متطلبات ومحاذير المنظور الإسلامي للإدارة التربوية

إذا كان المنظور الإسلامي يعدنا بالكثير فإن وضعه موضع التطبيق يتطلب الكثير. وبشأن ذلك نضع مجموعة من الملاحظات:

- المنظور الإسلامي، حسب اجتهادنا هـو إطار مرجعي. إنه ليس نظرية ولا نموذجا ولكن يمكن أن يتطور في ضوئه العديد من النظريات والنماذج. ^[1] وينبع تفرد هـذا المنظور من مرتكزاته الفكرية. فهو قبل كل شيء رباني المصدر، وهذه الخاصية هـي أساس جميع الخصائص الأخرى لهذا المنظور مثل الشمول والتوازن والتماسك والخصوبة والبساطة. وقد تتجسد هـذه الخصائص في الإدارة بطرق مختلفة. فعلى سبيل المثال يجب أن توضع في الاعتبار جميع المتغيرات والعوامل التي تؤثر في المنظمة بما فيها العوامل الخارجية. والاعتراف بدور العوامل الخارجية للتنظيم يربط المنظمة بالمنظمة الأم والمجتمع والأمة الإنسانية وبالنظام الكوني ككل وبالخالق. وهذه إحدى تجليات الوحدانية وتجاوز الزمان والمكان (التجاوزية Transcendentalism كما يسميها بعض المفكرين الغربيين المعاصرين) . هـكذا تصبح الإدارة نظاما فرعيا من النظام الكبير. وهذا يهيئ المسرح لكثير من الانعكاسات البيئية. [ ص: 129 ] - يتيح المنظور الإسلامي مساحة للمرونة. إنه يساعد الإداريين على توليد تطبيقات للظروف القائمة والمستجدة كما فعلنا بشأن بعض القضايا الإدارية. وبخصوص ذلك لدينا بعض الملاحظات:

- التطبيقات ليست بحال من الأحوال جامدة أو نهائية. نقطة الانطلاق لدى المؤلف هـي أنه متى تمت بلورة وتشرب المنظور الإسلامي فإنه يمكن التوصل إلى تطبيقات لا حصر لها. ويرى الكاتب أن توليد التطبيقات هـو نوع من العمل الاجتهادي الذي يجب أن يقوم به الباحثون والعلماء والممارسون الذين لديهم خبرة في الميدان ومعرفة معقولة بالدين. والنتائج التي يتم التوصل إليها من جراء هـذا الاجتهاد تخضع للنقد والتعديل.

- وتطبيق المنظور الإسلامي يقتضي ترجمة كل مكون من مكوناته إلى حقائق وسلوك في المواقع التربوية. على سبيل المثال فإن كون المنظور الإسلامي رباني المصدر يقتضي احترام فردية الإنسان والتواضع والاعتدال والعدالة والتحسين والتميز، كما يتطلب من ناحية أخرى رفض الغرور والكبرياء والنشوة والتبذير وتدني الأداء والركون إلى الدعة. وهذه مع الخصائص الأخرى، مثل البساطة والعملية، يجب أن تتجسد في العلاقات الإنسانية، وفي نمط الاتصالات والأثاث والوصول للمسئولين والبرامج المدرسية وإدارة الوقت وإنجازات التلاميذ وعلاقات الجماعة المدرسية بصورة عامة.

وهذه المكونات مترابطة ويجب أخذها جميعا ومعا في الاعتبار. على سبيل المثال كون المنظور الإسلامي رباني المصدر وكون الإنسان فيه نفخة [ ص: 130 ] من روح الله يتطلب التحسين الدائم، الذي قد يأخذ شكل التوقعات العالية لأداء الطلاب والتلاميذ. وفي المقابل فإن الواقعية والعملية وكون الإنسان من تراب يقتضي أن تكون التوقعات معقولة. ويعمل الشمول والتوازن لجعل التوقعات المعقولة مجرد مرحلة لرفع سقف التوقعات باستمرار.

- ليس بالضرورة أن تكون تلك التطبيقات منصوصا عليه في القرآن الكريم أو السنة أو الأدبيات الإسلامية أو الممارسات المتوارثة عن السلف. بل إن استخدامنا تعبير (توليد) يتضمن اقتراح أفكار جديدة وحلول جديدة. يكفي أن تكون التطبيقات مستلهمة من المنظور الإسلامي وعلى انسجام وعدم تعارض معه.

- التعامل مع (الآخر)

يعمل المنظور الإسلامي كإطار مرجعي يساعد في التعامل مع فكر (الآخر) استيعابا وتعديلا ورفضا. إن بالإمكان استيعاب أي فكرة أو ممارسة توجد في الأدب الإداري ما دامت تتفق مع المنظور الإسلامي. ولكن ذلك يجب أن يتم بشكل ناضج عقلاني وأمين. وهذا يتطلب (اشتباكا) فكريا خلاقا مع الأدب الموجود حاليا لا يتوقف عند السطح بل يصل إلى الأعماق فيتفحص الدوافع والارتباطات والأجندات. نتيجة لذلك يتطلب استيعاب (الآخر) عدة عمليات من التنقيح والتصحيح وإعادة توجيه المعرفة.

بهذا الصدد يلاحظ الكاتب ميل كثير من العلماء المسلمين لإثبات أسبقية المسلمين (المرتبطة بالتقليل من شأن (الآخر) والمرتبطة بدورها [ ص: 131 ] بتضخيم الذات) . والوجه الآخر لذلك الميل هـو إثبات التلاقي بين الإدارة الإسلامية وأحدث النظريات الإدارية المعاصرة (وهو نوع من المبالغة اللاواعية بأهمية (الآخر) والتقليل من شأن الذات) وفي هـذا إقرار خاطئ بأن النظريات الأكثر حداثة هـي الأفضل بالضرورة. من ناحية ثانية فهذه المقولة تعني أن الحداثة حالة ثابتة. وبالعكس من ذلك يعتقد الكاتب أن الأكثر حداثة ليس بالضرورة هـو الأفضل، وأن القديم ليس بالضرورة هـو الأقل قيمة. يعتقد الباحث مثلا أن عناصر من نظرية (تايلور) في مطلع القرن الماضي مثل الفعالية وكفاءة التشغيل يمكن استيعابها في الإدارة الإسلامية. وبالمنطق نفسه يمكن استيعاب عناصر من نظرية ( إيفرز ولاكومسكي ) التي ظهرت في تسعينات القرن الماضي مثل دور العوامل غير التنظيمية في الإدارة التعليمية. الوجه الآخر لهذه المقولة هـو أن في النظريتين المشار إليهما عناصر لا تلتقي مع المنظور الإسلامي (مثلا (الطريقة الوحيدة المثلى) عند ( تايلور ) و (العلم كمصدر وحيد للمعرفة) عند (إيفرز ولاكومسكي " .

من ناحية أخرى، على المرء أن يكون على وعي بالارتباطات التي تحملها الأفكار والممارسات السائدة. كثير من الأفكار التي تبدو جذابة على السطح قد تكون لها ارتباطات سلبية وأجندات خفية تناقض المنظور الإسلامي. على سبيل المثال كثير من الأفكار الإدارية الحديثة في الغرب مثل (التمكين) و (الإدارة الذاتية) و (المدرسون القادة) (والقيادة التحويلية) تبدو جذابة ومقبولة من المنظور الإسلامي، ولكن التدقيق في هـذه الأفكار قد [ ص: 132 ] يكشف أن هـذه الأفكار هـي أدوات للعقلنة الاقتصادية للمنظمات هـادفة إلى مدارس أقل كلفة وليس مدارس أفضل، ومدفوعة برغبة لإضعاف التعليم العام وترويج الخصخصة.

وبالنهج نفسه يمكن تطبيق هـذا الخط من التفكير مع أفكار وممارسات أخرى. على سبيل المثال إذا لم يكبح جماح توجهات الكفاءة والفعالية والتوجه نحو المهام والنتائج (في النظريات العلمية) فإنها يمكن أن تحول العاملين إلى امتداد للآلة، بينما يمكن أن تقود التوجهات الإنسانية (في الأساليب الإنسانية) في أشكالها الأكثر تطرقا إلى التسيب والتحايل والممارسات التي تفتقر للأمانة. ولنأخذ مثالا آخر مثل إرضاء الزبون (وهو الأساس في (إدارة الجودة الشاملة) ، التي أصبحت من أكثر نظريات الإدارة رواجا في الوقت الحاضر) . إن مبدأ إرضاء الزبون في قطاع التعليم قد يجر إلى إشكالات كثيرة إذا لم نضع في الاعتبار الفرق بينه وبين الزبون في قطاع العمل. فعندما يعتبر بعضهم أن الزبون في المؤسسة التربوية هـو الطالب فقد يؤدي ذلك إلى التقليل من أهمية المعلم خاصة في المؤسسات التعليمية بالذات التي يقوم كيانها على رسوم الطلبة. من ناحية أخرى قد يؤدي هـذا إلى ممارسات خاطئة مثل ما يعرف بـ (تدريس الامتحان The Teaching test) الذي يعني تدريس الطالب كيف ينجح في الامتحان بدلا من التركيز على الأهداف الأسمى من التعليم وخاصة إكساب الطالب العمليات العقلية العليا. [ ص: 133 ] هناك مبدأ آخر من مبادئ الجودة الشاملة هـو (إنجاز الأعمال بالطريقة الصحيحة من المرة الأولى) . ورغم جاذبية هـذا المبدأ إلا أنه من المنظور الإسلامي يجب تعديله ليصبح (إنجاز الأعمال الصحيحة بالطريقة الصحيحة من المرة الأولى) .

تقدم النظرية الأنثوية النقدية مثالا آخر. فبينما يمكن قبول معظم المقولات الأنثوية في الإدارة من المنظور الإسلامي إلا أنه لا يمكن قبول تصوير هـذه النظرية للعلاقة بين الذكر والأنثى على أنها صراع دائم أو تصوير الذكر على أنه دائما مصدر اضطهاد والأنثى على أنها دائما موضوع الاضطهاد.هذه مجرد أمثلة.

بهذا الصدد نحذر من الشعور بالرهبة الذي يستحوذ على معظم الباحثين المسلمين من الهالة التي تحيط ببعض المصطلحات المعاصرة التي تجعلهم بدلا من التعامل معها تعامل الواثق، رفضا ونقدا وتعديلا، يستخذون أمامها عاكفين بشتى السبل على إثبات التواؤم بينها وبين الإسلام. ومن هـذه المصطلحات (العلم والعلمية) و (العقلانية) و (الحداثة) و (الموضوعية) . وكم هـدرت، ولا أقول بذلت، جهود للتوفيق بين هـذه المصطلحات وبين الإسلام محاولين مخلصين وبكل حسن نية إثبات أن الإسلام دين العلم والعقلانية والحداثة. ولو تفحصنا تلك المحاولات لوجدناها لا تخدم هـدفنا في الدفاع عن الإسلام. وأنا أحبذ تقديم الإسلام كما هـو وليس الدفاع عنه، لأن الدفاع كثيرا ما يخرج بنا عن دائرة الصواب [ ص: 134 ] ويجعلنا ندافع عن قضايا لا تستحق الدفاع عنها بينما نغمض أعيننا عن ما يستحق الالتفات إليه.

إن المصطلحات منتجات فكرية، يحدد محتواها وآليات عملها من توصل إليها. والمصطلحات التي أشرت إليها أعلاه. كما هـي مستخدمة الآن، هـي منتجات فكرية، غربية لها محتواها الذي حدده مفكرو الغرب وفي سياق تطور الفكر الغربي. لقد أريد لـ (العلمية) و (العقلانية) و (الحداثة) أن تكون بديلا عن الدين كمرجعية للحياة البشرية بحيث يحل العلم والعقل، وهما أساس الحداثة، محل الكتاب (المقدس) . وقد بالغ الغرب في ذلك حتى أصبحت تلك المصطلحات محل مراجعة. ومن هـنا حدث تحول من اعتبار العلم والطريقة العلمية الطريقة (الوحيدة) لتوليد المعرفة الصادقة إلى كونها (إحدى) الطرق. وحدث تحول من (العقلانية التقنية) إلى (العقلانية الواعية) ومن ( الحداثة ) إلى (ما بعد الحداثة) ، وحدث تحول من ( الموضوعية ) إلى (الذاتية المتنورة) . يجب ألا يتردد علماؤنا وباحثونا من نقد مثل المصطلحات والافتراضات والنظريات التي بنيت عليها، ولكن من موقع المتمكن من المعرفة المعاصرة والشرعية وليس من موقع من لا يملك إلا الانصياع أو كيل الشتائم.

ما نريد التحذير منه هـو ميل بعض الباحثين المسلمين لاستسهال عملية التأصيل الإسلامي للعلوم، ومن بينها الإدارة والإدارة التربوية، فيعمدون إلى البحث عن آية أو حديث يدعمون بهما أفكارا إدارية حديثة بهدف إثبات [ ص: 135 ] التوافق بين الإسلام والنظريات الإدارية الحديثة أو إثبات السبق الإسلامي لتلك النظريات. ^[2] وقد يكون بعض هـؤلاء مدفوعين بحسن النية أحيانا وبدوافع مصلحية مادية أو معنوية أحيانا أخرى، دون أن يتوافر لديهم في الحالتين التمكن من الفكر الإداري الحديث من جهة والفكر الإسلامي من جهة أخرى، فيقدمون محاولات صبيانية تثير الشفقة وأحيانا التبرم.

باختصار هـناك دائما مستويات من اللقاء والافتراق بين المنظور الإسلامي والنظريات الأخرى، بغض النظر عن حداثة أو قدم تلك النظريات. نريد قدرا من النضج العقلي والرشد النفسي (كما يقول أستاذ علم النفس سيد عثمان) . للتعامل مع الذات و (الآخر) . ويحول هـذا النضج وذاك الرشد دون أن ننسب لتراثنا ما ليس له أو نبخس (الآخر) إنجازه. وبالنضج والرشد تتكون الثقة بالذات التي تجعلنا نقبل ونرفض ونستوعب ونعدل عن بينة وليس عن هـوس. وهذا ما أسميته آنفا (الاشتباك الفكري مع الآخر) . [ ص: 136 ]

- الإسهام

تصل معالجة الإدارة الإسلامية. من المنظور الإسلامي، ذروتها عندما تتخطى استيعاب (الآخر) وإحياء الماضي إلى الإسهام في الحاضر. وهذه هـي المهمة الأكثر تحديا وإلحاحا، وتحتاج إلى جهود مضنية. يقاس المنظور أو النموذج أو النظرية بمقدار الخصوبة، أي بالمقدرة على توليد البحث والأفكار. والإسهام هـو أعلى شكل من أشكال التبادل الحضاري الخلاق.

ولربما كان من أكبر الإسهامات المحتملة للمنظور الإسلامي للإدارة التربوية إيجاد مناخ تنظيمي إسلامي مثل هـذا المناخ يعطي المؤسسة التعليمية هـوية مميزة يشعر بها المرء بمجرد دخوله المكان. في الإدارة الإسلامية وغيرها يتم القيام بالوظائف الإدارية نفسها من اجتماعات وحفظ سجلات وتقييم وتفويض وانضباط وبالعمليات نفسها من اتصال وصنع قرار. ولكن الفرق بين منظمة تدار من المنظور الإسلامي وأخرى من منظور آخر سيكون في الجو المؤسسي. يفترض أن يؤدي المنظور الإسلامي إلى مناخ مؤسسي فذ تشيع فيه القيم الإسلامية السامية. ويمكن قياس ذلك من الطريقة التي يتم فيها توزيع المعلومات، والطريقة التي تتم فيها الاتصالات، والطريقة التي يتم فيها معالجة النزاع، والطريقة التي تدار بها المكاتب، والطريقة التي تصان فيها المباني ونوع العلاقات الإنسانية ودرجة الرضا الوظيفي.

يفترض في المناخ الإسلامي اختفاء كثير من المشكلات، التي يبدو لا علاج لها في المنظمات الحديثة، مثل التحرش الجنسي وتعاطي المخدرات [ ص: 137 ] والكحول والأمراض الجنسية والمشكلات التي تواجه المدارس الغربية مثل حمل الطالبات والاغتصاب والمخدرات والكحول، بينما تكون مشكلات أخرى أقل خطورة مثل التدخين والتوتر عند حدها الأدنى. هـذا المناخ الموجه للفضيلة ليس بحال معوق للإنجاز. بل هـو أكثر المناخات مواءمة للإنجاز. ورغم أن الفضيلة هـي قيمة وغاية بحد ذاتها فإن نتائج البحوث حول الفعالية المدرسية تشير إلى أن المدارس الفعالة تتسم بالتزام فضائل مسئولة عن قدر كبير من النجاحات (Sergiovanni, 1992) .

- العالمية

يجب رؤية مساهمة المنظور الإسلامي في سياق عالمي. فهو يلبي حاجة في غاية الإلحاح على مستوى الإدارة التربوية على مستوى العالم. هـناك عدد لا بأس به من الباحثين والعلماء الذين يبحثون عن بدائل. ليس هـم هـؤلاء الفعالية وكفاءة التشغيل بل الممارسات الأخلاقية. لقد أورد (دويغنان وبهيندي Duignan and Bhindi, 1991) نتائج دراسات بحثية عديدة أجريت على مدار سنوات في ثقافات متعددة طلب فيها من المديرين وغيرهم تحديد أهم خصائص المدير الفعال. وقد تصدرت صفات الأمانة والنزاهة والمصداقية تلك القائمة. وقد وصف القادة الجيدون بالإنصاف والاستقامة والكفاءة والفعالية والإلهام والحسم والقابلية للاعتماد عليهم وبامتلاك حس الاتجاه. وانتهى الباحثان إلى استنتاج: (القادة الموثوق بهم قلة نادرة، شكوكنا ليست حول مواهب القادة بل حول إمكانية الثقة بهم. إننا لسنا واثقين مما إذا كانوا يخدمون مؤسساتهم أم أنفسهم) . [ ص: 138 ] ولكن المشكلة في النماذج الغربية هـي في الاختلاف حول مصدر ونطاق القيم. ففي النماذج العلمية الحديثة للإدارة التربوية (مثل نظرية (إيفرز ولاكومسكي " التي ولدت من النماذج العلمية السابقة، تعد المعرفة العلمية هـي مصدر القيم. أما في النماذج التفسيرية والنقدية فالفلسفة والتأويل هـما مصدر القيم وليس العلم. وهذا ما يجعل الاتجاه التفسيري والنقدي يقع في النسبية القيمية.

ومع أن معظم القيم الإسلامية هـي عالمية فإن ما يميزها هـو ارتباطها الوثيق بالعقيدة الإسلامية والمنظور الإسلامي، الأمر الذي من شأنه توفير الالتزام والاستمرارية والثبات واليقين والتماسك. إنها ليست قيم موقفية أو مؤقتة، ولكن ذلك لا يعني أنها جامدة.

- المنظور الإسلامي وغير المسلمين

هل المنظور الإسلامي خاص بالمسلمين أم يمكن تبنيه وتطبيقه من قبل غير المسلمين؟ يمكن توسيع المقولة السابقة عن العالمية للإجابة عن هـذا السؤال وعن مسألة الخصوصية والعمومية في المنظور الإسلامي.

بحكم طبيعة الإسلام نفسه، كديانة عالمية، فإن المنظور الإسلامي للإدارة التربوية مقدم للإنسانية جمعاء. وبلورة وتطوير المنظور الإسلامي من جانب المسلمين يعد عملا من أعمال الدعوة والشهود الحضاري. ويمكن لغير المسلمين النظر إليه في إطار السعي عن بدائل أفضل للنماذج السائدة حاليا. وهذا يلتقي مع الاتجاهات الغربية التي رابطت في سعيها للبدائل عند [ ص: 139 ] تخوم الدين وبعضها لم يعد يتردد في طرح الدين كبديل، وهو ما يشير صراحة أو ضمنا إلى فشل النماذج العلمانية، أو على الأقل إلى حدودها. كما يلتقي ذلك مع الدعوات لاستطلاع النماذج المحلية غير الغربية.

ولكن هـذا يجب ألا يقلل من الارتباطات السلبية المرتبطة بالإسلام، والقبضة القوية للعلمانية ، وارتباط التحديث بالتغريب، والتوجه المادي للمجتمعات المعاصرة. ولذلك بالرغم من عدم الرضا عن النماذج المعاصرة فإن الأكاديميا الغربية بشكل عام تسعى إلى بدائل من الداخل لا من الخارج، أي من داخل المؤسسة المعرفية العلمانية الغربية وليس من الخارج. وإذا كان لنا الإفادة من التاريخ فإنه ما لم يتمكن المسلمون من إثبات أن المنظور الإسلامي يستطيع أن يؤثر إيجابيا فليس من المحتمل كثيرا أن يبدي غير المسلمين اهتماما به ناهيك عن قبوله. وما نقصده بالآثار الإيجابية هـو قدرة المنظور الإسلامي على إشاعة مناخ مؤسسي إسلامي بخصائصه، التي أشرنا إليها آنفا، وإدارة إسلامية ناجحة تتسم بالفعالية من ناحية وبالتوجه الإسلامي من جهة أخرى، إدارة إسلامية يظهر فيها المديرون المسلمون أنهم (أقوياء وموثوق بهم) ، مثل هـذا الإنجاز يمكن أن يؤثر في غير المسلمين بالإشعاع على الأقل. وقد ينشأ عن ذلك اهتمام بدراسة المنظور الإسلامي وربما تبنيه على فرض إظهار المسلمين الصورة المرغوب فيها، على نحو ما أسلفنا.

وعلى فرض تولد اهتمام لدى غير المسلمين بدراسة المنظور الإسلامي أو تبنيه، فهل يمكن لغير المسلمين وضع المنظور الإسلامي موضع التنفيذ من [ ص: 140 ] قبل غير المسلمين؟ لقد سبقت الإشارة إلى أن تنفيذ المنظور الإسلامي يتطلب تشربه. ولدى تشربه فإنه سيؤثر بدرجات مختلفة على سلوك من يتشربونه حتى دون وعي منهم بذلك. وإذا صنفنا السلوك التنظيمي إلى (وصفي) و (معياري) يمكن القول: إن تشرب الشق الأول وهو الوصفي أسهل من الثاني وهو المعياري. أي أن غير المسلمين سيجدون توظيف المنظور الإسلامي لفهم السلوك التنظيمي أقل عبئا عليهم من الشق المعياري الذي يترك بصماته على الأداء، لأنه يحدد الجانب المثالي أو ما يجب أن يكون، وتحديد الجانب المثالي له صلة بالمنظومة القيمية للشخص. ومع أن القيم الإسلامية عالمية الطابع، إلا أنها مغموسة في العقيدة الإسلامية. وهذا يتطلب من غير المسلمين، بين أشياء أخرى، أن ينفحتوا على المنظور الإسلامي رغم إيمانهم بديانات أخرى. ولكن التطبيق المثالي للمنظور الإسلامي يتطلب ليس فقط الاعتقاد بل الوعي بالدين الإسلامي، الذي تنبثق منه الخصائص الرئيسة للمنظور وهي التماسك والشمول والتوازن والاتساق والبساطة والواقعية والعملية.

باختصار يمكن القول: إن غير المسلمين يمكن أن يتأثروا بدرجات مختلفة وأشكال مختلفة بالمنظور الإسلامي لو أثبت المسلمون أن هـذا المنظور منظور فاعل مؤثر. قد يظهر غير المسلمين اهتماما بدراسة المنظور الإسلامي، وقد يختارون بعض عناصره ومكوناته ويدمجونها في منظوراتهم. ولكن تطبيق المنظور الإسلامي برمته ربما تطلب الاعتقاد بالإسلام كدين ومن شأن هـذا الاعتقاد أن يولد الالتزام والوعي. [ ص: 141 ] وبهذا الصدد يود الكاتب الإشارة إلى تجربته الشخصية عندما كان يدرس مساق (الإدارة التربوية من منظور إسلامي) لطلاب الدراسات العليا في ماليزيا ، وكان من بين هـؤلاء طلاب غير مسلمين (مسيحيون وهنود وصينيون) وكان هـؤلاء يأتون من خلفيات علمانية ومعرفة ضحلة بالإسلام بل ومع بعض التحفظات. ولكنهم كانوا يظهرون بالتدريج فضولا ومزيدا من الاهتمام. بل وكان عدد منهم يعالجون القضايا الإدارية التي تطرح للنقاش من منظور إسلامي وكأنهم تشربوا ذلك المنظور، بالمعنى الفعلي للكلمة. بل إن بعضهم كان يتفوق على أقرانه المسلمين من هـذه الزاوية. ولكن لا أحد يدري ما إذا كان ذلك ينتقل معهم بعد عودته إلى الميدان، وربما يستحق ذلك دراسة مستقلة.

ويود الكاتب هـنا الإشارة إلى بعض التجارب العالمية. لم تدخل الإدارة اليابانية إلى الأدب الإداري إلا في مطلع ثمانينات القرن الماضي بعد انطلاق المارد الصناعي الياباني من رماد الحرب العالمية الثانية . لقد أثار النجاح الياباني فضول الباحثين الغربيين لدراسة الإدارة اليابانية بل والتعلم منها. وكان الاهتمام بدور الثقافة في الإدارة نتيجة من نتائج نجاح الإدارة اليابانية. وفي الخمسينيات أدى نجاح السوفيات في إنزال أول مركبة على القمر عام 1958م، إلى إثارة فضول علماء الولايات المتحدة، وصدر حينها كتاب (What Igor Knows that John does not) (ما الذي يعرفه أيغور ولا يعرفه جوني؟) حتى تجربة الثورة الصينية في منتصف ستينيات القرن [ ص: 142 ] الماضي أثارت فضول المربين الأمريكان، ولكن ذلك الفضول لم يستمر لعدم تمكن الصين من تحقيق نجاح اقتصادي مذهل.

ويمكن أيضا الإشارة إلى الاهتمام الذي يبديه الغرب حاليا والذي أبدته من قبل المؤسسات التقليدية في العالم الإسلامي بالاقتصاد الإسلامي، وبغض النظر عن كل أوجه القصور، التي ترافق التجارب الوليدة فإن الاقتصاد الإسلامي أصبح هـنا ليبقى، فقد تجاوز مرحلة الفكرة إلى المأسسة، وتجاوز مكان الميلاد ليجد الفضول إن لم نقل الترحيب في أماكن يمكن أن يصنفها بعضهم بأنها بيئات غير موائمة. ويمكن أن نطبق الملاحظة ذاتها على الطعام الإسلامي، حيث أصبحت كلمة (طعام حلال) منتشرة في أرجاء الدنيا، بغض النظر عن كل ما يمكن أن يقال بهذا الشأن أيضا من أوجه قصور. خلاصة القول: إنه يجب أن يجد غير المسلمين في المنظور الإسلامي خيرا لهم وللإنسانية، وأنه لا يؤثر في مصالحهم.

- التحذير من إساءة الفهم

وأخيرا يجب بكل أمانة تأكيد أن أي تصور خاطئ أو تنفيذ غير ملائم للمنظور الإسلامي قد يؤدي إلى عكس الغرض. ومن أشكال ذلك التسليط والإفراط في الحماس والشكلية والحرفية والانغلاق الفكري والإفراط في المثالية وفورة العاطفة والميل لشيطنة (الآخر) والاستنتاجات التي لا تدعمها الشواهد ولا المنطلق، وفرض الفهم الشخصي والتفسير الشخصي لنصوص والوحي وكأنها فهوم ملزمة (احتكار الفهم) ، وقد يتم ذلك كله بنيات حسنة [ ص: 143 ] ولكنها تعمل ضد الغرض. ومثل هـذه الأخطاء قد تؤدي إلى اللاعقلانية والإكراه وقيادة الاضطهاد التي تقمع الفكر الفردي والمبادرة الفردية بالقوة والترهيب، وقد تفتح بابا يصعب غلقه للانتهازية والثيوقراطية ، واحتكار الصواب والتدين، وفي مثل هـذا الوضع قد يظهر قادة يكتسبون أهمية لا يستحقونها ويكتسبون من خلال استدرار العواطف تبعية عمياء.

تفيد الملاحظة السابقة أن هـناك احتمالا بأن تبني المنظور الإسلامي في إدارة المؤسسات التربوية قد لا يقدم الكثير أو لا يقدم شيئا ذا بال. وهذا يعود ببساطة لأن المنظور الإسلامي سيطبق من قبل بشر، أيا كان إخلاصهم. معرضون للقصور. المهم أنه في حالة الفشل يجب ألا يتم اللجوء إلى التغطية على ذلك أو اختلاق وقائع وإنجازات مزيفة.

ويتطلب هـذا الاستدراك إعطاء مزيد من الاهتمام للجانب الوصفي للإدارة الإسلامية. لقد تركز اهتمام المسلمين حتى الآن على الجانب المعياري أو ما ينبغي أن يكون وليس على الجانب الوصفي أو ما هـو كائن. وقد عزا (إبراهيم باجنيد، 1996) ذلك إلى استناد المنظور الإسلامي إلى العقيدة ونصوص الوحي ونهج الباحثين في تحليل النصوص والقول المطلق لها، ومع ما في ملاحظة ( باجنيد ) من صحة إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون المنظور الإسلامي معياريا فقط.

ونعتقد أن اقتصاد الباحثين المسلمين على الجانب المعياري ناجم عن قصور في منهجهم، فالقرآن والحديث يتناولان الجانب المعياري [ ص: 144 ] كما الوصفي، أي ما يجب أن يكون وما هـو كائن. وخاصية التوازن والشمول تستدعيان أن يكون المنظور الإسلامي وصفيا ومعياريا على حد سواء. ربما كانت الغاية النهائية معيارية، أي التوصل إلى ما يجب أن يكون ولكن البدء يكون بما هـو كائن. وكما ذكر سابقا فالإنسان المكرم عند ربه موصوف في القرآن بصفات إيجابية وسلبية. الصفات النبيلة هـي ما يجب أن يكون، ولكن الواقع قد لا يكون بذلك النبل، ولذلك فعلى الإنسان أن يقوم بعمليات تحسين مستمرة. وإذا استخدمنا مقولات نظرتي (X and Y) المتضاربتين في النظرة للإنسان، فالأولى تفترض أن الإنسان بطبعه كسول يفتقر إلى الطموح ويكره المسئولية، وأنه يهتم بمصالحه الشخصية، بينما تفترض الثانية العكس، ثم تأتي نظرية (Z) بتوفيق بينهما. من المنظور الإسلامي يمكن للعاملين أن يكونوا كسالى ويهتمون بمصالحهم الذاتية ولكن قابلية التعلم لديهم تتطلب من الإدارة توفير الفرص لهم للتحسين.

تشير الدراسات التي أجريت على المنظمات في العالم الإسلامي أن هـناك الكثير مما يجب عمله فيما يتعلق بتطبيق المنظور الإسلامي في الإدارة. لقد أشارت إحدى الدراسات مثلا (Tayab, 1997) إلى أن المديرين المسلمين يتبنون دورا أبويا تجاه العاملين ودورا اجتماعيا في المجتمع المحلي. وهذا يتمشى مع جذورهم الإسلامية. ولكن الدراسات تشير إلى درجة عالية من الابتعاد بينهم وبين العاملين مما يؤدي إلى مركزية شديدة في اتخاذ القرار مع قلة في التشاور ومشاركة العاملين. وهذا يؤكد أهمية التدريب والتدبر والتحسين والكد نحو الأفضل. [ ص: 145 ]

- وضع المنظور الإسلامي موضع التنفيذ

لا يزال الأدب الإداري الإسلامي حديثا وأحدث منه المؤسسات التي تعمل في هـديه. وقليلة هـي الدراسات الميدانية التي أجريت على مؤسسات في بعض الأقطار الإسلامية إلى أن تلك المدارس فعالة في مواجهة الانحطاط الأخلاقي وغرس القيم الإسلامية ولكن لا بد من عمل الكثير لتحقيق نجاح على صعيد الإنجاز الأكاديمي، لأن تلك المدارس لم تكن مجهزة جيدا (Atari and Lida, 1997) .

لذلك يجب أن ينظر إلى جميع محاولات إسقاط المنظور الإسلامي على الإدارة التربوية على أنها ما زالت في مرحلة التمرين الفكري أو الاجتهاد الذي يجب أن يخضع للمراجعة والتنقيح. ويجب ألا يتم بطريقة دوجماتية، فقد يخطئ المجتهد قراءة مغزى النص أو في إسقاطه على قضية معينة. لا بد من المرونة فالإدارة التربوية تواجه يوميا قضايا مستجدة تتطلب تطبيقات خلاقة. ويجب إسقاط النص على هـذه الحالات بمنتهى التعمق وبعيدا عن أي فهم أو تطبيق حرفي، أو ادعاء التدين أكثر من الآخرين، أو التماهي بين فهم النص والنص نفسه، وما إلى هـناك من أشكال الكسل الفكري التي لا تخدم الغرض.

لا تزال محاولات بلورة منظور إسلامي للإدارة التربوية في بداياتها. هـناك جدب هـائل في الأدبيات. حتى الأدب الإداري بشكل عام لا يزال محدودا. والأدب الإداري الإسلامي في معظمه نقد للفكر السائد وإثبات السبق الإسلامي والأفضلية أكثر منه طرحا متبلورا ناضجا. لذلك ما هـو [ ص: 146 ] مطلوب ليس بذل الجهد فقط بل والتحوط ضد التسرع والتوصل إلى استنتاجات لا دعم لها. وحسب (باجنيد، 1996م) : بينما تحرر الأسلمة العقول من القيود التي فرضها التغريب فإنها قد تخلق في الوقت نفسه قيودا تفرضها الأسلمة المتسرعة غير الناضجة، التي لا تقل خطورة. ويحدث ذلك إذا كانت جهود الأسلمة غير مدفوعة بدافع الوصول للحقيقة، بل كرد فعل على بعض أشكال الهيمنة الفكرية الأجنبية.

المشكلة هـي في كيفية إسقاط النصوص لتلائم المستجدات. يجب ألا يتم الأمر بشكل تعسفي فتلوى أعناق النصوص لتلائم نظرية جديدة أو لتبرر ممارسات تربوية بعينها، أو يؤتى بنظرية جديدة ليوضع عليها ختم إسلامي. قد يقود ذلك إلى نتائج مضحكة أو منافية للعقل.

ولكن في صالح المسلمين أن لديهم تراثا إداريا ثريا، فالاهتمام بالإدارة فكرا وممارسات (السياسة الشرعية) هـو اهتمام لازم للمؤسسة الإسلامية منذ البداية. وقد شكل القرآن الكريم والحديث والسيرة مصدرا للأدب الإسلامي الإداري. وفي عصور الازدهار الإسلامي حكم المسلمون ثلث العالم. وتبعد طيلة فترة حكم المسلمين وصمودهم أمام الضغوط الداخلية والخارجية لعدة قرون شاهدا على تفوق أدائهم الإداري وكفاءة نظامهم. ولكن المسلمين فقدوا صلتهم بتراثهم الإداري، وتبنوا نظاما إداريا غريبا بعد عصور الجمود وعهود الاستعمار إلى درجة يلاحظ معها الباحث وجود انقطاع طويل بين المسلمين، وذلك التراث، مما يجعل إعادة التواصل معه ليس بالأمر الهين. [ ص: 147 ] - على المستوى الأكاديمي، ليس من السهل إعادة الاعتبار للفكر الإداري الإسلامي، فالدوائر الأكاديمية تتردد في قبول التيار الأخلاقي في الإدارة حتى في صورته العلمانية ناهيك عن التيار الديني. التيار السائد يطالب المديرين بالتركيز على العمليات والبنى التنظيمية والأدوار والأشكال غير المباشرة من الاتصال وتجاهل الأفكار والناس والمشاعر والاتصال المباشر. وهذا النهج والتصور أصبح راسخا في الأذهان وممثلا شرعيا للإدارة الجيدة، وهو ينعكس في مناهج معظم الجامعات وفي الأدب السائد، في الإجراءات والقواعد وفي أنظمة التقييم. وهذه الصورة الإدارية هـي امتداد للمعرفة السائدة. فالمعرفة السائدة تعلي من شأن الموضوعية واللاشخصية والبعد عن المشاعر والعواطف وفوضى وعدم استقرار الذاتية.

الاتجاه السائد يتعامل مع الإدارة كمجموعة عمليات تقنية، ويعلي من شأن النتائج على الوسائل، ويقصي القيم، كما يقصي الدين كمصدر للمعرفة.

للجماعة العلمانية، تحفظاتها كذلك. هـناك تاريخ طويل الآن من الانفصال بين الحياة والدين. يطرح العلمانيون أسئلة تتعلق بمدى عملية النماذج الدينية. ترى بعض الدوائر العلمانية أن الجماعات الدينية لا تواجه عادة بمشكلة كفاءة التشغيل وضغوط المساهمين وأنه قد يحدث تضارب أحيانا بين الكفاءة والفعالية وبين العدالة.

مع ذلك يشير تفحص الاتجاهات الإدارية المعاصرة إلى أن الاتجاه الديني والعلماني قد اقتربا من بعضهما، [ ص: 148 ] فالاتجاه العلماني أخذ يستوعب بتردد مفاهيم العناية والرعاية والمشاركة والخدمة والقوامة والتعاطف والاهتمام بالآخرين، وهي مفاهيم ذات جذور دينية، بينما الاتجاه الديني الإسلامي يوازن بين هـذه القيم والقيم التي تشكل محور اهتمام الاتجاه العلماني وهي الفعالية وكفاءة التشغيل. هـناك حاجة لتحليل ما هـو مشترك بين جميع الاتجاهات العلمانية وتحديد أين تلتقي وتفترق وتتقاطع. هـذا يساعد على تعايش سلمي بين الاتجاهات.

وبالنسبة إلى المسلمين بالذات، فمن الصعب في ظل التفوق الغربي أن يتقبل العالم الأدب الإداري الذي يكتب بلغات الغير الإنجليزية ومن خارج التقاليد الفكرية الغربية المسيحية الرومانية اليونانية. وهذه مشكلة أكاديمية للباحثين المسلمين، فالباحث أي باحث يسعى لاعتراف الجماعة العلمية به، وسوف يواجه الباحث المسلم هـذه المشكلة إن كتب من خارج التقاليد المشار إليها.

- الحاجة إلى باحثين مؤهلين وتراث علمي

سوف أناقش هـذه النقطة من منظور علم اجتماع المعرفة (SOCILOGY OF KNOWLEDGE) وهو العلم الذي يعني بتكون التخصصات وتطورها. وقد سبق لي مع علي جبران (جبران وعطاري، 2006) ، أن قمنا باشتقاق معايير، في ضوء هـذا العلم، يمكن بناء عليها الحكم على النتائج البحثي في أي تخصص. وهذه المعايير هـي:

- وجود الجماعة العلمية. [ ص: 149 ] - مثابرة أعضاء الجماعة على البحث والتنظير (THE CRITERION OF RIGOR) .

- إقامة سبل اتصال علمي مباشرة وغير مباشرة بين أعضاء الجماعة العلمية.

- إقامة روابط مهنية ينتظم بها أعضاء الجماعة العلمية.

- توليد تقاليد وتراث علمي وثقافة علمية تشكل في مجموعها الذاكرة الجمعية (COLLECTIVEMEmORY) لأعضاء الجماعة العلمية.

- إحداث تراكم معرفي نجم عن تلك المثابرة والاتصالات والتقاليد.

- إخضاع ذلك الكم المعرفي للنقد والتمحيص.

- الإضافة والإسهام: يشترط لجودة البحوث أن تسهم في المعرفة الموجودة وتضيف إليها. وذروة ذلك ممارسة العلم الثوري، الذي لا يكتفي بمواكبة ما هـو سائد بل يطرح بدائل له.

- الروح النقدية المصحوبة بالوعي بالتناقضات في النموذج السائد وطرح بديل له. ويتضمن ذلك إعادة بناء الحقل المعرفي على أسس جديدة تؤدي إلى تغيير في التعميمات النظرية للحقل وفي المناهج والتطبيقات.

- بصفتها علما تطبيقيا يجب أن تراعي بحوث الإدارة التربوية معايير الصلة (CRITERION OF RELEVANCE) أي أن تكون ذا أهمية للممارسين، ومعيار الوصول إلى الجمهور المعنى (CRITERION OF ACCESSIBILITY) .

وبتطبيق تلك المعايير على النتاج البحثي العربي في مجال الإدارة التربوية توصلنا إلى أن ذلك النتاج لا يلبي هـذه المعايير، فالنتاج البحثي متواضع نسبيا. [ ص: 150 ] ومشتت في عدد من أوعية النشر مما يجعل الرجوع إليه صعبا، وهو نتاج يفتقر إلى المثابرة، فالذين يكتبون في الإدارة التربوية يتوقفون بعد حين. ومعظم هـذا النتاج هـو من عمل الأكاديميين فهو يفتقر إلى مشاركة الممارسين (الإداريين والمعلمين وغيرهم) كما يفتقر إلى التأليف المشترك. كما يختفي من هـذا النتاج حس النقد، سواء نقد الآخر أو نقد الذات. وكنت قد أجريت دراسات مماثلة، بعضها بالاشتراك مع علي جبران (جبران وعطاري، 2005م، عطاري، 1998م) التقت نتائجها مع نتائج الدراسة المشار إليها. وكل هـذه الملامح تحول دون تطوير تراكم علمي وتقاليد علمية وتكوين ذاكرة جماعية علمية.

ومع أنني لم أقم بدراسة متعمقة لتحليل النتاج البحثي في الإدارة التربوية الإسلامية بالذات إلا أنني أعتقد من خلال الإطلاع أن تلك الملامح السلبية تنطبق عليه. إنني أقوم بمسح دائم للبحوث المتعلقة بالإدارة التربوية الإسلامية منذ سنوات ولم يتجمع لدى سوى أربعة كتب أحدها بالإنجليزية، وجميعها في الأصل رسائل ماجستير ودكتوراة. وهناك بعض دراسات (أقل من 10 دراسات) منشورة بالعربية والإنجليزية في مجلات متخصصة. أما من حيث رسائل الماجستير والدكتوراة فقد أجريت مع علي جبران (عطاري وجبران، 2005م) دراسة على 238 من الرسائل التي أجريت في الجامعات الأردنية عن التعليم في الإسلام ووجدنا أن 11% فقط منها كان عن الإدارة التربوية. وفي مؤتمر حول (الإدارة من منظور إسلامي) حضرته في ماليزيا في مايو ( أيار) 2007 [ ص: 151 ] كانت ورقة واحدة فقط من بين 43 ورقة حول الإدارة التربوية. تبين هـذه الأرقام مدى تواضع البحث التربوي في هـذا الميدان في مواجهة طوفان من البحوث الأجنبية. في المقابل هـناك كم معرفي لا بأس به نسبيا في مجال الإدارة الإسلامية بشكل عام أو الإدارة من منظور إسلامي.

بناء عليه يجب أن يدرك الباحثون المسلمون في حقل الإدارة التربوية الإسلامية ثقل المهمة الملقاة على عاتقهم. إن التصدي للمهمة التي نحن بصددها يتطلب أولا فهم الفكر السائد حاليا في الإدارة التربوية، فهما يشكل مرتكزاته الفكرية ومقولاته الفلسفية قبل الوصول إلى العمليات التقنية الإدارية، من تنظيم وتنسيق وإشراف وما إلى ذلك. بدون فهم تلك المرتكزات لن يستطيع الباحثون المسلمون التعامل مع هـذا الفكر. وعليهم كذلك مواكبة ما يجد من أفكار ونظريات والإطلاع عليها من مصادرها ومراجعها. كثير مما يكتبه الباحثون العرب عن النظريات الإدارية المعاصرة لا يؤخذ من مصادره الأصلية بل من مراجع تأخذ عن بعضها، مما يؤدي إلى تشويه المقولات الأصلية للنظرية وعدم التعاطي الرصين معها. هـناك فجوة زمنية تقاس أحيانا ليس بالسنوات بل بالعقود بين المراجع التي يتم الاستناد عليها وبين المصادر الأصلية للنظرية التي تتم دراستها.

لقد أدى هـذا النهج ببعض الباحثين إلى التقاط أفكار غربية في الإدارة ثم البحث عن آيات أو أحاديث تلتقي معها ثم ختمها بختم إسلامي. وقد قادهم هـذا إلى إضفاء شرعية إسلامية على نظريات إدارية لمجرد التقائها مع التصور الإسلامي في بعض النقاط. الحقيقة هـذا هـو النمط السائد في كثير [ ص: 152 ] من الكتابات التي تندرج تحت (التأصيل الإسلامي للعلوم) بما فيها الإدارة. ولنا على هـذا النمط من التأصيل ملاحظات:

- أنه يجعل النظريات الحديثة هـي الأصل، وعلينا أن نبحث في تراثنا عما يلتقي معها.

- لذلك قلما يتم انتقاد مثل هـذه النظريات، وذلك لعدم الوعي بالمرتكزات الفكرية والفسلفية لها، بل إن أصحاب هـذا النهج لا يكلفون أنفسهم عناء نقد هـذا النظريات نقلا عن علماء الغرب أنفسهم.

- يؤكد أصحاب هـذا النهج أن الإسلام (وأحيانا المسلمون) قد سبق النظريات الحديثة، توطئة لترتيب أفضليتنا على الآخرين، وغالبا ما يصاحب ذلك تقليل من شأن الآخرين، كما يتم إغفال التراث العالمي السابق على المسلمين.

- لا يوضح لنا أصحاب هـذا النهج ما المقصود بـ (حديثة) و (معاصرة) ، هـل هـي النظريات التي تبلورت مطلع القرن الماضي أم في منتصفه أم نهايته، أم مطلع هـذا القرن؟ وهل مجيء نظريات جديدة بعدها يجعلها غير معاصرة وغير حديثة؟ هـذا عدا عن تحذيرنا سابقا من خلط الأحداث بالأصوب.

- عادة ما يضيف أصحاب هـذا النهج السمة الربانية للإدارة الإسلامية واهتمامها بالقيم والأخلاق لإثبات تميزها.

- تنتهي الأمور بختم النظريات المعاصرة بختم إسلامي بشكل يخالف روح الإسلام وربما نصوصه. [ ص: 153 ] - وقد يقود ذلك كله إلى خلط آراء ونظريات مختلفة ومتنوعة تماما والحكم عليها وكأنها مجموعة واحدة أو التعامل مع منحيين نقيضين دون التفات إلى وجود بدائل في الوسط بينهما (كأن نتكلم عن الغرب وكأنه غرب واحد، وعن الفكر الإداري الغربي وكأنه فكر واحد، دون إدراك ما بينه من تمايزات. إن علماء الغرب أنفسهم يصفون العلاقة بين النظريات المختلفة وكأنها (مواجهة) أو (حرب) أو (اصطفاف " .

وأزعم من خلال تدريس الإدارة التربوية في عدد من الجامعات واهتمامي الأكاديمي بالإدارة والإدارة التربوية من منظور إسلامي وإطلاعي على جل ما كتبه الباحثون العرب والمسلمون في هـذا الميدان، أن ما كتب في الإدارة التربوية من منظور إسلامي لا يزال يندرج في تلك المحاولات غير الناضجة، التي لا تشف عن جهد مثابر، ولا تتجاوز الجانب التقني من الإدارة إلى الأسس الفكرية والفلسفية للنظريات الإدارية المختلفة.

من ناحية أخرى يفتقر الإنتاج العربي والإسلامي في الإدارة التربوية إلى المثابرة الضرورية لإحداث تراكم معرفي يشكل مع الأيام تراثا وتقاليد بحثية وعلمية لأجيال من الباحثين. كما يفتقر الباحثون العرب والمسلمون إلى الاتصال العلمي فيما بينهم. وعليهم عدم الاكتفاء بإجهاد أنفسهم بإثبات السبق الإسلامي في الإدارة والسعي لتبخيس (الآخر) وشيطنته. [ ص: 154 ]

متطلبات ومحاذير المنظور الإسلامي للإدارة التربوية

إذا كان المنظور الإسلامي يعدنا بالكثير فإن وضعه موضع التطبيق يتطلب الكثير. وبشأن ذلك نضع مجموعة من الملاحظات:

- المنظور الإسلامي، حسب اجتهادنا هـو إطار مرجعي. إنه ليس نظرية ولا نموذجًا ولكن يمكن أن يتطور في ضوئه العديد من النظريات والنماذج. ^[1] وينبع تفرد هـذا المنظور من مرتكزاته الفكرية. فهو قبل كل شيء رباني المصدر، وهذه الخاصية هـي أساس جميع الخصائص الأخرى لهذا المنظور مثل الشمول والتوازن والتماسك والخصوبة والبساطة. وقد تتجسد هـذه الخصائص في الإدارة بطرق مختلفة. فعلى سبيل المثال يجب أن توضع في الاعتبار جميع المتغيرات والعوامل التي تؤثر في المنظمة بما فيها العوامل الخارجية. والاعتراف بدور العوامل الخارجية للتنظيم يربط المنظمة بالمنظمة الأم والمجتمع والأمة الإنسانية وبالنظام الكوني ككل وبالخالق. وهذه إحدى تجليات الوحدانية وتجاوز الزمان والمكان (التجاوزية Transcendentalism كما يسميها بعض المفكرين الغربيين المعاصرين) . هـكذا تصبح الإدارة نظامًا فرعيًّا من النظام الكبير. وهذا يهيئ المسرح لكثير من الانعكاسات البيئية. [ ص: 129 ] - يتيح المنظور الإسلامي مساحة للمرونة. إنه يساعد الإداريين على توليد تطبيقات للظروف القائمة والمستجدة كما فعلنا بشأن بعض القضايا الإدارية. وبخصوص ذلك لدينا بعض الملاحظات:

- التطبيقات ليست بحال من الأحوال جامدة أو نهائية. نقطة الانطلاق لدى المؤلف هـي أنه متى تمت بلورة وتشرب المنظور الإسلامي فإنه يمكن التوصل إلى تطبيقات لا حصر لها. ويرى الكاتب أن توليد التطبيقات هـو نوع من العمل الاجتهادي الذي يجب أن يقوم به الباحثون والعلماء والممارسون الذين لديهم خبرة في الميدان ومعرفة معقولة بالدين. والنتائج التي يتم التوصل إليها من جراء هـذا الاجتهاد تخضع للنقد والتعديل.

- وتطبيق المنظور الإسلامي يقتضي ترجمة كل مكون من مكوناته إلى حقائق وسلوك في المواقع التربوية. على سبيل المثال فإن كون المنظور الإسلامي رباني المصدر يقتضي احترام فردية الإنسان والتواضع والاعتدال والعدالة والتحسين والتميز، كما يتطلب من ناحية أخرى رفض الغرور والكبرياء والنشوة والتبذير وتدني الأداء والركون إلى الدعة. وهذه مع الخصائص الأخرى، مثل البساطة والعملية، يجب أن تتجسد في العلاقات الإنسانية، وفي نمط الاتصالات والأثاث والوصول للمسئولين والبرامج المدرسية وإدارة الوقت وإنجازات التلاميذ وعلاقات الجماعة المدرسية بصورة عامة.

وهذه المكونات مترابطة ويجب أخذها جميعًا ومعًا في الاعتبار. على سبيل المثال كون المنظور الإسلامي رباني المصدر وكون الإنسان فيه نفخة [ ص: 130 ] من روح الله يتطلب التحسين الدائم، الذي قد يأخذ شكل التوقعات العالية لأداء الطلاب والتلاميذ. وفي المقابل فإن الواقعية والعملية وكون الإنسان من تراب يقتضي أن تكون التوقعات معقولة. ويعمل الشمول والتوازن لجعل التوقعات المعقولة مجرد مرحلة لرفع سقف التوقعات باستمرار.

- ليس بالضرورة أن تكون تلك التطبيقات منصوصًا عليه في القرآن الكريم أو السنة أو الأدبيات الإسلامية أو الممارسات المتوارثة عن السلف. بل إن استخدامنا تعبير (توليد) يتضمن اقتراح أفكار جديدة وحلول جديدة. يكفي أن تكون التطبيقات مستلهمة من المنظور الإسلامي وعلى انسجام وعدم تعارض معه.

- التعامل مع (الآخر)

يعمل المنظور الإسلامي كإطار مرجعي يساعد في التعامل مع فكر (الآخر) استيعابًا وتعديلا ورفضًا. إن بالإمكان استيعاب أي فكرة أو ممارسة توجد في الأدب الإداري ما دامت تتفق مع المنظور الإسلامي. ولكن ذلك يجب أن يتم بشكل ناضج عقلاني وأمين. وهذا يتطلب (اشتباكًا) فكريًّا خلاقًا مع الأدب الموجود حاليًا لا يتوقف عند السطح بل يصل إلى الأعماق فيتفحص الدوافع والارتباطات والأجندات. نتيجة لذلك يتطلب استيعاب (الآخر) عدة عمليات من التنقيح والتصحيح وإعادة توجيه المعرفة.

بهذا الصدد يلاحظ الكاتب ميل كثير من العلماء المسلمين لإثبات أسبقية المسلمين (المرتبطة بالتقليل من شأن (الآخر) والمرتبطة بدورها [ ص: 131 ] بتضخيم الذات) . والوجه الآخر لذلك الميل هـو إثبات التلاقي بين الإدارة الإسلامية وأحدث النظريات الإدارية المعاصرة (وهو نوع من المبالغة اللاواعية بأهمية (الآخر) والتقليل من شأن الذات) وفي هـذا إقرار خاطئ بأن النظريات الأكثر حداثة هـي الأفضل بالضرورة. من ناحية ثانية فهذه المقولة تعني أن الحداثة حالة ثابتة. وبالعكس من ذلك يعتقد الكاتب أن الأكثر حداثة ليس بالضرورة هـو الأفضل، وأن القديم ليس بالضرورة هـو الأقل قيمة. يعتقد الباحث مثلا أن عناصر من نظرية (تايلور) في مطلع القرن الماضي مثل الفعالية وكفاءة التشغيل يمكن استيعابها في الإدارة الإسلامية. وبالمنطق نفسه يمكن استيعاب عناصر من نظرية ( إيفرز ولاكومسكي ) التي ظهرت في تسعينات القرن الماضي مثل دور العوامل غير التنظيمية في الإدارة التعليمية. الوجه الآخر لهذه المقولة هـو أن في النظريتين المشار إليهما عناصر لا تلتقي مع المنظور الإسلامي (مثلا (الطريقة الوحيدة المثلى) عند ( تايلور ) و (العلم كمصدر وحيد للمعرفة) عند (إيفرز ولاكومسكي " .

من ناحية أخرى، على المرء أن يكون على وعي بالارتباطات التي تحملها الأفكار والممارسات السائدة. كثير من الأفكار التي تبدو جذابة على السطح قد تكون لها ارتباطات سلبية وأجندات خفية تناقض المنظور الإسلامي. على سبيل المثال كثير من الأفكار الإدارية الحديثة في الغرب مثل (التمكين) و (الإدارة الذاتية) و (المدرسون القادة) (والقيادة التحويلية) تبدو جذابة ومقبولة من المنظور الإسلامي، ولكن التدقيق في هـذه الأفكار قد [ ص: 132 ] يكشف أن هـذه الأفكار هـي أدوات للعقلنة الاقتصادية للمنظمات هـادفة إلى مدارس أقل كلفة وليس مدارس أفضل، ومدفوعة برغبة لإضعاف التعليم العام وترويج الخصخصة.

وبالنهج نفسه يمكن تطبيق هـذا الخط من التفكير مع أفكار وممارسات أخرى. على سبيل المثال إذا لم يكبح جماح توجهات الكفاءة والفعالية والتوجه نحو المهام والنتائج (في النظريات العلمية) فإنها يمكن أن تحول العاملين إلى امتداد للآلة، بينما يمكن أن تقود التوجهات الإنسانية (في الأساليب الإنسانية) في أشكالها الأكثر تطرقًا إلى التسيب والتحايل والممارسات التي تفتقر للأمانة. ولنأخذ مثالا آخر مثل إرضاء الزبون (وهو الأساس في (إدارة الجودة الشاملة) ، التي أصبحت من أكثر نظريات الإدارة رواجًا في الوقت الحاضر) . إن مبدأ إرضاء الزبون في قطاع التعليم قد يجر إلى إشكالات كثيرة إذا لم نضع في الاعتبار الفرق بينه وبين الزبون في قطاع العمل. فعندما يعتبر بعضهم أن الزبون في المؤسسة التربوية هـو الطالب فقد يؤدي ذلك إلى التقليل من أهمية المعلم خاصة في المؤسسات التعليمية بالذات التي يقوم كيانها على رسوم الطلبة. من ناحية أخرى قد يؤدي هـذا إلى ممارسات خاطئة مثل ما يعرف بـ (تدريس الامتحان The Teaching test) الذي يعني تدريس الطالب كيف ينجح في الامتحان بدلا من التركيز على الأهداف الأسمى من التعليم وخاصة إكساب الطالب العمليات العقلية العليا. [ ص: 133 ] هناك مبدأ آخر من مبادئ الجودة الشاملة هـو (إنجاز الأعمال بالطريقة الصحيحة من المرة الأولى) . ورغم جاذبية هـذا المبدأ إلا أنه من المنظور الإسلامي يجب تعديله ليصبح (إنجاز الأعمال الصحيحة بالطريقة الصحيحة من المرة الأولى) .

تقدم النظرية الأنثوية النقدية مثالا آخر. فبينما يمكن قبول معظم المقولات الأنثوية في الإدارة من المنظور الإسلامي إلا أنه لا يمكن قبول تصوير هـذه النظرية للعلاقة بين الذكر والأنثى على أنها صراع دائم أو تصوير الذكر على أنه دائمًا مصدر اضطهاد والأنثى على أنها دائمًا موضوع الاضطهاد.هذه مجرد أمثلة.

بهذا الصدد نحذر من الشعور بالرهبة الذي يستحوذ على معظم الباحثين المسلمين من الهالة التي تحيط ببعض المصطلحات المعاصرة التي تجعلهم بدلا من التعامل معها تعامل الواثق، رفضًا ونقدًا وتعديلا، يستخذون أمامها عاكفين بشتى السبل على إثبات التواؤم بينها وبين الإسلام. ومن هـذه المصطلحات (العلم والعلمية) و (العقلانية) و (الحداثة) و (الموضوعية) . وكم هـُدرت، ولا أقول بذلت، جهود للتوفيق بين هـذه المصطلحات وبين الإسلام محاولين مخلصين وبكل حسن نية إثبات أن الإسلام دين العلم والعقلانية والحداثة. ولو تفحصنا تلك المحاولات لوجدناها لا تخدم هـدفنا في الدفاع عن الإسلام. وأنا أحبذ تقديم الإسلام كما هـو وليس الدفاع عنه، لأن الدفاع كثيرًا ما يخرج بنا عن دائرة الصواب [ ص: 134 ] ويجعلنا ندافع عن قضايا لا تستحق الدفاع عنها بينما نغمض أعيننا عن ما يستحق الالتفات إليه.

إن المصطلحات منتجات فكرية، يحدد محتواها وآليات عملها من توصل إليها. والمصطلحات التي أشرت إليها أعلاه. كما هـي مستخدمة الآن، هـي منتجات فكرية، غربية لها محتواها الذي حدده مفكرو الغرب وفي سياق تطور الفكر الغربي. لقد أريد لـ (العلمية) و (العقلانية) و (الحداثة) أن تكون بديلا عن الدين كمرجعية للحياة البشرية بحيث يحل العلم والعقل، وهما أساس الحداثة، محل الكتاب (المقدس) . وقد بالغ الغرب في ذلك حتى أصبحت تلك المصطلحات محل مراجعة. ومن هـنا حدث تحول من اعتبار العلم والطريقة العلمية الطريقة (الوحيدة) لتوليد المعرفة الصادقة إلى كونها (إحدى) الطرق. وحدث تحول من (العقلانية التقنية) إلى (العقلانية الواعية) ومن ( الحداثة ) إلى (ما بعد الحداثة) ، وحدث تحول من ( الموضوعية ) إلى (الذاتية المتنورة) . يجب ألا يتردد علماؤنا وباحثونا من نقد مثل المصطلحات والافتراضات والنظريات التي بُنيت عليها، ولكن من موقع المتمكن من المعرفة المعاصرة والشرعية وليس من موقع من لا يملك إلا الانصياع أو كيل الشتائم.

ما نريد التحذير منه هـو ميل بعض الباحثين المسلمين لاستسهال عملية التأصيل الإسلامي للعلوم، ومن بينها الإدارة والإدارة التربوية، فيعمدون إلى البحث عن آية أو حديث يدعمون بهما أفكارًا إدارية حديثة بهدف إثبات [ ص: 135 ] التوافق بين الإسلام والنظريات الإدارية الحديثة أو إثبات السبق الإسلامي لتلك النظريات. ^[2] وقد يكون بعض هـؤلاء مدفوعين بحسن النية أحيانًا وبدوافع مصلحية مادية أو معنوية أحيانًا أخرى، دون أن يتوافر لديهم في الحالتين التمكن من الفكر الإداري الحديث من جهة والفكر الإسلامي من جهة أخرى، فيقدمون محاولات صبيانية تثير الشفقة وأحيانًا التبرم.

باختصار هـناك دائمًا مستويات من اللقاء والافتراق بين المنظور الإسلامي والنظريات الأخرى، بغض النظر عن حداثة أو قدم تلك النظريات. نريد قدرًا من النضج العقلي والرشد النفسي (كما يقول أستاذ علم النفس سيد عثمان) . للتعامل مع الذات و (الآخر) . ويحول هـذا النضج وذاك الرشد دون أن ننسب لتراثنا ما ليس له أو نبخس (الآخر) إنجازه. وبالنضج والرشد تتكون الثقة بالذات التي تجعلنا نقبل ونرفض ونستوعب ونعدّل عن بينة وليس عن هـوس. وهذا ما أسميته آنفًا (الاشتباك الفكري مع الآخر) . [ ص: 136 ]

- الإسهام

تصل معالجة الإدارة الإسلامية. من المنظور الإسلامي، ذروتها عندما تتخطى استيعاب (الآخر) وإحياء الماضي إلى الإسهام في الحاضر. وهذه هـي المهمة الأكثر تحديًا وإلحاحًا، وتحتاج إلى جهود مضنية. يقاس المنظور أو النموذج أو النظرية بمقدار الخصوبة، أي بالمقدرة على توليد البحث والأفكار. والإسهام هـو أعلى شكل من أشكال التبادل الحضاري الخلاق.

ولربما كان من أكبر الإسهامات المحتملة للمنظور الإسلامي للإدارة التربوية إيجاد مناخ تنظيمي إسلامي مثل هـذا المناخ يعطي المؤسسة التعليمية هـوية مميزة يشعر بها المرء بمجرد دخوله المكان. في الإدارة الإسلامية وغيرها يتم القيام بالوظائف الإدارية نفسها من اجتماعات وحفظ سجلات وتقييم وتفويض وانضباط وبالعمليات نفسها من اتصال وصنع قرار. ولكن الفرق بين منظمة تدار من المنظور الإسلامي وأخرى من منظور آخر سيكون في الجو المؤسسي. يفترض أن يؤدي المنظور الإسلامي إلى مناخ مؤسسي فذ تشيع فيه القيم الإسلامية السامية. ويمكن قياس ذلك من الطريقة التي يتم فيها توزيع المعلومات، والطريقة التي تتم فيها الاتصالات، والطريقة التي يتم فيها معالجة النزاع، والطريقة التي تدار بها المكاتب، والطريقة التي تصان فيها المباني ونوع العلاقات الإنسانية ودرجة الرضا الوظيفي.

يفترض في المناخ الإسلامي اختفاء كثير من المشكلات، التي يبدو لا علاج لها في المنظمات الحديثة، مثل التحرش الجنسي وتعاطي المخدرات [ ص: 137 ] والكحول والأمراض الجنسية والمشكلات التي تواجه المدارس الغربية مثل حمل الطالبات والاغتصاب والمخدرات والكحول، بينما تكون مشكلات أخرى أقل خطورة مثل التدخين والتوتر عند حدها الأدنى. هـذا المناخ الموجه للفضيلة ليس بحال معوق للإنجاز. بل هـو أكثر المناخات مواءمة للإنجاز. ورغم أن الفضيلة هـي قيمة وغاية بحد ذاتها فإن نتائج البحوث حول الفعالية المدرسية تشير إلى أن المدارس الفعالة تتسم بالتزام فضائل مسئولة عن قدر كبير من النجاحات (Sergiovanni, 1992) .

- العالمية

يجب رؤية مساهمة المنظور الإسلامي في سياق عالمي. فهو يلبي حاجة في غاية الإلحاح على مستوى الإدارة التربوية على مستوى العالم. هـناك عدد لا بأس به من الباحثين والعلماء الذين يبحثون عن بدائل. ليس هـمّ هـؤلاء الفعالية وكفاءة التشغيل بل الممارسات الأخلاقية. لقد أورد (دويغنان وبهيندي Duignan and Bhindi, 1991) نتائج دراسات بحثية عديدة أجريت على مدار سنوات في ثقافات متعددة طلب فيها من المديرين وغيرهم تحديد أهم خصائص المدير الفعال. وقد تصدرت صفات الأمانة والنزاهة والمصداقية تلك القائمة. وقد وصف القادة الجيدون بالإنصاف والاستقامة والكفاءة والفعالية والإلهام والحسم والقابلية للاعتماد عليهم وبامتلاك حس الاتجاه. وانتهى الباحثان إلى استنتاج: (القادة الموثوق بهم قلة نادرة، شكوكنا ليست حول مواهب القادة بل حول إمكانية الثقة بهم. إننا لسنا واثقين مما إذا كانوا يخدمون مؤسساتهم أم أنفسهم) . [ ص: 138 ] ولكن المشكلة في النماذج الغربية هـي في الاختلاف حول مصدر ونطاق القيم. ففي النماذج العلمية الحديثة للإدارة التربوية (مثل نظرية (إيفرز ولاكومسكي " التي ولدت من النماذج العلمية السابقة، تعد المعرفة العلمية هـي مصدر القيم. أما في النماذج التفسيرية والنقدية فالفلسفة والتأويل هـما مصدر القيم وليس العلم. وهذا ما يجعل الاتجاه التفسيري والنقدي يقع في النسبية القيمية.

ومع أن معظم القيم الإسلامية هـي عالمية فإن ما يميزها هـو ارتباطها الوثيق بالعقيدة الإسلامية والمنظور الإسلامي، الأمر الذي من شأنه توفير الالتزام والاستمرارية والثبات واليقين والتماسك. إنها ليست قيم موقفية أو مؤقتة، ولكن ذلك لا يعني أنها جامدة.

- المنظور الإسلامي وغير المسلمين

هل المنظور الإسلامي خاص بالمسلمين أم يمكن تبنيه وتطبيقه من قبل غير المسلمين؟ يمكن توسيع المقولة السابقة عن العالمية للإجابة عن هـذا السؤال وعن مسألة الخصوصية والعمومية في المنظور الإسلامي.

بحكم طبيعة الإسلام نفسه، كديانة عالمية، فإن المنظور الإسلامي للإدارة التربوية مقدم للإنسانية جمعاء. وبلورة وتطوير المنظور الإسلامي من جانب المسلمين يعد عملا من أعمال الدعوة والشهود الحضاري. ويمكن لغير المسلمين النظر إليه في إطار السعي عن بدائل أفضل للنماذج السائدة حاليًا. وهذا يلتقي مع الاتجاهات الغربية التي رابطت في سعيها للبدائل عند [ ص: 139 ] تخوم الدين وبعضها لم يعد يتردد في طرح الدين كبديل، وهو ما يشير صراحة أو ضمنًا إلى فشل النماذج العلمانية، أو على الأقل إلى حدودها. كما يلتقي ذلك مع الدعوات لاستطلاع النماذج المحلية غير الغربية.

ولكن هـذا يجب ألا يقلل من الارتباطات السلبية المرتبطة بالإسلام، والقبضة القوية للعلمانية ، وارتباط التحديث بالتغريب، والتوجه المادي للمجتمعات المعاصرة. ولذلك بالرغم من عدم الرضا عن النماذج المعاصرة فإن الأكاديميا الغربية بشكل عام تسعى إلى بدائل من الداخل لا من الخارج، أي من داخل المؤسسة المعرفية العلمانية الغربية وليس من الخارج. وإذا كان لنا الإفادة من التاريخ فإنه ما لم يتمكن المسلمون من إثبات أن المنظور الإسلامي يستطيع أن يؤثر إيجابيًّا فليس من المحتمل كثيرًا أن يبدي غير المسلمين اهتمامًا به ناهيك عن قبوله. وما نقصده بالآثار الإيجابية هـو قدرة المنظور الإسلامي على إشاعة مناخ مؤسسي إسلامي بخصائصه، التي أشرنا إليها آنفًا، وإدارة إسلامية ناجحة تتسم بالفعالية من ناحية وبالتوجه الإسلامي من جهة أخرى، إدارة إسلامية يظهر فيها المديرون المسلمون أنهم (أقوياء وموثوق بهم) ، مثل هـذا الإنجاز يمكن أن يؤثر في غير المسلمين بالإشعاع على الأقل. وقد ينشأ عن ذلك اهتمام بدراسة المنظور الإسلامي وربما تبنيه على فرض إظهار المسلمين الصورة المرغوب فيها، على نحو ما أسلفنا.

وعلى فرض تولد اهتمام لدى غير المسلمين بدراسة المنظور الإسلامي أو تبنيه، فهل يمكن لغير المسلمين وضع المنظور الإسلامي موضع التنفيذ من [ ص: 140 ] قبل غير المسلمين؟ لقد سبقت الإشارة إلى أن تنفيذ المنظور الإسلامي يتطلب تشربه. ولدى تشربه فإنه سيؤثر بدرجات مختلفة على سلوك من يتشربونه حتى دون وعي منهم بذلك. وإذا صنفنا السلوك التنظيمي إلى (وصفي) و (معياري) يمكن القول: إن تشرب الشق الأول وهو الوصفي أسهل من الثاني وهو المعياري. أي أن غير المسلمين سيجدون توظيف المنظور الإسلامي لفهم السلوك التنظيمي أقل عبئًا عليهم من الشق المعياري الذي يترك بصماته على الأداء، لأنه يحدد الجانب المثالي أو ما يجب أن يكون، وتحديد الجانب المثالي له صلة بالمنظومة القيمية للشخص. ومع أن القيم الإسلامية عالمية الطابع، إلا أنها مغموسة في العقيدة الإسلامية. وهذا يتطلب من غير المسلمين، بين أشياء أخرى، أن ينفحتوا على المنظور الإسلامي رغم إيمانهم بديانات أخرى. ولكن التطبيق المثالي للمنظور الإسلامي يتطلب ليس فقط الاعتقاد بل الوعي بالدين الإسلامي، الذي تنبثق منه الخصائص الرئيسة للمنظور وهي التماسك والشمول والتوازن والاتساق والبساطة والواقعية والعملية.

باختصار يمكن القول: إن غير المسلمين يمكن أن يتأثروا بدرجات مختلفة وأشكال مختلفة بالمنظور الإسلامي لو أثبت المسلمون أن هـذا المنظور منظور فاعل مؤثر. قد يظهر غير المسلمين اهتمامًا بدراسة المنظور الإسلامي، وقد يختارون بعض عناصره ومكوناته ويدمجونها في منظوراتهم. ولكن تطبيق المنظور الإسلامي برمته ربما تطلب الاعتقاد بالإسلام كدين ومن شأن هـذا الاعتقاد أن يولد الالتزام والوعي. [ ص: 141 ] وبهذا الصدد يود الكاتب الإشارة إلى تجربته الشخصية عندما كان يدرس مساق (الإدارة التربوية من منظور إسلامي) لطلاب الدراسات العليا في ماليزيا ، وكان من بين هـؤلاء طلاب غير مسلمين (مسيحيون وهنود وصينيون) وكان هـؤلاء يأتون من خلفيات علمانية ومعرفة ضحلة بالإسلام بل ومع بعض التحفظات. ولكنهم كانوا يظهرون بالتدريج فضولا ومزيدًا من الاهتمام. بل وكان عدد منهم يعالجون القضايا الإدارية التي تطرح للنقاش من منظور إسلامي وكأنهم تشربوا ذلك المنظور، بالمعنى الفعلي للكلمة. بل إن بعضهم كان يتفوق على أقرانه المسلمين من هـذه الزاوية. ولكن لا أحد يدري ما إذا كان ذلك ينتقل معهم بعد عودته إلى الميدان، وربما يستحق ذلك دراسة مستقلة.

ويود الكاتب هـنا الإشارة إلى بعض التجارب العالمية. لم تدخل الإدارة اليابانية إلى الأدب الإداري إلا في مطلع ثمانينات القرن الماضي بعد انطلاق المارد الصناعي الياباني من رماد الحرب العالمية الثانية . لقد أثار النجاح الياباني فضول الباحثين الغربيين لدراسة الإدارة اليابانية بل والتعلم منها. وكان الاهتمام بدور الثقافة في الإدارة نتيجة من نتائج نجاح الإدارة اليابانية. وفي الخمسينيات أدى نجاح السوفيات في إنزال أول مركبة على القمر عام 1958م، إلى إثارة فضول علماء الولايات المتحدة، وصدر حينها كتاب (What Igor Knows that John does not) (ما الذي يعرفه أيغور ولا يعرفه جوني؟) حتى تجربة الثورة الصينية في منتصف ستينيات القرن [ ص: 142 ] الماضي أثارت فضول المربين الأمريكان، ولكن ذلك الفضول لم يستمر لعدم تمكن الصين من تحقيق نجاح اقتصادي مذهل.

ويمكن أيضًا الإشارة إلى الاهتمام الذي يبديه الغرب حاليًا والذي أبدته من قبل المؤسسات التقليدية في العالم الإسلامي بالاقتصاد الإسلامي، وبغض النظر عن كل أوجه القصور، التي ترافق التجارب الوليدة فإن الاقتصاد الإسلامي أصبح هـنا ليبقى، فقد تجاوز مرحلة الفكرة إلى المأسسة، وتجاوز مكان الميلاد ليجد الفضول إن لم نقل الترحيب في أماكن يمكن أن يصنفها بعضهم بأنها بيئات غير موائمة. ويمكن أن نطبق الملاحظة ذاتها على الطعام الإسلامي، حيث أصبحت كلمة (طعام حلال) منتشرة في أرجاء الدنيا، بغض النظر عن كل ما يمكن أن يقال بهذا الشأن أيضًا من أوجه قصور. خلاصة القول: إنه يجب أن يجد غير المسلمين في المنظور الإسلامي خيرًا لهم وللإنسانية، وأنه لا يؤثر في مصالحهم.

- التحذير من إساءة الفهم

وأخيرًا يجب بكل أمانة تأكيد أن أي تصور خاطئ أو تنفيذ غير ملائم للمنظور الإسلامي قد يؤدي إلى عكس الغرض. ومن أشكال ذلك التسليط والإفراط في الحماس والشكلية والحرفية والانغلاق الفكري والإفراط في المثالية وفورة العاطفة والميل لشيطنة (الآخر) والاستنتاجات التي لا تدعمها الشواهد ولا المنطلق، وفرض الفهم الشخصي والتفسير الشخصي لنصوص والوحي وكأنها فهوم ملزمة (احتكار الفهم) ، وقد يتم ذلك كله بنيات حسنة [ ص: 143 ] ولكنها تعمل ضد الغرض. ومثل هـذه الأخطاء قد تؤدي إلى اللاعقلانية والإكراه وقيادة الاضطهاد التي تقمع الفكر الفردي والمبادرة الفردية بالقوة والترهيب، وقد تفتح بابًا يصعب غلقه للانتهازية والثيوقراطية ، واحتكار الصواب والتدين، وفي مثل هـذا الوضع قد يظهر قادة يكتسبون أهمية لا يستحقونها ويكتسبون من خلال استدرار العواطف تبعية عمياء.

تفيد الملاحظة السابقة أن هـناك احتمالا بأن تبني المنظور الإسلامي في إدارة المؤسسات التربوية قد لا يقدم الكثير أو لا يقدم شيئًا ذا بال. وهذا يعود ببساطة لأن المنظور الإسلامي سيطبق من قبل بشر، أيًّا كان إخلاصهم. معرضون للقصور. المهم أنه في حالة الفشل يجب ألا يتم اللجوء إلى التغطية على ذلك أو اختلاق وقائع وإنجازات مزيفة.

ويتطلب هـذا الاستدراك إعطاء مزيد من الاهتمام للجانب الوصفي للإدارة الإسلامية. لقد تركز اهتمام المسلمين حتى الآن على الجانب المعياري أو ما ينبغي أن يكون وليس على الجانب الوصفي أو ما هـو كائن. وقد عزا (إبراهيم باجنيد، 1996) ذلك إلى استناد المنظور الإسلامي إلى العقيدة ونصوص الوحي ونهج الباحثين في تحليل النصوص والقول المطلق لها، ومع ما في ملاحظة ( باجنيد ) من صحة إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون المنظور الإسلامي معياريًّا فقط.

ونعتقد أن اقتصاد الباحثين المسلمين على الجانب المعياري ناجم عن قصور في منهجهم، فالقرآن والحديث يتناولان الجانب المعياري [ ص: 144 ] كما الوصفي، أي ما يجب أن يكون وما هـو كائن. وخاصية التوازن والشمول تستدعيان أن يكون المنظور الإسلامي وصفيًّا ومعياريًّا على حد سواء. ربما كانت الغاية النهائية معيارية، أي التوصل إلى ما يجب أن يكون ولكن البدء يكون بما هـو كائن. وكما ذكر سابقًا فالإنسان المكرم عند ربه موصوف في القرآن بصفات إيجابية وسلبية. الصفات النبيلة هـي ما يجب أن يكون، ولكن الواقع قد لا يكون بذلك النبل، ولذلك فعلى الإنسان أن يقوم بعمليات تحسين مستمرة. وإذا استخدمنا مقولات نظرتي (X and Y) المتضاربتين في النظرة للإنسان، فالأولى تفترض أن الإنسان بطبعه كسول يفتقر إلى الطموح ويكره المسئولية، وأنه يهتم بمصالحه الشخصية، بينما تفترض الثانية العكس، ثم تأتي نظرية (Z) بتوفيق بينهما. من المنظور الإسلامي يمكن للعاملين أن يكونوا كسالى ويهتمون بمصالحهم الذاتية ولكن قابلية التعلم لديهم تتطلب من الإدارة توفير الفرص لهم للتحسين.

تشير الدراسات التي أجريت على المنظمات في العالم الإسلامي أن هـناك الكثير مما يجب عمله فيما يتعلق بتطبيق المنظور الإسلامي في الإدارة. لقد أشارت إحدى الدراسات مثلا (Tayab, 1997) إلى أن المديرين المسلمين يتبنون دورًا أبويًّا تجاه العاملين ودورًا اجتماعيًّا في المجتمع المحلي. وهذا يتمشى مع جذورهم الإسلامية. ولكن الدراسات تشير إلى درجة عالية من الابتعاد بينهم وبين العاملين مما يؤدي إلى مركزية شديدة في اتخاذ القرار مع قلة في التشاور ومشاركة العاملين. وهذا يؤكد أهمية التدريب والتدبر والتحسين والكد نحو الأفضل. [ ص: 145 ]

- وضع المنظور الإسلامي موضع التنفيذ

لا يزال الأدب الإداري الإسلامي حديثًا وأحدث منه المؤسسات التي تعمل في هـديه. وقليلة هـي الدراسات الميدانية التي أجريت على مؤسسات في بعض الأقطار الإسلامية إلى أن تلك المدارس فعالة في مواجهة الانحطاط الأخلاقي وغرس القيم الإسلامية ولكن لا بد من عمل الكثير لتحقيق نجاح على صعيد الإنجاز الأكاديمي، لأن تلك المدارس لم تكن مجهزة جيدًا (Atari and Lida, 1997) .

لذلك يجب أن ينظر إلى جميع محاولات إسقاط المنظور الإسلامي على الإدارة التربوية على أنها ما زالت في مرحلة التمرين الفكري أو الاجتهاد الذي يجب أن يخضع للمراجعة والتنقيح. ويجب ألا يتم بطريقة دوجماتية، فقد يخطئ المجتهد قراءة مغزى النص أو في إسقاطه على قضية معينة. لا بد من المرونة فالإدارة التربوية تواجه يوميًّا قضايا مستجدة تتطلب تطبيقات خلاقة. ويجب إسقاط النص على هـذه الحالات بمنتهى التعمق وبعيدًا عن أي فهم أو تطبيق حرفي، أو ادعاء التدين أكثر من الآخرين، أو التماهي بين فهم النص والنص نفسه، وما إلى هـناك من أشكال الكسل الفكري التي لا تخدم الغرض.

لا تزال محاولات بلورة منظور إسلامي للإدارة التربوية في بداياتها. هـناك جدب هـائل في الأدبيات. حتى الأدب الإداري بشكل عام لا يزال محدودًا. والأدب الإداري الإسلامي في معظمه نقد للفكر السائد وإثبات السبق الإسلامي والأفضلية أكثر منه طرحًا متبلورًا ناضجًا. لذلك ما هـو [ ص: 146 ] مطلوب ليس بذل الجهد فقط بل والتحوط ضد التسرع والتوصل إلى استنتاجات لا دعم لها. وحسب (باجنيد، 1996م) : بينما تحرر الأسلمة العقول من القيود التي فرضها التغريب فإنها قد تخلق في الوقت نفسه قيودًا تفرضها الأسلمة المتسرعة غير الناضجة، التي لا تقل خطورة. ويحدث ذلك إذا كانت جهود الأسلمة غير مدفوعة بدافع الوصول للحقيقة، بل كرد فعل على بعض أشكال الهيمنة الفكرية الأجنبية.

المشكلة هـي في كيفية إسقاط النصوص لتلائم المستجدات. يجب ألا يتم الأمر بشكل تعسفي فتُلوى أعناق النصوص لتلائم نظرية جديدة أو لتبرر ممارسات تربوية بعينها، أو يؤتى بنظرية جديدة ليوضع عليها ختم إسلامي. قد يقود ذلك إلى نتائج مضحكة أو منافية للعقل.

ولكن في صالح المسلمين أن لديهم تراثًا إداريًّا ثريًّا، فالاهتمام بالإدارة فكرًا وممارسات (السياسة الشرعية) هـو اهتمام لازم للمؤسسة الإسلامية منذ البداية. وقد شكل القرآن الكريم والحديث والسيرة مصدرًا للأدب الإسلامي الإداري. وفي عصور الازدهار الإسلامي حكم المسلمون ثلث العالم. وتبعد طيلة فترة حكم المسلمين وصمودهم أمام الضغوط الداخلية والخارجية لعدة قرون شاهدًا على تفوق أدائهم الإداري وكفاءة نظامهم. ولكن المسلمين فقدوا صلتهم بتراثهم الإداري، وتبنوا نظامًا إداريًّا غريبًا بعد عصور الجمود وعهود الاستعمار إلى درجة يلاحظ معها الباحث وجود انقطاع طويل بين المسلمين، وذلك التراث، مما يجعل إعادة التواصل معه ليس بالأمر الهين. [ ص: 147 ] - على المستوى الأكاديمي، ليس من السهل إعادة الاعتبار للفكر الإداري الإسلامي، فالدوائر الأكاديمية تتردد في قبول التيار الأخلاقي في الإدارة حتى في صورته العلمانية ناهيك عن التيار الديني. التيار السائد يطالب المديرين بالتركيز على العمليات والبنى التنظيمية والأدوار والأشكال غير المباشرة من الاتصال وتجاهل الأفكار والناس والمشاعر والاتصال المباشر. وهذا النهج والتصور أصبح راسخًا في الأذهان وممثلا شرعيًّا للإدارة الجيدة، وهو ينعكس في مناهج معظم الجامعات وفي الأدب السائد، في الإجراءات والقواعد وفي أنظمة التقييم. وهذه الصورة الإدارية هـي امتداد للمعرفة السائدة. فالمعرفة السائدة تعلي من شأن الموضوعية واللاشخصية والبعد عن المشاعر والعواطف وفوضى وعدم استقرار الذاتية.

الاتجاه السائد يتعامل مع الإدارة كمجموعة عمليات تقنية، ويعلي من شأن النتائج على الوسائل، ويقصي القيم، كما يقصي الدين كمصدر للمعرفة.

للجماعة العلمانية، تحفظاتها كذلك. هـناك تاريخ طويل الآن من الانفصال بين الحياة والدين. يطرح العلمانيون أسئلة تتعلق بمدى عملية النماذج الدينية. ترى بعض الدوائر العلمانية أن الجماعات الدينية لا تواجه عادة بمشكلة كفاءة التشغيل وضغوط المساهمين وأنه قد يحدث تضارب أحيانًا بين الكفاءة والفعالية وبين العدالة.

مع ذلك يشير تفحص الاتجاهات الإدارية المعاصرة إلى أن الاتجاه الديني والعلماني قد اقتربا من بعضهما، [ ص: 148 ] فالاتجاه العلماني أخذ يستوعب بتردد مفاهيم العناية والرعاية والمشاركة والخدمة والقوامة والتعاطف والاهتمام بالآخرين، وهي مفاهيم ذات جذور دينية، بينما الاتجاه الديني الإسلامي يوازن بين هـذه القيم والقيم التي تشكل محور اهتمام الاتجاه العلماني وهي الفعالية وكفاءة التشغيل. هـناك حاجة لتحليل ما هـو مشترك بين جميع الاتجاهات العلمانية وتحديد أين تلتقي وتفترق وتتقاطع. هـذا يساعد على تعايش سلمي بين الاتجاهات.

وبالنسبة إلى المسلمين بالذات، فمن الصعب في ظل التفوق الغربي أن يتقبل العالم الأدب الإداري الذي يكتب بلغات الغير الإنجليزية ومن خارج التقاليد الفكرية الغربية المسيحية الرومانية اليونانية. وهذه مشكلة أكاديمية للباحثين المسلمين، فالباحث أي باحث يسعى لاعتراف الجماعة العلمية به، وسوف يواجه الباحث المسلم هـذه المشكلة إن كتب من خارج التقاليد المشار إليها.

- الحاجة إلى باحثين مؤهلين وتراث علمي

سوف أناقش هـذه النقطة من منظور علم اجتماع المعرفة (SOCILOGY OF KNOWLEDGE) وهو العلم الذي يعني بتكون التخصصات وتطورها. وقد سبق لي مع علي جبران (جبران وعطاري، 2006) ، أن قمنا باشتقاق معايير، في ضوء هـذا العلم، يمكن بناء عليها الحكم على النتائج البحثي في أي تخصص. وهذه المعايير هـي:

- وجود الجماعة العلمية. [ ص: 149 ] - مثابرة أعضاء الجماعة على البحث والتنظير (THE CRITERION OF RIGOR) .

- إقامة سبل اتصال علمي مباشرة وغير مباشرة بين أعضاء الجماعة العلمية.

- إقامة روابط مهنية ينتظم بها أعضاء الجماعة العلمية.

- توليد تقاليد وتراث علمي وثقافة علمية تشكل في مجموعها الذاكرة الجمعية (COLLECTIVEMEmORY) لأعضاء الجماعة العلمية.

- إحداث تراكم معرفي نجم عن تلك المثابرة والاتصالات والتقاليد.

- إخضاع ذلك الكم المعرفي للنقد والتمحيص.

- الإضافة والإسهام: يشترط لجودة البحوث أن تسهم في المعرفة الموجودة وتضيف إليها. وذروة ذلك ممارسة العلم الثوري، الذي لا يكتفي بمواكبة ما هـو سائد بل يطرح بدائل له.

- الروح النقدية المصحوبة بالوعي بالتناقضات في النموذج السائد وطرح بديل له. ويتضمن ذلك إعادة بناء الحقل المعرفي على أسس جديدة تؤدي إلى تغيير في التعميمات النظرية للحقل وفي المناهج والتطبيقات.

- بصفتها علمًا تطبيقيًّا يجب أن تراعي بحوث الإدارة التربوية معايير الصلة (CRITERION OF RELEVANCE) أي أن تكون ذا أهمية للممارسين، ومعيار الوصول إلى الجمهور المعنى (CRITERION OF ACCESSIBILITY) .

وبتطبيق تلك المعايير على النتاج البحثي العربي في مجال الإدارة التربوية توصلنا إلى أن ذلك النتاج لا يلبي هـذه المعايير، فالنتاج البحثي متواضع نسبيًّا. [ ص: 150 ] ومشتت في عدد من أوعية النشر مما يجعل الرجوع إليه صعبًا، وهو نتاج يفتقر إلى المثابرة، فالذين يكتبون في الإدارة التربوية يتوقفون بعد حين. ومعظم هـذا النتاج هـو من عمل الأكاديميين فهو يفتقر إلى مشاركة الممارسين (الإداريين والمعلمين وغيرهم) كما يفتقر إلى التأليف المشترك. كما يختفي من هـذا النتاج حس النقد، سواء نقد الآخر أو نقد الذات. وكنت قد أجريت دراسات مماثلة، بعضها بالاشتراك مع علي جبران (جبران وعطاري، 2005م، عطاري، 1998م) التقت نتائجها مع نتائج الدراسة المشار إليها. وكل هـذه الملامح تحول دون تطوير تراكم علمي وتقاليد علمية وتكوين ذاكرة جماعية علمية.

ومع أنني لم أقم بدراسة متعمقة لتحليل النتاج البحثي في الإدارة التربوية الإسلامية بالذات إلا أنني أعتقد من خلال الإطلاع أن تلك الملامح السلبية تنطبق عليه. إنني أقوم بمسح دائم للبحوث المتعلقة بالإدارة التربوية الإسلامية منذ سنوات ولم يتجمع لدى سوى أربعة كتب أحدها بالإنجليزية، وجميعها في الأصل رسائل ماجستير ودكتوراة. وهناك بعض دراسات (أقل من 10 دراسات) منشورة بالعربية والإنجليزية في مجلات متخصصة. أما من حيث رسائل الماجستير والدكتوراة فقد أجريت مع علي جبران (عطاري وجبران، 2005م) دراسة على 238 من الرسائل التي أجريت في الجامعات الأردنية عن التعليم في الإسلام ووجدنا أن 11% فقط منها كان عن الإدارة التربوية. وفي مؤتمر حول (الإدارة من منظور إسلامي) حضرته في ماليزيا في مايو ( أيار) 2007 [ ص: 151 ] كانت ورقة واحدة فقط من بين 43 ورقة حول الإدارة التربوية. تبين هـذه الأرقام مدى تواضع البحث التربوي في هـذا الميدان في مواجهة طوفان من البحوث الأجنبية. في المقابل هـناك كم معرفي لا بأس به نسبيًّا في مجال الإدارة الإسلامية بشكل عام أو الإدارة من منظور إسلامي.

بناء عليه يجب أن يدرك الباحثون المسلمون في حقل الإدارة التربوية الإسلامية ثقل المهمة الملقاة على عاتقهم. إن التصدي للمهمة التي نحن بصددها يتطلب أولًا فهم الفكر السائد حاليًا في الإدارة التربوية، فهمًا يشكل مرتكزاته الفكرية ومقولاته الفلسفية قبل الوصول إلى العمليات التقنية الإدارية، من تنظيم وتنسيق وإشراف وما إلى ذلك. بدون فهم تلك المرتكزات لن يستطيع الباحثون المسلمون التعامل مع هـذا الفكر. وعليهم كذلك مواكبة ما يجد من أفكار ونظريات والإطلاع عليها من مصادرها ومراجعها. كثير مما يكتبه الباحثون العرب عن النظريات الإدارية المعاصرة لا يؤخذ من مصادره الأصلية بل من مراجع تأخذ عن بعضها، مما يؤدي إلى تشويه المقولات الأصلية للنظرية وعدم التعاطي الرصين معها. هـناك فجوة زمنية تقاس أحيانًا ليس بالسنوات بل بالعقود بين المراجع التي يتم الاستناد عليها وبين المصادر الأصلية للنظرية التي تتم دراستها.

لقد أدى هـذا النهج ببعض الباحثين إلى التقاط أفكار غربية في الإدارة ثم البحث عن آيات أو أحاديث تلتقي معها ثم ختمها بختم إسلامي. وقد قادهم هـذا إلى إضفاء شرعية إسلامية على نظريات إدارية لمجرد التقائها مع التصور الإسلامي في بعض النقاط. الحقيقة هـذا هـو النمط السائد في كثير [ ص: 152 ] من الكتابات التي تندرج تحت (التأصيل الإسلامي للعلوم) بما فيها الإدارة. ولنا على هـذا النمط من التأصيل ملاحظات:

- أنه يجعل النظريات الحديثة هـي الأصل، وعلينا أن نبحث في تراثنا عما يلتقي معها.

- لذلك قلما يتم انتقاد مثل هـذه النظريات، وذلك لعدم الوعي بالمرتكزات الفكرية والفسلفية لها، بل إن أصحاب هـذا النهج لا يكلفون أنفسهم عناء نقد هـذا النظريات نقلا عن علماء الغرب أنفسهم.

- يؤكد أصحاب هـذا النهج أن الإسلام (وأحيانًا المسلمون) قد سبق النظريات الحديثة، توطئة لترتيب أفضليتنا على الآخرين، وغالبًا ما يصاحب ذلك تقليل من شأن الآخرين، كما يتم إغفال التراث العالمي السابق على المسلمين.

- لا يوضح لنا أصحاب هـذا النهج ما المقصود بـ (حديثة) و (معاصرة) ، هـل هـي النظريات التي تبلورت مطلع القرن الماضي أم في منتصفه أم نهايته، أم مطلع هـذا القرن؟ وهل مجيء نظريات جديدة بعدها يجعلها غير معاصرة وغير حديثة؟ هـذا عدا عن تحذيرنا سابقًا من خلط الأحداث بالأصوب.

- عادة ما يضيف أصحاب هـذا النهج السمة الربانية للإدارة الإسلامية واهتمامها بالقيم والأخلاق لإثبات تميزها.

- تنتهي الأمور بختم النظريات المعاصرة بختم إسلامي بشكل يخالف روح الإسلام وربما نصوصه. [ ص: 153 ] - وقد يقود ذلك كله إلى خلط آراء ونظريات مختلفة ومتنوعة تمامًا والحكم عليها وكأنها مجموعة واحدة أو التعامل مع منحيين نقيضين دون التفات إلى وجود بدائل في الوسط بينهما (كأن نتكلم عن الغرب وكأنه غرب واحد، وعن الفكر الإداري الغربي وكأنه فكر واحد، دون إدراك ما بينه من تمايزات. إن علماء الغرب أنفسهم يصفون العلاقة بين النظريات المختلفة وكأنها (مواجهة) أو (حرب) أو (اصطفاف " .

وأزعم من خلال تدريس الإدارة التربوية في عدد من الجامعات واهتمامي الأكاديمي بالإدارة والإدارة التربوية من منظور إسلامي وإطلاعي على جل ما كتبه الباحثون العرب والمسلمون في هـذا الميدان، أن ما كتب في الإدارة التربوية من منظور إسلامي لا يزال يندرج في تلك المحاولات غير الناضجة، التي لا تشف عن جهد مثابر، ولا تتجاوز الجانب التقني من الإدارة إلى الأسس الفكرية والفلسفية للنظريات الإدارية المختلفة.

من ناحية أخرى يفتقر الإنتاج العربي والإسلامي في الإدارة التربوية إلى المثابرة الضرورية لإحداث تراكم معرفي يشكل مع الأيام تراثًا وتقاليد بحثية وعلمية لأجيال من الباحثين. كما يفتقر الباحثون العرب والمسلمون إلى الاتصال العلمي فيما بينهم. وعليهم عدم الاكتفاء بإجهاد أنفسهم بإثبات السبق الإسلامي في الإدارة والسعي لتبخيس (الآخر) وشيطنته. [ ص: 154 ]