الفصل الثاني
عوامل قيام وسقوط الحضارات
- مقدمة:
من المعروف في الفكر الإسلامي أن حركة الوجود تخضع لسنن ونواميس إلهية، ولقد طرح القرآن الكريم إشكالية السنن التي تحكم حركة الوجود حفظا له من الفوضى والفساد، ولما كان عمران الأرض مقصدا من مقاصد الرسالات السماوية كانت سنن المداولة والمدافعة والاستبدال والاستدراج وغيرها من السنن الحضارية هي الحاكمة على الواقع، ومن ثم فإن السيرورة الحضارية للأفراد والأمم محكومة بهذه السـنن والقوانين المضطردة
[1] ، وهي سـنن محايدة: ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) (الإسراء:20).
وهـذه السنن المحايدة تعتبر سننا جزئية تعطي كل من يوظفها على قدر سعيه في تسخيرها والتعامل معها. غير أن هناك سننا كلية هي السنن التي جعلها الله مفتاحا لقيام الحضارات بمفهومها الشامل كسنة الإيمان: [ ص: 65 ] ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) (الأعراف:96).
وما ينبغي ملاحظته أنه لا غنى للسنن الجزئية عن السنن الكلية ولا غنى للسنن الكلية عن السنن الجزئية، فحضارة تؤمن بالله ولكنها لا تكتشف سنن الآفاق والأنفس -وهي سنن جزئية- هي حضارة عاطلة؛ وحضارة تستنطق السنن الجزئية يوما بعد يوم -كالحضارة الغربية- دون أن تهتدي للإيمان الصحيح -وهو سنة كلية- هي حضارة تائهة، ضارة لنفسها نافعة لغيرها عند اكتشافها لسنن الرقي المادي [2] . وهذا يعني أن لهذه الدنيا مقاييسها التي تجري على المؤمن والكافر، وفي كل أمر جعل الله له في هذا الكون الحسي -عالم الشهادة- سنة يجري عليها؛ والإنسان مهما تكن عقيدته ومهما تكن نيته وباعثه يمكن أن يستثمر هذا الكون ويستفيد من هذه السنن: ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ) (آل عمران:145)، وأدوات الإنسان في هذه الحياة المادية أو الطبيعية وتسييرها وتسخيرها حواسه، ودليله عقله [3] .
إن محور حركة الإنسان في هذا الكون يدور في إطار قانون الابتلاء، فقد خلق الله الإنسان لعبادته، وفضله على العالمين، وسخر له موجودات هذا الكون لتعينه على أداء رسالته، وأوجب عليه ارتفاق هذا الكون وعمارته، ونهاه عن الإفساد فيه، فقال تعالى: ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) (الأعراف:85). [ ص: 66 ]
إن التحضر ليس وضعا مجبولا في فطرة الإنسان وإنما هو وضع كسبي يستحدثه الإنسان بإرادته الحرة وفق عوامل ذاتية وموضوعية تفضي إليه وعلى رأسها عامل الفكرة متمثلة في ذلك التصور، الذي يحمله الإنسان عن حقيقة الوجود؛ وغاية الحياة بالغة في الفعل الحضاري ذروته حينما تكون فكرة دينية الصبغة. فالتحضر بما هو جهاد جماعي لإنجاز الترقي المادي والمعنوي ليس في حقيقته إلا جهادا مدفوعا بالتصور لحقيقة الوجود وموجها بالغاية من الحياة. فهو في مبدئه واطراده محكوم بتلك الغاية وقائم من أجل تحقيقها. ومن ثم فإن قوما لا يملكون تصورا بينا لحقيقة الوجود ولا تصورا بينا لغاية الحياة لا تنمو حياتهم إلى وضع من التحضر بل يبقون على حال من البداوة أو ما هو شبيه بحال البداوة [4] .
ومما لا شـك فيه أن التحضر يعتبر مظهرا للسلوك الجماعي، فالحضارة -إذن- ظاهرة إنسانية إرادية، ولذلك فإن قيامها يكون رهين عوامل تدخل في أغلبها ضمن نطاق الإرادة الإنسانية على سبيل التحصيل والكسب؛ كما أن عوامل سقوطها أيضا تدخل في نطاق الكسب الإرادي للإنسان في أغلبها، وبهذا المعنى تدخل ظاهرة التحضر الإنساني ضمن دائرة محكومة بقانون الأسباب، ولكنها أسباب إرادية وليست حتمية؛ فإذا شاء الإنسان أن يتحضر فإنه يتحضر وإذا شاء أن ينحدر فإنه ينحدر، تلك مسؤوليته التكليفية في نطاق القدر الإلهي العام، الذي يدور فيه الوجود كله [5] . [ ص: 67 ]
وعلى هذا الأساس، فإن الدارس لعوامل قيام وسقوط الأمم والحضارات يلحظ أنها تكمن في صميم الموقف البشري نفسه لا في الطبيعة أو العلاقات المادية، إنما في إطار الإرادة الإنسانية، وهذا يجئ بطبيعة الحال امتدادا لنظرية الإسلام الأساسية في استخلاف الإنسان في الأرض لأداء دوره الحضاري فيها، وما دام هذا الإنسان اختار برفضه لتعاليم الله التي وعد بها آدم، عليه السلام، وذريته لاستكمال مهمتهم الأرضية الطريق المعكوس فمعنى هذا أن يقف على النقيض من دوره المرسوم [6] .
إن دراسة عوامل قيام وسقوط الحضارات لا تتم بمعزل عن تصور الجماعة العلمية لحقيقة الوجود وغاية الحياة، أي من خلال رؤيتها للعالم، غير أنه نتيجة لمركزية الغرب وهيمنته على العالم فقد صارت المصطلحات التي ينظر من خلالها إلى التاريخ وتقوم من خلالها جهود الأمم مصطلحات غربية مشحونة بمدلولات غربية، تنبثق عن الرؤية الخاصة للفكر الغربي، وهذا ما يبدو واضحا في المفاهيم الحضارية كالتقدم والتخلف والرقي والتأخر.
ولمعرفة أثر رؤى العالم في المسألة الحضارية فإننا نحاول دراسة عوامل القيام والسقوط الحضاري على النحو التالي:
1- الرؤية الغربية لعوامل قيام وسقوط الحضارات.
2- الرؤية الإسلامية لعوامل قيام وسقوط الحضارات. [ ص: 68 ]