اقتراح عملي لحل مشكلات الدلالة: استثمار المعاجم
ليس الغرض من هـذا الاقتراح المعجمي البحث في موضوع المعجم والمعاجم العربية والتأريخ له، ولا نقد ما صدر من المعاجـم قديما وحـديثا، ولا وضع منهجية حديثة للتأليف في المعاجم تناسب مطالب الاستعمال المعاصر
[1] . فهذه مواضيع قد أنجزت فيها أعمال كثيرة أحاطت بالظاهرة
[ ص: 93 ] المعجمية من جوانب كثيرة، وألف فيها عرب ومستشرقون منذ القرن التاسع عشر إلى عصرنا...
ولكن القصد هـنا هـو الإفادة من المعاجم العربية القديمة التي بنيت على مادة لغوية فصيحة من القرآن والحديث والشعر والأقوال والأمثال والمعربات التي أقرها القياس اللغوي، واعتمادها أساسا مرجعيا للمفردات التي يحتاج إليها الاستعمال المعاصر. فالغاية استعارة كلمات، يدعو المقام وظروف الخطاب والحاجات المتجددة إلى البحث عنها في المعجم، لسد حاجة الدلالة. ويرد في سياق هـذه الاستعارات المعجمية فائدتان كبريان:
أولاهما: تصحيح استعمال «المتداول من الألفاظ»، وذلك بعرض المتداول من الكلمات على الوارد في المعجم، من أجل التقويم والتصحيح.
والثانية: إحياء ألفاظ مهملة ذات دلالات مستعملة. فكم مدلول نفتقر في استعماله وتداوله إلى الدال المناسب له، فنلجأ إلى استعارة الترجمات الجاهزة التي لا تخضع لمقاييس العربية الصرفية والصوتية، بينما تكون الألفاظ المناسبة لهذه المعاني مبثوثة في بطون كتب اللغة والمعاجم، ولا تجد من يتصفحها وينقر عنها ويستخرجها. وهناك ألفاظ كثيرة مستعملة اليوم من دون استشارة الفصيح من المعاجم العربية، وإنما مرجعها إلى الترجمة المعاصرة، ومنها كلمـة « العاطل » التي تطلـق اليوم، ويراد بـها المتردد بلا عمل، والعاطل -وكذا العطلاء- صفة للتي خـلا جـيدها من القلائد ولم تلبس الزينة، والجمع عواطل وعطل
[2] ، وإنما دلوا على المتردد
[ ص: 94 ] بلا عمل بـ «الباهل». فالباهل المتردد بلا عمل، وهو الراعي بلا عصا، وامراة باهلة لا زوج لها، والباهل الذي لا سلاح معه
[3] .
فينبغي لنا أن نسترجع الحالة اللغوية الفصحى إلى الحياة العصرية؛ لأن اللغة ملازمة للأمة ترافقها في جميع خطواتها الدلالية. أما اليوم فقد أضحت حياتنا اليومية ذات ألوان مختلفة، ولم تستنبت هـذه الحضارة التي تغلبت علينا قيمها، في بيئتها فتخرج بطابعها العربي، ولكنها انحدرت بزي غريب وأسماء غريبة ذات عجمة في طابعها، فاتصلنا بهذه الحضارة الأجنبية، ولغتنا مختلفة عما كانت عليه مثقلة بشوائب من اللغات واللهجات.
وينبغي لنا أيضا، والحال هـذه، أن نعود إلى اللغة الفصحى فننشرها ونبحث فيها عما نحن في حاجة إليه من ألفاظ، نفك بها الطوق عن الدلالة، وننعتق من الاستلاب اللغوي، بما تمتلئ به المعاجم من ألفاظ.
و قوام هـذا الاقتراح أن نتخذ من بعض المعاجم وكتب اللغة كلسان العرب لابن منظور
[4] ، ومعجم الصحاح للجوهري، والمعجم في بقية الأشياء لأبي هـلال العسكري، والمزهر في علوم اللغة وأنواعها لجلال الدين السيوطي، والمخصص لابن سيده
[5] ، وكتاب النوادر لأبي زيد الأنصاري، وكتب الفروق في اللغة، وكتب الإبدال، وما اتفق لفظـه واختلف معناه،
[ ص: 95 ] وما اتفق معناه أو تقارب، واختلف لفظه، والرسائل اللغوية التي اتخذت نواة لتأليف المعاجم المتخصصة، منها ما ألف في اللبن، والمطر، والسيف، وأسماء الوحوش والإبل والخيل والشاء، والنبات والنخل والكرم والزرع وخلق الإنسان... وأصحاب هـذه الرسائل تشابهت جهودهم، ومهدوا السبيل لنشأة المعجم العربي
[6] المتخصص. وأشهر من ألف فيها من اللغويين
النضـر ابن شميل (ت.203) ،
وقطرب بن المستنير (ت.206) ،
وأبو عبيدة معمر ابن المثنى (ت.210) ،
وأبو زيد الأنصاري (ت.214) ،
وأبو سعيد الأصمعي (ت.214) ... ولا ننسى ما ألف من قبل، في مضمار المعاجم المتخصصة من كتب يونانية نقلت إلى اللغـة العربية، كالمقـالات الخمس، أو كتاب الحشائش، للعالم اليوناني
«ديوسقريديس العين زربي» (من ق.1م) ، وهو من نقل
«اصطفن بن بسيل» (من ق.3م) ،
وإصلاح حنين بن إسحاق (ت.260) ، وكتاب الأدوية المفردة للعالم اليوناني
«جالينوس» البرغامي (ت.199م) ، وهو من نقل حنين بن إسحاق في إحدى عشرة مقالة. والكتابان طبيان صيدليان موضوعهما الأدوية المفردة، أي مفردات المواليد الثلاثة : النبات والحيوان والمعادن، ومثل هـذا الضرب من التآليف العلمية القديمة المتخصصة كثير... ومما ألف في المعاجم المتخصصة ( في القرن التاسع عشر ) المعجم المفصل في أسماء الملابس عند العرب، للمستشرق
«دوزي» (ت.1883م)
[7] ...
[ ص: 96 ]
قلت : يمكن أن تتخذ هـذه الكتب وأمثالها مصادر معتمدة، تستخرج منها المفردات العربية الفصيحة، وترتب على نحو مخصوص من الترتيب والتأليف، حتى يتمكن من استعمالها المستعمل، للدلالة على مدلولات متداولة بيننا اليوم. وسيقود هـذا المعيار إلى الاستغناء عن كلمات متداولة اليوم، لا يضبطها ضابط من قياس أو سماع، واتخاذ أخرى من المعجم الفصيح بدلا منها لاجتماعهما في الدلالة على الشيء الواحد، هـذا مع الحرص على تـهذيب كل مبحث وتـخليصه مما لا يحتاج إليه المتكلم، ومما لا يدور في دائرة تداوله العلمي.
و لا شك أن هـذا المنهج سيخرج إلى التداول ألفاظا أصبحت اليوم نسيا منسيا أو كادت، وباتت «معطـلـة»، وبات الكـتاب والباحـثون لا يجدون بين أيديهم، عند إرادة التعبير عن معنى من المعاني إلا كلمات عامة الدلالة يمكن أن تصح في أكثر من موطن، وهذا يفضي إلى الاستغناء عن أكثر مفردات اللغة وإحلال الألفاظ العامة محلها، وفي ذلك إكراه لقلة من الألفاظ على التعبير عن الكثرة الكاثرة من المعاني، ويعقب هـذه الحال نعت للغة بالقصور عن مواكبة العصر ومجاراة الحضارة.
بينما العربية لسـان قد فتق بضروب من الألفاظ، جعلت رسـوما لما يتصور في العقول ويهجس في النفوس، وتسمية للأشياء لتحتاز بأسمائها، وينماز بعضها من بعض بحروفها وأصواتها؛ فقد جمعت العربية بين ألفاظ تدل على الشيئين المختلفين، كالبشر الذي يقع على العدد القليل والكثير، والجلل الذي يقع على العظيم والصغير، وألفاظ الشيئين المتضادين كالنهل الواقع على العطش والري، وألفاظ تدل على الأشياء المختلفة
[ ص: 97 ] كالجون الواقع على السواد والبياض والحمرة، وكالسدفة الواقعة على النور والظلمة وما بينهما من الاختلاط، والأسماء المترادفة، كقولنا في الحجارة حجر وصفاة ونقلة
[8] ، والأسماء المشتركة التي تقع على عدة أنواع كالعين لحاسة البصر، ولنفس الشيء، وللربيئة، ولجوهر الذهب، ولينبوع الماء، وللمطر الدائم، ولحر المتاع، ولحقيقة القبلة.
فهذه المواضـيع وأمثالها، يمكن اتخاذها مباحث، يجمع بوساطتها ما تنشر من أجزاء اللغة شعاعا، وتشعب وتفرق، فاحتاج هـذا النشر إلى التئام والنثر إلى انتظام.
هذا، وإن ألفاظ اللغة أكثر من أن تحصى في أبوابها ومواضعها من المعجم مما قيد في رسائل لغوية مختلفة، تدور حول مواضيع معينة جامعة، كالآباء، والأمهات، والأبناء، والأصوات، والأزمنة، والحشرات، والطير، والسلاح، والإبل، والخيل، والغرائز، والجرائم، وغيرها... فلسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ولا يكاد يحيط بجميع علم هـذا اللسان إنسان غير نبي
[9] ، وكلنا لم يؤت في إدراك الأمور كبير قوة ولا جسيم منة، وكل منا يضطرب بين الخطأ والصواب، والإخطاء أكثر من الإصابة، والظن أغلب من اليقين.
[ ص: 98 ]
اقتراحٌ عمليّ لحلّ مشكلات الدّلالة: استثمار المعاجم
لَيْسَ الغرضُ من هـذا الاقتراح المعجميّ البحثَ في موضوعِ المعجمِ والمعاجِمِ العربيَّةِ والتَّأْريخَ لهُ، ولا نَقْدَ ما صدرَ من المعاجـمِ قديمًا وحـديثًا، ولا وضعَ منهجيةٍ حديثةٍ للتَّأْليفِ في المعاجمِ تناسِبُ مطالبَ الاستعمالِ المعاصِرِ
[1] . فهذهِ مواضيعُ قدْ أُنْجِزتْ فيها أعمالٌ كثيرةٌ أحاطتْ بالظاهِرَةِ
[ ص: 93 ] المعجميَّةِ من جوانِبَ كثيرَةٍ، وأَلَّفَ فيها عربٌ ومستشْرقونَ مُنذُ القَرْنِ التّاسِعِ عَشَرَ إلِى عَصْرِنا...
ولكنَّ القصدَ هـنا هـو الإفادَةُ من المعاجمِ العربيَّةِ القديمةِ التي بُنيَتْ على مادَّةٍ لغويَّةٍ فصيحةٍ من القرآنِ والحديثِ والشِّعْرِ والأقوالِ والأمثالِ والمعَرَّباتِ التي أَقَرَّها القياسُ اللّغوِيُّ، واعْتِمادُها أساسا مرجِعِيًّا للمفرداتِ التي يحتاجُ إليها الاسْتِعمالُ المعاصِرُ. فالغايةُ اسْتعارَةُ كلماتٍ، يدْعو المقامُ وظروفُ الخطابِ والحاجاتُ المتجدِّدَةُ إلى البحثِ عنها في المعجمِ، لسدِّ حاجةِ الدّلالةِ. ويرِدُ في سياقِ هـذهِ الاسْتعاراتِ المعجميةِ فائِدَتانِ كُبْرَيانِ:
أولاهُما: تصْحيحُ اسْتِعمالِ «المُتَداوَلِ مِن الألفاظِ»، وذلكَ بِعَرْضِ المُتَداوَلِ منَ الكلماتِ على الوارِدِ في المعجَمِ، مِن أَجْلِ التَّقويمِ والتَّصحيحِ.
والثّانيةُ: إِحياءُ ألفاظٍ مهملَةٍ ذاتِ دلالاتٍ مسْتعمْلَةٍ. فكم مدلولٍ نفتقِرُ في استِعمالِهِ وتداوُلِهِ إِلى الدّالِّ المناسِبِ له، فنلْجَأ إلى اسْتِعارةِ التَّرْجَماتِ الجاهزةِ التي لا تَخْضَعُ لِمقاييسِ العربيَّةِ الصَّرْفيَّةِ والصَّوْتيةِ، بينما تكونُ الألفاظُ المناسبةُ لهذِهِ المعاني مبثوثَةً في بُطونِ كُتُبِ اللّغةِ والمَعاجِم، ولا تَجِدُ مَنْ يَتَصَفَّحُها ويُنَقِّرُ عَنْها ويسْتَخْرِجُها. وهُناكَ ألفاظٌ كَثيرةٌ مُستعْمَلَةٌ اليوْمَ مِنْ دونِ اسْتِشارَةِ الفَصيحِ منَ المَعاجِمِ العربيّةِ، وإنّما مَرْجِعُها إلى التّرْجمَةِ المعاصِرَةِ، ومنها كلمَـةُ « العاطِل » التي تُطلـَقُ اليومَ، ويُرادُ بـها المتردِّد بِلا عَمَلٍ، والعاطِلُ -وكذا العَطْلاءُ- صِفَةٌ لِلَّتي خَـلا جـيدُها مِنَ القلائِدِ ولم تَلْبَسِ الزّينةَ، والجمعُ عَواطِلُ وعُطَّلٌ
[2] ، وإِنّما دلُّوا عَلى المُتَرَدِّدِ
[ ص: 94 ] بِلا عَمَلٍ بِـ «الباهِلِ». فَالباهِلُ الْمُتَرَدِّدُ بِلا عَمَلٍ، وهُوَ الرّاعي بِلا عَصا، وامْرَاَةٌ باهِلَةٌ لا زَوْجَ لَها، والباهِلُ الذي لا سِلاحَ مَعَهُ
[3] .
فَيَنْبَغي لَنا أنْ نَسْتَرْجِعَ الْحالَةَ اللُّغَوِيَّةَ الْفُصْحى إِلى الْحَياةِ الْعَصْرِيَّةِ؛ لأَنَّ اللُّغَةَ مُلازِمَةٌ للأُمَّةِ تُرافِقُها في جَميعِ خُطُواتِها الدّلالِيَّةِ. أَمّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَضْحَتْ حَياتُنا الْيَوْمِيَّةُ ذاتَ أَلْوانٍ مُخْتَلِفَةٍ، ولَمْ تُسْتَنْبَتْ هـذِهِ الْحَضارَةُ التي تَغَلَّبَتْ عَلَيْنا قِيَمُها، في بيئَتِها فَتَخْرُجَ بِطابَعِها الْعَرَبِيِّ، ولكِنَّها انْحَدَرَتْ بِزَيٍّ غَريبٍ وأَسْماءٍ غَريبَةٍ ذاتِ عُجْمَةٍ في طابَعِها، فَاتَّصَلْنا بِهذِه الْحَضارَةِ الأَجْنَبِيَّةِ، ولُغَتُنا مُخْتَلِفَةٌ عَمّا كانَتْ عَلَيْهِ مُثْقَلَةٌ بِشَوائِبَ مِنَ اللُّغاتِ واللَّهَجاتِ.
ويَنْبَغي لَنا أَيْضًا، والْحالُ هـذِهِ، أَنْ نَعودَ إلى اللُّغَةِ الْفُصْحى فَنَنْشُرها وَنَبْحَث فيها عَمّا نَحْنُ في حاجَةٍ إِلَيْهِ مِنْ أَلْفاظٍ، نَفُكُّ بِها الطَّوْقَ عَنِ الدّلالَةِ، وَنَنْعَتِق مِنَ الاسْتِلابِ اللُّغَوِيِّ، بِما تَمْتَلِئُ بِهِ الْمَعاجِمُ مِنْ أَلْفاظٍ.
وَ قوام هـذا الاقتراح أن نتّخذَ مِنْ بَعْضِ الْمَعاجِمِ وكُتُبِ اللُّغَةِ كَلِسانِ العربِ لابْنِ منظورٍ
[4] ، ومُعجم الصِّحاح للجوهرِيّ، والمُعْجَمِ في بقيّةِ الأشياءِ لأبي هـلالٍ العسكريّ، والمُزْهِر في علومِ اللّغةِ وأنواعِها لجلالِ الدّين السّيوطي، والمُخَصَّص لابْنِ سِيدَه
[5] ، وكِتاب النّوادِرِ لأبي زيدٍ الأنصاريّ، وكُتب الفُروقِ في اللُّغةِ، وكُتُب الإبدالِ، وما اتّفَقَ لفظـُه واخْتَلَفَ معْناه،
[ ص: 95 ] وما اتّفقَ مَعْناه أو تَقارَبَ، واخْتَلَفَ لَفْظُه، والرّسائلِ اللّغويّةِ التي اتُّخِذت نَواةً لتأليفِ المعاجمِ المتخصِّصَةِ، منها ما أُلِّفَ في اللّبنِ، والمطرِ، والسّيْفِ، وأسْماءِ الوُحوشِ والإِبِلِ والخيْلِ والشّاءِ، والنّباتِ والنّخْلِ والكرْمِ والزّرْعِ وخَلْقِ الإنْسانِ... وأصْحابُ هـذِهِ الرّسائِلِ تَشابَهَتْ جُهودُهُم، ومَهَّدوا السّبيلَ لنشْأةِ المعجمِ العربيّ
[6] المُتَخَصِّصِ. وأشهرُ من ألّفَ فيها من اللّغويّينَ
النّضـرُ ابْنُ شميلٍ (ت.203) ،
وقُطرُبُ بنُ المُسْتَنيرِ (ت.206) ،
وأبو عُبَيْدَةَ معْمرُ ابنُ المثَنّى (ت.210) ،
وأبو زيدٍ الأنصاريّ (ت.214) ،
وأبو سعيدٍ الأصْمَعيّ (ت.214) ... ولا ننسى ما ألّفَ من قبلُ، في مضْمارِ المعاجمِ المتخصّصةِ من كُتبٍ يونانيّةٍ نُقلتْ إلى اللّغـةِ العربيّةِ، كالمقـالاتِ الخَمْسِ، أو كِتابِ الحَشائشِ، للعالِمِ اليونانيّ
«ديوسقريديس العين زَرْبي» (من ق.1م) ، وهو مِن نقلِ
«اصْطفن بن بسيل» (من ق.3م) ،
وإصْلاحِ حُنَيْن بْنِ إسْحاقَ (ت.260) ، وكِتابِ الأدويَةِ المُفْرَدَة للعالِمِ اليونانِيّ
«جالينوس» البرْغاميّ (ت.199م) ، وهو من نقْلِ حُنَيْن بْنِ إسْحاقَ في إحْدى عَشْرَةَ مَقالَةً. والكِتابانِ طبّيّانِ صيدلِيّانِ موضوعُهُما الأدويةُ المفردَةُ، أي مُفْرَداتُ المواليدِ الثّلاثةِ : النّبات والحيوان والمعادِن، ومثلُ هـذا الضّربِ من التّآليفِ العلميّةِ القديمةِ المتخصِّصَةِ كثيرٌ... وممّا ألِّفَ في المعاجِمِ المتخصّصةِ ( في القرنِ التّاسعِ عَشَرَ ) المُعْجَمُ المُفَصَّلُ في أسْماءِ الملابسِ عندَ العربِ، للمستشرِقِ
«دوزي» (ت.1883م)
[7] ...
[ ص: 96 ]
قلت : يمكن أن تُتّخذَ هـذه الكتبُ وأمثالُها مَصادِرَ مُعْتَمَدَةً، تُسْتَخْرجُ مِنْها الْمُفْرَدات الْعَرَبِيَّة الْفَصيحَةُ، وتُرتَّب على نحوٍ مخصوصٍ من التّرتيبِ والتّأْليفِ، حتّى يَتَمَكَّنَ من اسْتِعْمالِها المُسْتعمِلُ، للدّلالَةِ عَلى مَدْلولاتٍ مُتَداوَلَةٍ بَيْنَنا الْيَوْمَ. وسَيَقودُ هـذا الْمِعْيارُ إِلى الاسْتِغْناءِ عَنْ كَلِماتٍ مُتَداوَلَةٍ الْيَوْمَ، لا يضبِطُها ضابطٌ من قياسٍ أو سَماع، واتِّخاذِ أُخْرى مِنَ الْمُعْجَمِ الفصيحِ بَدَلا مِنْها لاجْتِماعِهِما في الدّلالَةِ عَلى الشَّيْءِ الْواحِدِ، هـذا مع الحرْصِ على تـهذيبِ كلِّ مبحثٍ وتـخليصِه ممّا لا يحْتاجُ إليه المتكلِّمُ، وممّا لا يدورُ في دائرَةِ تَداوُلِه العلميّ.
و لا شَكَّ أَنَّ هـذا الْمَنْهَجَ سَيُخْرِجُ إِلى التَّداوُلِ أَلْفاظًا أَصْبَحَتِ الْيَوْمَ نِسْيًا مَنْسِيًّا أَوْ كادَتْ، وباتَتْ «مُعَطَّـلَـةً»، وباتَ الْكُـتّابُ والْباحِـثونَ لا يَجِدونَ بَيْنَ أَيْديهِمْ، عِنْدَ إِرادَةِ التَّعْبيرِ عَنْ مَعنى مِنَ الْمَعاني إِلاّ كَلِماتٍ عامَّةَ الدَّلالَةِ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ في أَكْثَرَ مِنْ مَوْطِنٍ، وهذا يُفْضي إِلى الاسْتِغْناءِ عَنْ أَكْثَرِ مُفْرَداتِ اللُّغَةِ وإِحْلالِ الأَلْفاظِ الْعامَّةِ مَحَلَّها، وفي ذلِكَ إِكْراهٌ لِقِلَّةٍ مِنَ الأَلْفاظِ عَلى التَّعْبيرِ عَنِ الْكَثْرَةِ الْكاثِرَةِ مِنَ الْمَعاني، ويَعْقبُ هـذِهِ الْحالَ نَعْتٌ لِلُّغَةِ بِالْقُصورِ عَنْ مُواكَبَةِ الْعَصْرِ ومُجاراةِ الْحَضارَةِ.
بَيْنَما الْعَرَبِيَّةُ لِسـانٌ قَدْ فُتِقَ بِضُروبٍ مِنَ الأَلْفاظِ، جُعِلَتْ رُسـومًا لِما يُتَصَوَّرُ في الْعُقولِ ويَهْجسُ في النُّفوسِ، وتَسْمِيَةً للأَشْياءِ لِتُحْتازَ بِأَسْمائِها، ويَنْمازَ بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ بِحُروفِها وأَصْواتِها؛ فَقَدْ جَمَعَتِ الْعَرَبِيَّةُ بَيْنَ أَلْفاظٍ تَدُلُّ عَلى الشَّيْئَيْنِ الْمُخَتَلِفَيْنِ، كَالْبَشَرِ الذي يَقَعُ عَلى الْعَدَدِ الْقَليلِ والْكَثيرِ، والْجَلَلِ الذي يقَعُ عَلى الْعَظيمِ والصَّغيرِ، وأَلْفاظ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَضادَّيْنِ كَالنَّهَلِ الْواقِعِ عَلى الْعَطَشِ والرِّيِّ، وأَلْفاظٍ تَدُلُّ عَلى الأَشْياءِ الْمُخْتَلِفَةِ
[ ص: 97 ] كَالْجَوْنِ الْواقِعِ عَلى السَّوادِ وَالْبَياضِ والْحُمْرَةِ، وكَالسُّدْفَةِ الْواقِعَةِ عَلى النّورِ وَالظُّلْمَةِ وما بَيْنَهُما مِنَ الاخْتِلاطِ، والأَسْماء الْمُتَرادِفَةِ، كَقَوْلِنا في الْحِجارَةِ حَجَرٌ وَصَفاةٌ ونَقَلَةٌ
[8] ، وَالأَسْماء الْمُشْتَركَة التي تَقَعُ عَلى عِدَّةِ أَنْواعٍ كَالْعَيْنِ لِحاسَّةِ الْبَصَرِ، وَلِنَفْسِ الشَّيْءِ، وللِرَّبيئَةِ، ولِجَوْهَرِ الذَّهَبِ، ولِيَنْبوعِ الْماءِ، ولِلْمَطَرِ الدّائِمِ، ولِحُرِّ الْمَتاعِ، ولِحَقيقَةِ الْقِبْلَةِ.
فَهذِهِ الْمَواضـيعُ وأَمْثالُها، يُمْكِنُ اتِّخاذُها مَباحِثَ، يُجْمَعُ بِوَساطَتِها ما تَنَشَّرَ مِنْ أَجْزاءِ اللُّغَةِ شَعاعًا، وتَشَعَّبَ وتَفَرَّقَ، فَاحْتاجَ هـذا النَّشَرُ إِلى الْتِئامٍ والنَّثَرُ إِلى انْتِظامٍ.
هذا، وإنّ ألْفاظَ اللّغةِ أكثرُ من أن تُحْصى في أبوابِها ومواضِعِها من المُعجمِ ممّا قُيِّدَ في رسائلَ لغويّةٍ مختلفةٍ، تدورُ حولَ مواضيعَ معيَّنةٍ جامعةٍ، كالآباءِ، والأمّهاتِ، والأبناءِ، والأصواتِ، والأزمنةِ، والحَشراتِ، والطّيرِ، والسِّلاحِ، والإبلِ، والخيلِ، والغرائزِ، والجرائمِ، وغيرِها... فلسانُ العربِ أوسعُ الألسنةِ مَذهَبًا وأكثرُها ألفاظًا ولا يكادُ يُحيطُ بجميعِ علمِ هـذا اللّسانِ إنْسانٌ غير نبيٍّ
[9] ، وكُلُّنا لمْ يُؤْتَ في إدراكِ الأمورِ كَبيرَ قوّةٍ ولا جَسيمَ مِنَّةٍ، وكلٌّ منّا يضْطَرِبُ بينَ الخطأ والصّوابِ، والإِخْطاءُ أكثرُ من الإِصابةِ، والظّنُّ أغلبُ من اليقينِ.
[ ص: 98 ]