرين، كما أن الجهاد في سبيل الله، هو جهاد الذاكرين، الذين إن مكن الله لهم في الأرض، ورأوا إقبال الناس على الدين الحق، ذكروا الله، وعظموه، وعلموا الناس أمور دينهم، وسعوا في منافعهم، ومصالحهم، [ ص: 37 ] وحكموا بينهم بالعدل، والإحسان، وأقاموا حضارة الذاكرين، وكانت نهضتم العمرانية، تجعل المساجد محورا وقبلة.

ومن هنا، تنشأ الأمة الجليلة وتأخذ مكانها في الريادة، والعمل، والإنتاج، والتفوق العلمي، والثقافي، والحضاري، لأن الذكر والدعاء، يبعثان على العمل الصالح، ويزيدان المقامات الإيمانية.

ولذلك كان سلفنا، من أهل الصحبة، والإحسان، يتناصحون بذلك، مثل قولهم لبعض: (أجلس بنا نؤمن ساعة ) . [1] وهذه الروح، تحث على العمل، والإنتاج، الجيد، والجهاد، وبناء الدولة، وإصلاح المجتمع، بل إن الأذكار والأدعية المسنونة، أثناء هذه الأعمال والواجبات، دالة على أن أكثر الذكر، والدعاء، ما يكون أثناء الحركة والعمل.. والأعمال العظيمة تنشأ، والحضارة تنهض، وتزدهر، في ظل الإيمان، والاطمئنان بذكر الله ودعائه، واطمئنان القلوب، وانشراح الصدور، وتحقيق السلم، والأمن.

وهي حقيقة مقررة، وقد سجلها بعض المراقبين من الباحثين في تاريخ الحضارات (إن الحضارة تبدأ، حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع، والإنشاء، وحينئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية، تستنهضه، للمضي في طريقه، إلى فهم الحياة، وازدهارها ) [2] .

والحكم بالشريعة، الذي يعتبر من أهم شروط صناعة المستقبل، لأنه يستحيل عقلا وشرعا، تصور مستقبل إسلامي، بعيدا عن تطبيق شرع الله، هو ثمرة الجهاد في سبيل الله، لإقامة العدل والإحسان بين الناس، وحماية المجتمع، بسيادة أحكام الشريعة الإسلامية، على سعة معاني الشريعة، في المعاملات المدنية، والقوانين الجنائية، والحدود جزء منها، ومميز للمسلمين، وسياج منيع لتحقيق الاستقرار، وإصلاح المجتمع، [ ص: 38 ] لأنه لا يكون في المجتمعات الإنسانية، إلا بما شرعه الخلاق العليم، الذي يعلم النجوى والسر وأخفى، يقول تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ( الملك: 14) ..

فلا يحقق التناسق بين الكائنات كلها، إلا ما شرعه الله، وخلاف ذلك الجاهلية، قديمة كانت أو حديثة: ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) (المائدة: 50) .

وقد أمر الله بأداء الأمانات إلى أهلها، وإقامة العدل بين الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، موافقهم ومخالفهم، وعلى اختلاف أصولهم ومللهم: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء: 58) .

ومع العدل، أمر بزيادة الإحسان: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل: 90) ..

ثم أمر بالبر والقسط مع غير المسلمين، ما داموا مسالمين: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) (الممتحنة: 8-9) .

ومهما كانت قوة البطش، التي يملكها المخالفون أو المحاربون، فإن المسلمين يملكون أن يقدموا للمجتمع الإنساني، هذه الدعوة.. وهي بقوتها الذاتية، بالغة، وهادية، لمن شرح الله صدره للإسلام، أو رضى بمسالمة هذا الدين، ما دام حرا في اختياره، لا سلطان لأحد عليه، بلا إكراه: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة: 256) .. ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس: 99) . [ ص: 39 ]

لهذا، فإن بالحوار والمجادلة بالحسنى، حيث وجد الدعاة سبيلا إلى ذلك، يتحقق التحول السلمي للإسلام، في كثير من بقاع الأرض اليوم، تماما كما حدث من قبل.

ولنجاح هذه المهمة، لا بد من نماذج صالحة، متأسية بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يرى العالم أثر الهدي النبوي عليها، في تكامله، وشموله، وجماله، بحيث يشع رأفة، ورحمة. ولا يكون ذلك، إلا وهذه النماذج، توالي في الله، وتعادي في الله.

وهذا الكتاب، يفتتح بحديث عن بشائر مستقبل الإسلام، في مواجهة التحديات الحضارية المعاصرة، وقفنا من خلاله على أبرز معالم الاختلاف، بين الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية، مع مناقشة موضوعية لدور مؤسساتنا الثقافية، في هذا الصراع الحضاري، وبيان عناصر الإيجاب والسلب، في تقييم الدور الذي تقوم به، ثم عرضنا لبعض بشائر القرآن النبوة، بأن المستقبل للإسلام.

ولما كان المستقبل للإسلام، يصنعه حملة رسالة الإسلام، وفي مقدمتهم المجاهدون، كان لا بد من الحديث عن المجاهدين، وأهل الذكر، في ساحات الجهاد.. خاصة ونحن نرى صراع الإسلام مع أعدائه، متفجرا في شتى بقاع العالم ... كما كان لا بد من الحديث عن القنوت، لحاجة صناع المستقبل للقنوت إلى الله، والارتباط به، وخاصة في النوازل، مواجهة التحديات، التي يصارعونها، وهو يصنعون مستقبل الإسلام المشرق بإذن الله.

ومما يشكل الركن الأساس، في صياغة مستقيل الإسلام، تطبيق الشريعة الإسلامية، بل هو أهم ثمرات الجهود، التي تبذل في ميادين الجهاد وغيرها، ونحن اليوم في عالم اختلطت فيه المجتمعات، وتعددت فيه الملل والثقافات، حتى في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، فكان السؤال الذي لا بد من بيان الجوانب المتعلقة به، وهو ما يتعلق بتطبيق أحكام الشريعة في المجتمعات، التي تتعدها فيها الملل والثقافات.

الدكتور أحمد علي الإمام

رمضان 1415هـ
[ ص: 40 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية