آثار النظم التعليمية الوافدة على الشباب.. على مستوى التدين
لقد أسلفنا من قبل أن النظم التعليمية الغربية تعتنق العلمانية مرجعية موجهة لمضامين ومحتويات مناهجها ومقرراتها الدراسية، وأوضحنا أن علمانية الحياة الغربية (فصل الدين عن الحياة) لا تتوقف على علمانية السياسة فحسب، ولكنها تشمل علمانية التعليم، بحيث يغدو تعليما ماديا قائما على التنكر لمرجعية الدين في توجيه العملية التعليمية، وعلى ضرورة الفصل بين الديني والدنيوي، وعدم المزج والخلط بينهما لأي سبب من الأسباب، إذ إن مجال التدين ومكانه في هـذه النظم هـي دور العبادة في كنيسة، أو معبد، أو [ ص: 92 ] مسجد، الأمر الذي ترتب عليه فقدان التوازن بين الجانب المادي والأدبي في حياة الشباب الإفريقي الذي أعدته هـذه النظم.
وبينا أيضا أن النظم التعليمية الشرقية الوافدة هـي الأخرى تنطلق من وحي مرجعية المادية الجدلية، التي تنظر إلى القيم والأخلاق في المجتمع كأنها شذوذ، وانحراف، ورجعية، وسبيل لكل تخلف، ولذلك فإنهـا تستبعـد كل ما هـو دين من مناهجها ومقرراتها الدراسية، وتسعى جاهدة لتخريج أجيال تلعن الدين، وتطارد المتدين للتنكيل والزج به في أعماق السجون، وتقيم الحياة على أساس إلحادي محض.
إن تبني المجتمعات الإفريقية هـذه النظم بمرجعياتها، أثر ولايزال يؤثر في منطلقات الأجيال الشابة، وفي نظرتها إلى مبادئ دينها وقيمها، وعلاقتها بالحياة الاجتماعية. ولئن كان الدين الإسلامي يشكل دين أغلبية سكان القارة من حيث النسبة السكانية، فإن هـذه النظم بمرجعياتها عملت -عن قصد- على إسقاط واقعها وظروفها على واقع القارة وظروفها المختلفة تمام الاختلاف، إذ أنها سوت بين الأديان، ونظرت إلى القارة كأنها ذات أغلبية نصرانية تعتنق الدين الكنسي، والحال أن الإسلام بمبادئه الغراء وأهدافه السامية، يرفض التسلط والاعتداء والوصاية على الآخرين. [ ص: 93 ]
إن هـذه النظم الوافدة وبإسقاطها مرجعياتها على الواقع الإفريقي، تركت بذلك آثارا فكرية على الشباب الإفريقي المسلم، إذ أنها جعلت الأجيال التي تخرجت عليها تؤمن بضرورة الفصل بين العلم والدين مطلقا، بغض النظر عن أن يكون الدين الذي يفصل بينه وبين العلم دينا كنسيا، أو دينا منزلا من عند الله جل جلاله، كما جعلت منها أجيالا تفهم دينها الإسلام فهم الإنسان الغربي أو الشرقي لدينه الكنسي المحرف، ودوره في توجيه الحياة بجميع شعابها، بل إن هـذه النظم خرجت أجيالا تقفو أثر واضعيها في الدعوة إلى ضرورة فصل الديني عن السياسي، وعن الاجتماعي، وعن الإداري، وعن الاقتصادي، وعن القانوني، حتى إذا ما شاء القدر فتبوأت تلك الأجيال مراكز صنع القرارات والقيادة والإدارة، تبنت شعارا مفاده عدم صلاحية الدين -أي دين- لتوجيه الحياة السياسية والاقتصادية والتربوية والتعليمية والاجتماعية، وانطلقت مدعمة مقولة (الغير) التي تزعم عدم قدرة الدين -أي دين- على إمداد المجتمع بحاجاته الروحية والمادية، وكثيرا ما توهمت تلك الأجيال أن علمانية ومادية الحياة بصفة عامة، وعلمانية التعليم وماديته بصفة خاصة، هـي السبيل الأوحد للحفـاظ على وحـدة المجتمعـات، ووحـدة الأمم، وعلى تحقيق ما حققه الغرب أو الشرق من تقدم أو تطور. [ ص: 94 ]
إن هـذه النظم قويت على تخريج أجيال من الشباب -يدين بالإسلام- بيد أنها عانت ولاتزال تعاني اضطرابا وتخبطا في الفكر والمعتقد، بحيث إنها غدت ترى انفصاما بين حقائق دينها، وبين الواقع الذي صنعته تلك النظم، وعملت على الحفاظ عليه.. ويمكن للمرء أن يلحظ هـذا التخبط والاضطراب في فكر الأجيال التي صنعتها تلك النظم من خلال خفة تدينها، وغربتها عن واقعها، وطغيان (المادية والتشكيك، إلى حد انقطع به الكثيرون عن الاتصال بخالقهم) [1] ، وأضف إلى ذلك أن ما تعرفه تلك الأجيال عن حياة الغرب أو الشرق يفوق كثيرا ما تعرفه عن دينها وعقيدتها.
إن هـذه النظم التعليمية الوافدة، الغربية والشرقية، قصدت من إبعادها الدين الكنسي أو غير الكنسي (الإسلامي) ، تخريج نشء حر طليق عديم المسئولية، فاقد الإحساس، وكما قصدت -على مستوى القارة- تخريج أجيال من الشباب الإسلامي مضطربة في فكرها وفي تصورها للإنسان والكون والحياة، بحيث تغدو تؤمن إيمانا قاطعا بأن الإسلام لا يمكن له أن يمد المجتمع بحاجاته الروحية والمادية معا، وتؤمن بأن الدنيوي عديم العلاقة والارتبـاط بالأخـروي، وأن علاقـة المـرء بربه لا ينبغي لها أن تتجاوز جدران المساجد وأماكن العبادة، ومن ثم كان [ ص: 95 ] لا بد لهذه الأجيال من التبرؤ من الديني الموجه للحياة والمرشد لها، واعتناق الفكرة العلمانية أو الفكرة المادية، فإحدى هـاتين الفكرتين هـي التي تجلب للقارة تنمية شاملة، وتقدما باهرا.
إن النظرة المتفحصة في آثار هـذه النظم التعليمية الوافدة على الشباب الإفريقي المسلم، من حيث تدينه والتزامه بمبادئ دينه، تهدينا إلى الاعتراف بأنها تمكنت من تخريج جيل من الشباب (فارغ الأكواب، ظمآن الشفتين، مصقول الوجه، مظلم الروح... كليل البصر، ضعيف اليقين... إن المدرسة (النظم التعليمية) قد نزعت منهم العاطفة الدينية، فأصبحوا في خبر كان، أجهل الناس لنفوسهم، وأبعدهم من شخصياتهم... مؤمنون ولكن لا يعرفـون سـر المـوت، ولا يؤمنون بأن لا غالب إلا الله... قلوب قاسية، وعيون لا تعف عن المحـارم، وقلـوب لا تذوب بالقوارع، كل ما عندهم من علم وفن، ودين وسياسة، وعقل وقلب، يطوف حول الماديات، قلوبهم لا تتلقى الخواطر المتجددة، وأفكارهم لا تساوي شيئا، حياتهم جامدة واقفة متعطلة) [2] والأدهى والأمر من كل ذلك، أن هـذه الأجيال لما آلت إلى أكثرهم مقاليد الحكم والقيادة في بلدانهم ومجتمعاتهم، كانوا أكثر حماسة في إقصاء الدين الإسلامي عن دائرة توجيه الحياة وإرشادها، بل حاولوا [ ص: 96 ] بكل ما أوتوا من قوة التأكيد على ضرورة الفصل بين الديني والسياسي، وبين الدنيوي والأخروي، وتوهموا -بناء على ذلك- عدم إمكانية تحقيق أي تقدم أو تطور لمجتمعاتهم ما لم تغد العلمانية أو المادية في جميع صورها مبدأ لا يساوم عليه، ولا يختلف حوله البتة.
ومهما يكن من شيء، فإن تبني جل أقطار القارة مبدأ علمانية أو مادية التعليم، أنتج جيلا من الشباب المسلم لا يرون فرقا بين الدين الكنسي والدين الإسلامي، من حيث القيومية على الحياة، بل إنهم يفهمون دينهم مثل فهم الإنسان الغربي للدين الكنسي! والحال أن ثمة فرقا شاسعا بين الدينين، وإذا كان الغرب عانى من تسلط قساوسة الدين الكنسي، وكان الشرق قد توهم كون الملكية الفردية مصدر شقائه في الحياة، فإن القارة برمتها لم تعان ذات يوم من تسلط أي دين، حتى الدين الكنسي، ناهيك عن الدين الإسلامي الذي كان مصدر استقرار ورفاهية للقارة قبل الاحتلال.
والتاريخ الإنساني خير شاهد على براءة الدين من كل إصر أو غل، مصداقا لقوله جل في علاه: ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) (الأعراف:157) . [ ص: 97 ]
وعلى العموم، لقد كان تبني علمانية أو مادية التعليم جزءا من أهداف ومخططات قوى الاستغلال، التي تم التأكيد فيها على ضرورة تلقين النشء (الأسلوب الغربي (والشرقي) والمبادئ الغربية والشرقية، والتفكير الغربي (والشرقي) .. وذلك هـو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره (لتغريب وتشريق المسلمين في القارة) .
وصفوة القول هـو: إن عددا كبيرا لا يستهان به من الشباب الإفريقي المسلم يعاني، بسبب هـذه النظم التعليمية الوافدة، جفافا روحيا، وغربة عميقة عن حقائق دينه، وكلياته ومبادئه، إضافة إلى الفهم المعوج لمقررات دينه وعقيدته، مما يكفي سببا للدعوة إلى ضرورة التخلي عنها كلية، أو على الأقل السعي الحثيث العاجل نحو أسلمتها عن طريق إعادة صياغة مرجعياتها وأهدافها!