انطلاقا من أن «الشريعة المباركة عربية، لا مدخل فيها للألسن العجمـية» [1] وأن «القرآن نزل بلسـان العرب على الجمـلة» [2] ، وأن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب [3] ، وبيانا للمكانة التي تحتلها النصوص الشرعية، وتأكيدا منه اعتبارها مصدرا للعقـل وسلطة عليه؛ أخذ الشاطبي، رحمه الله، يبين آراءه اللغوية التي يمكن أن تزيد في تأصيل مبادئ فهم النص، وإيضاح معانيه، والوقوف على دلالاته ومقاصده. وأول وسيلة لذلك هـي معرفة اللسان الذي نزل به ذلك النص. ومادام القرآن عربيا فإنه يسلك في فهمه، والاستنباط منه، مسلك معهود العرب في تقرير معانيها، ومنازعها في أنواع مخاطباتها.. ويتحدد معهود العرب عند الشاطبي بفهم العرب حال نزول القرآن «باعتبارهم كانوا الأقرب إلى مناهل اللغة، والأدرى بقرائن الأحوال» [4] . وإن أي تجاوز لذلك المعهود، والاكتفاء بتأويل اللفظ، والفهم منه على حسب الهوى، فإنه تخرص مؤداه إلى سوء التأويل، وفساده [5] . [ ص: 47 ] ومحاولة لاستيعاب تلك الآراء، والتصورات اللغوية الشاطبية، وتسهيلا لإدراكها، وتيسيرا لصياغتها في جملة أسس ومبادئ؛ فإنه يمكن لـم شتاتها، وضم أجزائها في جملة مباحث لغوية هـي:
1- أنواع المعنى
يكاد يكون أهم موضوع لغوي شغل فكر الشاطبي هـو الحديث عن المعنى، بل إن جل آرائه اللغوية تدور حـول هـذا الموضـوع، وما ذلك إلا تأسيسا منه لأدلة أصول الفقه على أسس ثابتة، و «محاولة تفويت الفرصة على كل من يريد تأويل النص "أيديولوجيا" ليشهد لصالح اختياراته» [6] ، وذلك لا يكون إلا بمحاولة ضبط دلالة النص، ومقاصده التي قد توقفنا على مقاصد الشرع [7] . ومن ثم يرى أن دلالة الألفاظ على معانيها في اللغة العربية لها وجهان [8] :
الأول: من جهة كون الألفاظ والعبارات مطلقة تدل على معان مطلقة، وتسمى (دلالة أصلية) . وعلى مستوى هـذه الجهة دون الجهة الثانية، يمكن الترجمة من لغة إلى أخرى [9] .
الثاني: من جهة كون الألفاظ والعبارات مقيدة تدل على معان خادمة للأصلية، وتسمى (دلالة تابعة) ./14 ولغات الأمم تلتقي في الجهة [ ص: 48 ] الأولى دون الثانية؛ لاشتراك المعاني بينهما على هـذا الوجه دون الثانية. وبالعكس فإن اللغات تتخصص، وتتحدد مظاهرها وأساليبها على مستوى الدلالة في الوجـه الثاني، وما تتميز به كل لغة عن الأخرى في مجـال استخدام أساليبها، وصيغها، وطرقها في الدلالة [10] .
ثم قسم الشاطبي، رحمه الله، الألفاظ من حيث دلالتها على العموم والخصوص، وحسبما تدل عليه في أصل الوضع إلى (ينظر الشكل1) [11] :
1- ما تدل عليه الصيغة ( اللفظ أو العبارة ) في أصل وضعها على الإطلاق، وهو (الاعتبار القياسي) .
2- بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وهو (الاعتبار الاستعمالي) . وهذا ينقسم أيضا، بحسب بقاء الدلالة على أصل الوضع، أو عدم بقائها، إلى:
أ- الحقيقة اللغوية: وذلك حين بقاء الدلالة على أصـل الوضع. وهي لا تغني وحدها في الوقوف على مقاصد الشرع، بل لا بد أن يضاف إليها المعرفة بالدلالة الشرعية الطارئة على معهود العرب؛ حينئذ يمكن الوقوف على [ ص: 49 ] مقاصد الشرع [12] . مثال ذلك: كلمة «الصلاة» التي تعني في أصل الوضع الدعاء، أو التعظيم، ثم قيدت دلالتها في الشرع بالعبادة المخصوصة [13] .
ب- الحقيقة العرفية في حالة عدم بقاء الدلالة على أصل وضعها، واكتسابها دلالة حقيقية أخرى يحددها الوضع الاستعمالي أيضا. ومثالها: كلمة «الظلم» التي اكتسبت بالإضافة إلى دلالتها الحقيقية الوضعية دلالة حقيقية وضعية جديدة وهي «الشرك»، ودلالتها الحقيقية الأولى تعني: وضع الشيء في غير موضعه، أو الميل عن القصد [14] .. أو لفظ « الدابة» فالوضع فيها أنها اسم لما دب من الحيوان، أو كل ماش على الأرض، ولكن العرف خصصها على ما يركب من الدواب [15] ، أو ذوات الأربع [16] .
ج- الحقيقة الشرعية: وهي الدلالة في الاستعمال الشرعي. ومثالها ألفاظ « الصلاة، الحج، الصيام... » التي اكتسبت معاني شرعية، خصصتها عن معانيها الوضعية.
وفي حالة تعارض المعنيين اللغوي والعرفي، فإنه يرى تحكيم المعنى العرفي (الدلالة العرفية) على المعنى اللغوي (الدلالة اللغوية) [17] ؛ أي حين [ ص: 50 ] تعارض المعنى الوضعي (القياسي) مع المعنى الاستعمالي، فالحكم للمعنى الاستعمالي، لأنه هـو المعول عليه، وهو الذي يوضح المقصد «فالقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي في أصل الاستعمالين: العرفي والشرعي، كان الحكم للاستعمالي» [18] .
[ ص: 51 ] وقد كان حديث الشاطبي ، رحمه الله، وتركيزه على العموم والخصوص، دون أن يبين صيغ كل منهما، تقديرا منه أن تلك الصـيغ إنما تلتمس في مظانها من كتب اللغة العربية. وإنما كان الحديث عن العموم ذاته، ومن ناحية الوضع، لأن «غالب الأدلة الشرعية عمدتها العمومات» [19] ، ولأن البحث فيها ينبني عليه استنباط الأحكام من أدلتها، وكذلك للإشارة إلى عدم الجمود على مجرد اللفظ (أو الصيغة) ، مع لزوم مراعاة المقصود منه، والمراد الذي يحدده مقتضى الحال [20] .
وقد انطلق الشاطبي، رحمه الله، من أن عناية العرب إنما كانت بالمعاني المبثوثة في الخطاب، وأن المعاني نوعان: إفرادية تقوم على اللفظة مجردة عن سياقها وتركيبها، وتركيبية تقوم على ضم المعاني الإفرادية، والعبارات إلى بعضها تأدية للمعاني والمقاصد، وأن ما يعبأ به هـو المعنى التركيـبي دون الإفرادي، ولا يؤبه بالإفرادي إلا في حدود ما يوضح المعنى الكلي (المعنى التركيبي) [21] . فكان هـذا تأكيدا منه لكون الدلالة (القصد) متحكمة في الصيغ والأساليب اللغوية؛ وكون الألفاظ والصيغ خادمة للمعاني، وهي مقصود العرب في لغتها [22] . [ ص: 52 ] فإدراكنا لطبيعة ورود تلك الصيغ والتراكيب وتكوينها فيه إدراك للمعنى والمقصد [23] ، و «لا تكلف في الألفاظ والمعاني، إذ إن الناس في الفهم وتأتـي التكليف ليسوا على وزان واحد ولا متقارب» [24] وأي تجاوز لمعهود العرب في خطابها، وفي طرق استعمال كلامها، مراعاة اللفظ دون اعتبار للمقصود منه (دلالته) مدعاة إلى سوء التأويل [25] .
وقد أورد الشاطبي، رحمه الله، من اصطلاحات الدلالة ما يبين أنه كان يتمثل تصورا خاصا بأهمية المعنى، الذي له أثره في الوقوف على المقاصد. ومن هـذه الاصطلاحات: الترادف، ويعني ظاهرة دلالة الألفاظ المفردة على شيء واحد باعتبار واحد [26] ، والاشتراك اللفظي، وهو كون اللفظ الواحد دالا على معنيين مختلفين فأكثر، دلالة متساوية عند أهل اللغة [27] . والعموم والخصوص، والإشارة دون التصريح وهي في سنن العرب «أن تشير إلى المعنى إشارة، وتومئ إيماء دون التصريح» [28] ، [ ص: 53 ] و «تتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هـذا معروف عندها، لا ترتاب في شيء منه هـي، ولا من تعلق بعلم كلامها» [29] .
2- محددات المعنى
بعد تحديده لأنواع دلالات الألفاظ والعبارات وأوضاعها، وما قد يكون مقصود العرب، وغير مقصودها، بين جملة أمور تسهم في تحديد المعنى، والوقوف على المقصد، ويكون في عدم مراعاتها جهالة وضلالة، وخروج عن المقصد إلى التخرص والادعاء. وهذه الأمور هـي:
أ- مراعاة النظرة الكلية
، التي تربط بين أجزاء النص، وما يحيط به من قرائن. ومن القرائن التي تحدد النظرة الكلية عنده: مقتضيات الأحوال، التي هـي ملاك البيان [30] . وتقوم مقتضيات الأحوال هـنا، على سياق الخطاب، وما يحيط به من أسباب النـزول التي تقوم مقام مقتضيات الأحوال، فتزيل ما استشكل من كلام الله (النص) . ومن شأن الجهل بأسباب التنـزيل، أو الغفلة عنها الوقوع في التيه والإشكالات، والخروج عن مقصود الآيات، ومورد الاختلاف، والخصومات. لهذا تكون معرفة [ ص: 54 ] أسباب النـزول مما يزيل مشكل الخطاب [31] ، والحال أن «من شأن أسباب النـزول التعريف بمعاني المنـزل» [32] .
ب- الاصطلاح وضبط المعاني
نجد للشاطبي، رحمه الله، محاولات في تحديد الاصطلاحات، وبيان أبعادها؛ وما ذلك إلا تقديرا منه لأهميتها، ودورها في أداء المعنى. وإن «الزيغ في ذلك تيه وضلال؛ لأن تسمية الأشياء بغير مسمياتها تحريف للمعنى الحاصل في ذهن السامع» [33] . ومن هـذه الاصطلاحات:
- حدود العلم: حيث يقـول: «فالتجاوز في حـدود العـلم المعـلوم المؤدي للغرض المطـلوب يخـرج العـلم من الإفـادة إلى الملح والترف» [34] .
- نفس القول: ظاهره، ومعناه: باطنه، وعلة الحكم : مقصده. حيث يقول: «وبعث الله من هـؤلاء (صحابة رسول الله رضي الله عنهم ) سادة فهموا عن الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب، والسنة، تارة من نفس القول، وتارة من [ ص: 55 ] معناه، وتارة من علة الحـكم، حتى نزلوا الوقـائع التي لم تذكر عـلى ما ذكروا، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك» [35] .
- العلم الحاكم : /14 وهو العلم الشرعي، وذلك لكون الشريعة المنـزلة حجة حاكمة على الخلق، ويشمل الوسائل ، والمقاصد [36] .
وقد أورد من الاصطـلاحات ما يؤسس به نظريته في الـدلالة، وما يزيد من فكره الأصولي وضوحا وجلاء. وكأني به يوضح اللغة (الدلالة خصوصا) ، ومن خلالها توضح المقاصد [37] . وهنا أتفق مع ما أشار إليه خالد محمد مسعود، من أن الشاطبي كان يسعى إلى تأصيل نظرية في اللغة تقوم على الدلالة، وهي غاية اهتمامه، ومبتغاه [38] .
ومن آرائه التي تزيدنا وقوفا على فكره اللغوي؛ نظرته للغة على أنها عرفية، وضعية، اصطلاحية، مكتسبة، انطلاقا من أن ابن اللغة قد يجهل بعضها، ويحتاج إلى اكتسابها [39] . [ ص: 56 ]