رأي في منهج إحياء التراث، ومواجهة التغريب
ما زال تراث الأمة في حاجة إلى إحياء. وقد تعالت الأصوات في كل مكان تنادي بكشف الغطاء عنه، وعقدت الندوات والمؤتمرات والمناظرات والأيام الدراسية للإدلاء بآراء ووجهات نظر في مناهج دراسته وجعله حاضرا بين الناس، يحيون به ويجيبون به عن نوازل العصر... وتنوعت هـذه الطرق والمناهج والأدوات؛ فمنها ما يروم دراسة التراث بنظرات مستنبطة منه، أي دراسة التراث بالتراث. ومنها ما يدرسه بأدوات منهجية مقتبسة من أدبيات الغرب وثقافته، فيبقي من هـذا التراث ولا يكاد يذر إلا القليل منه، بدعوى البحث عن عيون التراث وعناصره الإيجابية المتطورة، ويزعم هـذا المنهج أن استعارة نموذج ما أنسب طريق لدراسة هـذا التراث. ومن الباحثين من ينادي بالتوفيق بين القديم والحديث في دراسة التراث؛ أي دراسته بما يناسبه ولا يعارضه من أدوات منهجية حديثة.
وأريد أن أبدي -في سياق الحديث عن غربة التراث عموما، والتراث اللغوي على وجه الخصوص- رأيا في الموضوع، أظن أن تطبيقه أمر يسيـر [ ص: 88 ] لا يكلف جهودا نظرية وعملية كبيرة، ولكنه يتطلب عمل فريق من الباحثين ذوي العدد والعدد والاختصاصات والاهتمامات المنهجية والعلمية المختلفة. وقوام هـذا الرأي أن ننتقي من المصادر، مصادر الأدب واللغة والمعاجم وكتب النوازل الفقهية، ومن كتب الآداب والمواعظ والحكم والتواريخ، والنوادر والأخبار والحكايات واللطائف ورقائق الأشعار، وغيرها، عددا من المواد والظواهر ومئات من الألفاظ والأسماء والأمثلة والنماذج والرؤى التي تزخر بها، مما يتداول في عصرنا أو يجيب عن أسئلته أو بعض أسئلته، أو له بها اتصال، فيكون هـذا الانتقاء جاريا على جزء كبير من التراث الذي هـو في الأصل إنتاج علمي ضخم كتب له البقاء؛ لما يتضمنه من عمق في النظر وجهد في الإنجاز والتوليد، فلا يصح أن يستغنى عنه لمجرد تبدل العصر وأن تستعار نماذج حديثة مستنبتة من بيئة غريبة، وضعت في الأصل لتعالج قضايا خاصة بمنتجيها.
فالمعاجم العربية القديمة مثلا، تضـم آلافا من المفردات اللغـوية التي ما زالت تصلح للتداول اليوم، ولكنها مهملة في بطون المعاجم تعاني من غربة شديدة فرضت عليها، بسبب ضعف هـمم البحث وقلة من يتصفح المعاجم لاستخراج المادة اللغوية المعجمية الصالحة للاستعمال. ومن الألفاظ ما هـو مستعمل ولكن دلالته أصيبت بالتغير عبر تاريخ اللغة، وهذا يدل على حاجتنا إلى « المنتقى من الألفاظ لما يتداول من المعنى المراد »، فالألفاظ دفينة بطون المعاجم، والمعاني متداولة اليوم ولكن بألفاظ متفاوتة بين الفصاحة والركة والعجمة وعدم الدقة؛ فينبغي تغيير هـذه الألفاظ والبحث عن نظائرها في المعاجم القديمة، لتنـزيلها على معاني الأشـياء والمفاهيم [ ص: 89 ] وما إلى تلك الظواهر المستعملة المتداولة. وبذلك نجعل لهذه المعاجم وظيفة دلالية ونحدث لها نقلة تاريخية لنعيد إحياء ألفاظها. ولا شك أن هـذه المعاجم الضخمة تشتمل على مادة لغوية غنية مستقاة من الرسائل اللغوية، التي جمعها اللغويون من أفواه الرواة ومن القبائل العربية الفصيحة ومن الشعر العربي، الذي هـو وعاء الأمة ولسانها المعبر عن أفراحها وأتراحها وأحوالها وحضارتها، أي أنه مادة مستقاة من حضارة الأمة في تاريخها القديم، وينبغي إعادة تشغيل هـذه المادة اللغوية الضخمة، وإعادة استعمالها وتوظيفها في يومنا الذي هـو امتداد لأمسنا قبل أن يكون ابتداء لغدنا.
ويضاف إلى المعاجم مصادر أخرى مكملة لها، هـي كتب الأدب واللغة والنقد والبلاغة، وكتب آداب الكتاب وصانعي الكلام [1]
وكتب إصلاح المنطق [2] ، لما تتضمنه من مادة ثرية. وينبه في هـذا السياق على أن حملات التحقيق العلمي التي شملت هـذه المصادر، قد يسرت لنا أسباب الرجوع إليها والإفادة منها، ومهدت السبيل إليها، واختصرت طرقا عويصة تتعلق بتقنيات الكتابة والقراءة واستخراج النصوص الأصلية، ولما بدأت مرحلة البحث والتحليل والدراسة واستثمار النصوص المحققة، بدأ الدارسون يقدمون هـذه النصوص إلى القراء بدراستها من زوايا منهجية معينة، وبالتركيز على جوانب من الظواهر دون أخرى، وإلقاء الأضواء على أركان دون أخرى؛ فصنفت الكتب المحققة إلى مواضيع وإشكالات وظواهر، وبنيت دراسات [ ص: 90 ] كثيرة على مصادر غزيرة فازداد اتساع هـذا التراث، ولكننا لم نستثمره الاستثمار العملي الذي ينفض المصادر المحققة والمدروسة نفضا، ويشيع ألفاظها إشاعة ونشرا وتداولا في الحياة اليومية وفي الصحف السيارة... فظلت كتب التراث، وما تبعها من أبحاث ومصنفات ودراسات أكاديمية ، حبيسة الجامعات والأكاديميات ورفوف المكتبات، ولم يحصل لها أي أثر في الحياة لوجود حجاب حاجز يحول دون إخراج محتويات المصادر إلى المجتمع والحياة اليومية، بالمناسب من مناهج التنـزيل والإخراج.
وما قيل في المعاجم ومصادر الأدب واللغة والنحو والنقد والبلاغة، يقال في كتب الفقه، والأصول، والنوازل، ومصنفات الحديث، وعلوم القرآن الكريم؛ فإن هـذه المصادر تتضمن من الفوائد والمعاني الجليلة ما ينبغي أن يجد طريقه ويتبوأ منـزلته في عصرنا، ففي ذلك تمكين لهذه العلوم من توجيه الحياة العلمية وإشاعة نوع من القيم الروحية والعقدية والفكرية والمادية، التي هـي قيم مألوفة في تاريخنا لا غريبة عنه، ولكنها تسير نحو الغربة والغرابة والاضمحلال كلما تقدم الزمان وهيمنت حضارة الغرب وسادت قيمه.
فهذه رؤية لا يبدو أنها عسيرة التحقيق، وكل ما في الأمر أن ترصد وسائل لتيسير البحث واستخراج المادة المطلوبة، وفرق بحث يساعد بعضها بعضا للتغلب على الكثرة الكاثرة من الألفاظ والمعاني وطرق التصنيف.
وبعد ذلك تصنف المواد المستخرجة إلى أصناف وأبواب، بحسب المواضيع والمعاني والمجالات المتداولة اليوم، ثم تذيل بالمعلومات اللازمة التي يحتاج إليها في مجال التداول والاستعمال، وتنشر في كتب متخصصة ودوريات ومجلات، وترفع إلى السلطات الرسمية المكلفة بالتعليم، لإدراجها [ ص: 91 ]
في مقررات الدراسة وتوزيعها على كتب البرامج التعليمية؛ فتكون تلك الدوائر الرسمية قد أسهمت في نشر علوم غنية ظلت رهينة بطون المصادر وكتب التراث عشرات السنين، ولكن إخراجها إلى الوجود والتداول والاستعمال كفيل ببعث مبادئ حضارية وقيم فكرية وعقدية ثمينة، ترجع إلى الأمة مجدها التليد، وتعيد تركيب بنائها الحضاري، وتصحح منطلقاته التي عبثت بها أيدي الاستعمار منذ قرون وقصدت إلى تحريف مسار التطور الحضاري الإسلامي لإلحاقه بمسار تطور أوربا والغرب.
وهذا أمر لم يفلح فيه الاستعمار ولن يفلح فيه؛ لأن هـذه الأمة استنبتت من جذور قارة، راسية، عميقة، ضاربة في التاريخ، ومثبتة بثوابت علمية وعقدية مكينة، وأمر زحزحتها عن أصولها مستحيل. وكل ما استطاعه العابث المستعمر هـو أن يشوش على تاريخ الأمة، ويثير الغبش في الأذهان، ويشغل الناشئة الجديدة بأنماط جديدة من الحياة الاجتماعية قوامها التفسخ والانحلال وحمل الأجيال الجديدة على التنكر لمقومات الأمة، ولكن جهود إحياء التراث بمقاصد تصحيح مسيرة التاريخ وطرد الغبش عن الأذهان، جعل الناشئين يرجعون من جديد إلى تصفح تاريخهم، واكتشفوا أنهم كانوا يجرون من وراءهم حضارة شامخة وهم عنها غافلون، حضارة اشترك في بنائها جموع غفيرة من العلماء والمجاهدين والمصلحين والمربين، طيلة أزيد من عشرة قرون، وآن لهم أن ينفضوا عنها شبهات المستعمرين، وتشويه الحاقدين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وقد كان الاستعمار أحرص الناس على إلحاق حضارة الإسلام والمسلمين بمصير الحضارات البائدة في أمريكا الجنوبية ويقيم بناءه على أنقاضها. [ ص: 92 ] ولهذا فإن الأجيال الجديدة التي فتحت أعينها على مدنية الغرب الجارفة، ينبغي أن تفكر تفكيرا موضوعيا في هـذه المدنية، وتتأكد من أنها جاءت لتخدم مصالح قومها فقط، لتثبت لهم السيادة والريادة في مرافق الحياة كلها، وتجعل غيرهم تابعا لهم وملحقا بهم لا يملك إلا الإذعان لمدنية الغرب. إن ناشئة الأجيال الجديدة مطالبون اليوم بإخراج تراثهم وإبراز معالم حضارتهم لمقاومة هـذه الحركة العاتية : « حركة تغريب التراث » و « حركة طمس الذوات »، التي اتخذت اليوم أشكالا أخطر من أشكال الأمس وأدوات أضر بالأمة وأقوى تأثيرا وأشد ضراوة وفتكا وتنكيلا من أدوات الأمس. فمن لم يستعصم بحضارته وما فيها من قيم العقيدة والعلم وعناصر القوة والوحدة، فإنه لن يثبت أمام عواصف التغيير واجتثاث الجذور، وسينتهي مصيره لا محالة إلى الزوال.