مقدمة
من شأن محاولة إدخال الدين إلى ميدان الإدارة أو ميادين الحياة بشكل عام أن يثير أسئلة وتعلقات تتسم بالعصبية في بعض الأحيان (هل هـناك إدارة إسلامية؟) ، (ما علاقة الإدارة بالدين؟) ، (لم إقحام الدين بالإدارة؟) ، (لا علاقة للإدارة كحقل معرفي أو ممارسة بدين أو ثقافة أو زمان أو مكان) ، وعدد آخر من التعليقات والأسئلة التي تكشف عن الجهل وقد تنم أحيانا عن شيء من التعالي (العلمي) . هـذا عدا عن وجود كثير من الناس ممن يفضلون المحافظة على خيط دقيق بين الدين كشأن خاص وبين التعبير العام عنه.
ولا يقتصر مثل هـذا الموقف على العلمانيين أو غير المسلمين بل هـناك مسلمون ملتزمون بشعائر الدين يتخذون الموقف ذاته نظرا لقلة اطلاعهم على المعرفة الإسلامية من جهة ولكون قاعدتهم المعرفية مستقاة من المعرفة السائدة التي تلقوها في الجامعات ومعاهد العلم والتدريب في الخارج وحتى في البلدان الإسلامية (وهي معرفة غربية الطابع) ، من جهة أخرى. وفي معظم الحالات تختزل الإدارة عند هـؤلاء في الجوانب التقنية من تنظيم وتنسيق وتخطيط واتصال ومعالجة الصراع واتخاذ القرار وما إلى ذلك من موضوعات تحتل الحيز الأوسع في كتب الإدارة وبالذات كتب الإدارة [ ص: 25 ] العربية، بينما يتم إهمال الجوانب الأخرى وخاصة الأسس الاعتقادية والنماذج الفكرية والمؤثرات الثقافية في الإدارة وما إلى ذلك.
إن نظرة سريعة إلى وصف مساقات الإدارة التربوية وخطط تلك المساقات في الجامعات العربية وإلى أدبيات الإدارة التربوية العربية بشكل عام من شأنها أن تؤكد هـذا التركيز على الجوانب التقنية للإدارة دون سواها. وتؤكد ذلك دراساتان تحليليتان قام بهما المؤلف لأدبيات الإدارة التربوية العربية والإشراف التربوي (عطاري 2004، وجبران وعطاري 2006) ، وكذلك دراسة (Ali and Camp,1995) فقد أشارت الدراسات الثلاث إلى أن أدبيات الإدارة والإدارة التربوية العربية تقتصر على الجوانب التقنية ولا تظهر وعيا بعلاقة الإدارة بالثقافة وبالأسس والنماذج الفكرية.
لا يوجد وعي لدى الباحثين العرب بأن الجانب التقني للإدارة التربوية هـو مجرد جانب واحد من الإدارة من جهة، وأن نظريات الإدارة من جهة أخرى تعكس منظورات ونماذج فكرية مختلفة وإلا لما كان هـناك نظريات متعددة تملأ صفحات الكتب والمجلات المتخصصة ولما وصلت درجة الاختلاف بين تلك النظريات والباحثين حد الاصطفاف الذي أطلق عليه بعضهم وصف (مواجهة) فيما أطلق عليه آخرون (Evers and laKomsKi, 1991) وصف: (حرب النظريات) . والسبب في هـذه المواجهة أو الاقتتال الفكري هـو الاختلاف الاستقطابي بين الباحثين حول قضايا فكرية وفلسفية مثل النظرة إلى الإنسان والكون والحياة، التي [ ص: 26 ] تؤثر في المعرفة والممارسة الإدارية مما سنتعرض إليه لاحقا. وكما يقول (ParK, 2001) فإن جميع التطورات الرئيسية في الإدارة التربوية منذ مطلع القرن الماضي تعود إلى منطلقات فلسفية.
وربما كان غياب النموذج الإسلامي من حياة المسلمين بشكل عام أحد العوامل التي تثير مثل تلك الأسئلة والتعليقات. لذلك فإن محاولة بلورة منظور إسلامي للإدارة التربوية يجب أن يبدأ بترسيخ القناعة به. ولا نقصد بالقناعة مبررات مصطنعة ولا خطابا مشحونا بالعواطف بل بيانا مستندا إلى دراسات علمية وتحليل متأن ومقاربة للنصوص واشتباك فكري معها. ويبدأ ذلك باستعراض نقدي لأدب الإدارة التربوية السائد الذي يشكل المحتوى الفكري للمساقات التي يتلقاها طلبة الإدارة التربوية في معظم جامعات الأرض ويتدرب بهدي منها ممارسو الإدارة من مديرين وإداريين ومشرفين. ثم ننتقل منها إلى عرض للمنظور الإسلامي للإدارة التربوية كبديل للنماذج السائدة.
ومن شأن هـذا الطرح للمنظور الإسلامي للإدارة التربوية أن يثري الفكر التربوي، فقد أصبح البحث عن منظورات جديدة للإدارة التربوية وعدم الاقتناع بكفاية المنظورات السائدة أمرا مقرا في الأدبيات السائدة. وعلى أية حال، فتاريخ العلم هـو إلى حد بعيد تاريخ نظريات سادت فترة ثم تم دحضها أو تعديلها بسبب تحدي نظريات منافسة لها، وهذا يعني أن طرح [ ص: 27 ] منظورات جديدة من شأنه المساهمة في تطوير قاعدة معرفية يعتد بها في الإدارة التربوية.
والمؤلف لا يخفي انتماءه للمنظور الإسلامي للإدارة التربوية، هـذا الانتماء الذي يتطلب فيما يتطلب أن يقوم الخبراء في حقولهم الفكرية الرئيسة والفرعية بإعادة توجيه حقولهم توجيها إسلاميا، وهو ما يتضمن عمليات من التنقيح والتصحيح (تنقيح حقولهم من العناصر غير الإسلامية، وتصحيح عناصر أخرى لتتفق مع التصور الإسلامي) والاستيعاب (استيعاب المفاهيم الإسلامية التي استبعدت منذ زمن) .
وقد أسمينا هـذا الكتاب (مقدمات) باعتباره يشكل البنية التحتية لمشروع فكري للتأصيل الإسلامي للإدارة التربوية، على أن تتبعه محاولات أخرى بإذن الله، وقد جاء الكتاب ثمرة اهتمام أكاديمي لدى المؤلف بالموضوع وتدريس له في ثلاث جامعات منذ 14 عاما، نشر خلالها دراستين حول الموضوع في (المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية) وقدم ورقتي عمل في مؤتمرين في ماليزيا وإيران. ورأى أنه آن الأوان لوضع ذلك كله بين دفتي كتاب يكون مرجعا للمهتمين والممارسين وطلاب الدراسات العليا بشكل خاص. [ ص: 28 ]