نحو بديل حضاري للنظم التعليمية الوافدة
إسلامية النظم التعليمية: المرجعيات والأهداف والواقع
إن تحليلنا ونقدنا للنظم التعليمية الوافدة على القارة لم يكن مقصودا في حد ذاته، وإنما كان القصد تقديم الحلول الناجعة والأدوية الشافية لأدواء تلك النظم وآفاتها، واقتراح بديل حضاري لها قادر على جلب التقدم والتطور الذي تطمح في نيله الشعوب الإفريقية خاصة، وشعوب العالم عامة.
ولئن كنا قد انتهينا في حديث سابق إلى القول: بأن الإسلام يشكل دين الأغلبية في القارة الإفريقية، وأكدنا قبل ذلك على أن الإسلام كان ولا يزال مصدر السعادة والرخاء والرفاهية والاستقرار للإنسانية جمعاء، وذلك منذ بدئه، ونزوله من عند الخالق العليم القدير، ذلك أن هـذا الدين (في جوهره صلة وصل لا تنفصم بين قيم المجرد، ومزايا المتغير، بين المسلمات الأولى للوحي، والشك الخلاق الذي يقوم عليه التفكير العلمي، (ولأنه) .. مرجع دائم لما هـو أساسي للإلمام بما هـو خاص، وهو عودة مستمرة للمقدسات في سبيل فهم الأمور الدنيوية.. لا يخشى الجديد بل ينادي به دائما كشرط أساس [ ص: 109 ] لإثبات الحقيقة) [1] .. ولئن كنا قد نقدنا النظم التعليمية الوافدة، وتمحور نقدنا حول تميزها بالوافدية والغربة، من حيث مرجعياتها وأهدافها والواقع الذي تطبق فيه، فإن البديل الحضاري المقترح لهذه النظم يجب أن يتسم بسمات ثلاث أساسية، وهي:
أ - وضوح المرجعية، وصلاحيتها للقيومية على الحياة، وتوجيهها وجهة خيرة نيرة.
ب - وضوح الأهداف وجلاؤها، وانبثاقها من وحي المرجعية.
جـ - ملاءمة الواقع، وتلبية ضرورياته وحاجاته الأساسية.
فهذه الركائز والسمات الثلاث ينبغي توافرها في النظام التعليمي البديل المقترح للنظم التعليمية الوافـدة؛ لأن وافديـة تلك النظـم -كما أسلفنا- تتجلى في افتقارها إلى هـذه السمات الثلاث.
ولكي يصدر النظام التعليمي عن هـذه السمات والركائز ويتوافر عليها؛ فإنه لا بد من إعادة صياغته من حيث مرجعيته وفلسفاته من جهة، ومن حيث أهدافه وغاياته من جهة أخرى، ومن حيث علاقته بالواقع المعيش من جهة ثالثة. [ ص: 110 ]
وهذه العملية (إعادة البناء أو الصياغة) ، هـي التي نصطلح عليها في هـذه الدراسة بأسلمة النظم التعليمية الوافدة، ومرمانا بهذا الاصطلاح -أسلمة النظم التعليمية- هـو بناء نظام تعليمي يصدر عن مرجعية الوحي الإلهي الكامل في ضبط القيم وتحديدها، وعن مرجعية العقل الإنساني الجزئي في معرفة السنن والفطر والطبائع في الكون والكائنات، بغية حسن التعامل معها، ويكون هـادفا إلى إعداد فرد صالح في مجتمع صالح، يرى تكاملا بين الوحي الإلهي والعقل الإنساني السليم، والواقع الطبيعي غير المفتعل، فيعمل مسترشدا بقيم الوحي، ومتزودا بأدوات الرصد والتحليل في المعارف الإنسانية المختلفة، بغية حسن فهم واقعه، وإرشاده إلى ما فيه صلاحه وفلاحه دنيا وأخرى، سعيا إلى الجمع بين الحسنين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
إن إعادة صياغة النظم التعليمية المطبقة في القارة وفق هـذه المعايير المهمة، ووفق هـذه الرؤية الحضارية المتكاملة للنظرة إلى الإنسان والكون والحياة، هـي التي نحسبها أهم عملية في تكوين جيل آخر من الشباب المسلم، الذي يتطلع إلى إنقاذ القارة برمتها من براثن التخلف والتأخر والتقهقر، فواقع القارة يبرر تبني هـذا المشروع، وذلك لأن القـارة منـذ ما يربو على نصف قرن من استقلالها من قوى الاحتلال والاستغلال، [ ص: 111 ] جربت سائر النظم الوافدة، وذاقت مرارتها، وعانت ولا تزال تعاني من ويلاتها وكوارثها، وقد برهنت الأيام والعقود على عجز تلك النظم عن تقديم بلسم شاف لأدواء التخلف وأمراض التأخـر والتقهقـر، فالقـارة لا تزال حتى هـذه اللحظة في شرقيها وغربيها، وفي جنوبيها وشماليها، تراوح وتدور حول ذاتها، وتتقلب ليل نهار بين صنوف الأزمات والمشاكل والهزات والقلاقل والاضطرابات، والفواجع العظيمة.
ويوم أن تتم صياغة النظام التعليمي وفق تلك المعايير والأسس، فإنه يصح لنا يومئذ أن نتطلع إلى حياة رغدة هـانئة سعيدة للأفراد والمجتمعات، وللإنسانية برمتها.. ويوم أن تعاد صياغة تلك النظم، فإنها تغدو نظما إسلامية قيمة خيرة هـادية إلى الخير والفلاح.. وبطبيعة الحال، إننا لا نروم من النظام التعليمي الإسلامي، ذلك النظام الذي يقوم على التعليم الديني، بالمفهوم الشائع الذي ينحصر في تعليم الناس مبادئ دينهم، وإعداد علماء يعرفون بعلماء الدين والشريعة، ولكننا نروم من النظام التعليمي الإسلامي -كما أسلفنا- ذلك النظام الذي يؤمن بـ (تكامل الوحي الكلي والعقل الجزئي في بناء المعرفة الإنسانية، ومعرفة السنن والفطر والطبائع في الكون والكائنات.. مع سلامة التوجه، وسلامة الغاية، وسلامة الفلسفة، التي [ ص: 112 ] تتوخاها أبحاث العلوم واهتماماتها وتطبيقاتها وإبداعاتها) [2] ، بغية إنتاج علم إصلاحي إعماري توحيدي أخلاقي راشد، وقصد تكوين فرد صالح في مجتمع صالح ينعم بالرفاهة والسعادة والاستقرار، ويرى تكاملا بين الأمور الثلاثة التي ذكرناها آنفا، وهي: الوحي الإلهي مصدرا للقيم والتوجيه، والعقل الإنساني مصدرا لفهم القيم وفهم طبائع الأشياء ونواميس تكوينها، والواقع الإنساني المعيش مجالا ومحلا لتنزيل قيم الوحي ومقاصده، ولتطبيق الفهم الإنساني الصحيح للقيم، ولطبائع العمران.
فالنظام التعليمي الإسلامي بطبيعته يتميز بإعداد أفراد يتميزون بالجمع بين الإيمان بمرجعية الوحي، ودور العقل الإنساني في فهم تعاليمه وكلياته، قصد تنزيلها على الواقع المعيش، كما يتميزون بالصدور عن فهم سديد للمثال، وعن استيعاب عميق للواقع، حيث إنهم يرون ضرورة تجاوز فكرة الثنائية [3] بين العلوم، التي تقوم على الفصل بين [ ص: 113 ] علوم الدين وعلوم الدنيا، بناء على الفصل بين الديني والدنيوي.
إن إسلامية النظم التعليمية هـي الأمل في تأهيل الأجيال الصاعدة للقيام بدورهم الخلافي في الشهود على أمم الأرض، وفي هـداية الإنسانية إلى النهج السديد القويم. وإذ ذلك الأمر كذلك، فإنه حري بنا تجلية الركائز الأساسية التي تقوم عليها أسلمة النظم التعليمية الوافدة، فإحلال نظام تعليمي إسلامي، نخاله النظام الأقدر على حل أزمات القارة العقيدية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.