رأي في الشأن اللغوي الراهن
غربة العربية ومسألة التعريب
التعريب قضية من القضايا التي تمس اللغة العربية ومتكلميها في الصميم؛ لأنها تتعلق بإعادة المتكلمين في المجتمع العربي إلى سمت العرب ونهجها في التعبير. ولن نخوض هـنا في استعراض معاني مصطلح التعريب [1] ، ولكن الذي يعنينا من إشكال التعريب هـو العودة باللغة العربية إلى وضعها التعبيري الشامل، وذلك بتطويعها لاستقبال الوافد الأجنبي، سواء أكان هـذا الوافد الأجنبي لفظيا أم كان متعلقا بالتقنية الأجنبية، وصبغ مرافق الحياة بصبغة اللغة العربية، أي توضيعها داخل الإدارة والتعليم.
والتمكين للغة العـربية في المجتمـع العربي في مرافقه المختلفة لا يتأتى إلا باتخاذ القرار السـياسي [2] ، الذي يجعل من اللغة العربية اللغة الأساسية في المحيط الإعـلامي والتعليمي والاقتصادي، وهذا التمكين للغة سيفضي بها لا محالة إلى نمو داخلي وتقوية ذاتية، وتطوير لوسائل مواكبة العصر واستيعاب المستجدات. [ ص: 85 ]
ولا شك أن الاعتراض على التعريب –اليوم– جريمة في حق هـذه اللغة وفي حق متكلميها، ولا شك أيضا أن هـذا الاعتراض تعود أصوله إلى سياسة منع التعريب التي نهجها الاستعمار في البلاد العربية وخاصة دول المغرب العربي. ولقد عبر عن ذلك المؤلف الفرنسي «Victor Piquet» في كتابه «الشعب المغربي: الكتلة البربرية» [3] ، الذي أراد أن يثبت أن الشعب المغربي ليس عربيا، وأن لا علاقة لسكانه الأصليين من البربر باللغة والحضارة العربيتين، ومن ثم يتعين عزل المغرب عن محيطه العربي على جميع الأصعدة، ومنها الصعيد اللغوي، وربط مصيره بفرنسا والغرب.
فكل اعتراض على تعريب الإدارة والتعليم والاقتصاد، ينخرط بصفة جزئية أو كلية في حملة الاستعمار، ويحمل في طياته، بصفة غير مباشرة، الدعوة إلى نشر اللغة الأجنبية والدفاع عنها والتقاعس عن بذل الجهود لإخراج البلاد من التبعية للاستعمار، بدعوى أن الذين يتعين عليهم أن ينهضوا بمهام التعريب في الميادين المذكورة درسوا باللغات الأجنبية، وليست هـذه الدعوى على كل حال مسوغا للاستمرار في اتخاذ اللغة الأجنبية لغة العلم والتعليم والفكر، بدلا من العربية.
إن التعريب المرجو الذي يحقق نهضة الأمة، لا يقف عند مجرد إحلال العربية محل الأجنبية في الإدارة والتعليم والاقتصاد [4] ، ولكنه يتعدى «تعريب [ ص: 86 ] التعبير» إلى «تعريب التفكير». والمقصود بتعريب التفكير ممارسة التفكير بطريقة تراعي خصائص المجتمع العربي برمته، وتقوي الشعور بالانتماء إليه بدلا من الانحصار في دائرة القومية الضيقة، ذات النزعة الانفصالية.
والتعريب المرجو -أيضا- هـو الذي يخلص الأمة من الاتباع الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي للغرب، ويضمن لها خصوصيتها وتفردها وإثبات ذاتها، ويتيح لها حرية التصرف والانفتاح على (الآخر) في إطار المثاقفة والتبادل، لاختيار ما ينفعها ويناسبها، من دون فرض ولا إكراه.
والتعريب المرجو أيضا، هـو الذي يؤلف بين فئات الشعب العربي اجتماعيا وفكريا، ويوحد وجهات أنظارهم، أو -على الأقل- يقلل من الفروق والخلافات بينهم ويضمن للمعارف والعلوم انتشارا واسعا، باللغة الأم. أما بقاء تداول المعارف والعلوم باللغات الأجنبية، فسيحصرها في حدود فئة ضيقة، هـي فئة الناطقين بتلك اللغات، ويحرم منها الناطقون بالعربية؛ فتكون اللغة الأجنبية حاجزا كبيرا يعوق انتشار المعارف التي هـي حق مشاع بين الناس.
والتعريب المرجو هـو الذي يراد منه للعربية أن تتبوأ مكانها الطبيعي، فتكون اللغة الأولى في الحياة والمجتمع والعلم والتعليم. أما اللغة الأجنبية فينبغي أن تعطى قدر ما تستحق، دون تغليبها على اللغة الأم. والأمثلة على تداول العلم والمعرفة باللغة الأم كثيرة جدا؛ فقد استعرض الباحثون المهتمون بقضية تعريب العلوم في الجامعات أمثلة مناسبة، منها نموذج الدانمارك الذي يدرس مـواده في التعليم بلغته، مع العـلم أنه لا صلة له باللغات اللاتينية أو الأنجلوساكسونية المعروفة، ونموذج اللغتين الهنغارية والفنلندية ونموذج [ ص: 87 ] اليابان الذي يشهد بتفوق اللغة والتقانة اليابانيتين على الصعيد الاقتصادي والعلمي العالميين، وكذلك النموذج الصيني...
أما العربية فإنها مؤهلة لأن تتبوأ مكانتها في مضمار تعريب العلوم وتداولها، أكثر من غيرها، وخاصة أنها كانت في عهد تاريخي غير بعيد إحدى اللغات القليلة لمن أراد أن يتعلم العلوم، ووسيلة للانفتاح على العالم [5] .