آثار النظم التعليمية الوافدة
على مستوى نظرة الشباب إلى الحياة
ليس من ريب في أن النظم التعليمية الغربية تسعى جاهدة إلى إعداد فرد مادي يحقق أقصى ما يقدر عليه من ملذات الحياة وشهواتها (مبدأ: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) ، جاعلة مبدأ الملكية الفردية [ ص: 98 ] الأنانية وسيلة سامية لتحقيق ذلك.. وأما النظم التعليمية الشرقية فهي الأخرى تروم -حسب مخططيها- إيجاد مجتمع مادي إلحادي، خلو من أي جانب روحي غيبي، متخذة من مبدأ الملكية الجماعية سلاحها الحاد في تحقيق ذلك.. ويوم أن اعتنقت جل أقطار القارة هـذه النظم التعليمية الغربية والشرقية، اعتنقت هـذه الأهـداف العليا، وحاولت ما وسعها من جهد تمثل هـذه الأهداف، وجعلها واقعا ملموسا، بيد أن هـذه الأهداف قد جلبت للقارة فتنا وحروبا وقلاقل ودمارا وثبورا.. ويمكن للمرء أن يلحظ العلاقة الجدلية الدائمة بين هـذه الأهداف، والأوضاع الراهنة في القارة.
فالأنانية تقف عاملا قويا وراء فشو الحروب الأهلية التي لا تزال تجتاح القارة، شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، وتقف أيضا سببا واضحا لكثير من الانقلابات العسكرية الدموية، التي يقودها زمرة غذوا بلبان الأنانية والحقد والنرجسية، ولا تهمهم سوى تحقيق مصالحهم الخاصة. وتقف الديكتاتورية ومصادرة الحريات وراء كثير من أوضاع التخلف والتأخر، مما دفع بكثير من صفوة علماء أبناء القارة إلى الهجرة، والعيش في كنف المجتمعات التي ترى في العلم وفي العلماء أسا لكل تقدم وتطور. [ ص: 99 ]
إن تربية النزعة الفردية أو النزعة الجماعية، بمعانيها الوافدة، في عقول الشباب الإفريقي المسلم، أورثت كثيرا منهم فهما مقلوبا لقيم الصدق، والأمانة والعدالة، والإنصاف والاستقامة، وغيرها من قيم التحضر والتقدم، فغدت خصال الرشوة والفساد واختلاس الأموال العامة، وسوء الإدارة والقيادة، وتقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة، وغيرها من خصال التخلف والتأخر،خصالا حميدة في حس كثير من تلك الأجيال التي صنعتها تلك النظم، وأحسنت تربيتها أيما إحسان.. ولا غرو أن تنشأ تلك الأجيال على اعتقاد جازم وقناعة أكيدة بأن لا عقاب أخرويا على تلك الآفات والأوبئة الخلقية، وذلك لأنها شئون دنيوية محضة لا صلة بينها وبين الشئون الأخروية.
إن ثمة علاقة وطيدة بين دوامة تخلف القارة وتأخرها وبين فشو أخلاقيات الكذب والدجل، والرشوة والفساد، والأنانية والنرجسية، وعدم المسئولية وغيرها من الخصال والأدواء، التي تكبح كل تطلع إلى تقدم أو تطور، والتي تقف تربية النزعة الفردية أو النزعة الجماعية بمعانيها الغربية أو الشرقية وراء نشوئها وفشوها في حياة كثير ممن تلقوا تعليمهم وفق تلك النظم الوافدة.
لذلك فلا عجب أن تكون القارة الإفريقية من أغنى قارات العالم -بل أغناها على الإطلاق- من حيث مواردها الطبيعية، وثروتها [ ص: 100 ] المعدنية
[1] ، غير أنها مع كل ذلك تعتبر أكثر القارات تخلفا وتأخرا، واضطرابا وتقهقرا، وليس ثم سـر ولا مسئول عن ذلك سوى افتقار القارة إلى جيل آخر متعلم من الشباب، يصدر عن توجيهات خالق الحياة ومدبرها، ويرى الديني أخـا السيـاسي، وأخا الاجتماعـي، وأخا الاقتصادي، وأخا الجنائـي، ويستشعـر مسئوليتـه تجـاه ربـه [ ص: 101 ] وتجاه نفسه وأمته، بحيث يعيش خاليا من كل أنانية وحقد، ورشوة وفساد ومحسوبية، وعصبية ودكتاتورية، ودعة وكسل وتواكل.
ولئن جلبت تربية النزعة الفردية بعضا من ثمار التقدم للمجتمعات الغربية، فإنها لم تجلب للمجتمعات الإفريقية سوى الأنانية وحب الذات، والنرجسية، والفساد، والخيانة والرشوة والغش، والمحسوبية وسوء استعمال المنصب [2] ، بل لم تجلب في واقع أمرها للقارة سوى مزيد من الحروب الأهلية والدمار، والقلاقل والانقلابات الدموية، ولعل مرد ذلك في تصورنا، النقل الاصطناعي لهذه الفكرة والغاية، من مهد نشأتها إلى مهد آخر ليس مهيأ لتقبلها وتمثلها، نظرا لاختلافه من حيث التكوين والاستعداد عن المهد الذي نشأت فيه.
ولئن قدمت تربية النزعة الجماعية إلى المجتمعات الشرقية بعضا من الاستقرار النسبي المكهرب، فإنها ساقت المجتمعات الإفريقية -التي آمنت بها حينا من الدهر- إلى سيل من الديكتاتوريات ومصادرة الحريات، وملاحقة الصفوة من العلماء والمفكرين، إضافة إلى تشجيع الكسل والدعة والدجل، والعيش في كنف الآخرين، والانقطاع عن الجادة والسعي المحترم، الأمر الذي نتج عنه تعرقل كل مشاريع التقدم والتطور. [ ص: 102 ]