كما أخرجك ربك من بيتك بالحق أي: إخراجا متلبسا به فالباء للملابسة، وقيل: هي سببية أي: بسبب الحق الذي وجب عليك وهو الجهاد.
والمراد بالبيت مسكنه صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة أو المدينة نفسها؛ لأنها مثواه عليه الصلاة والسلام، وزعم بعضهم أن المراد به مكة وليس بذاك، وإضافة الإخراج إلى الرب سبحانه وتعالى إشارة إلى أنه كان بوحي منه عز وجل، ولا يخفى لطف ذكر الرب وإضافته إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم، والكاف يستدعي مشبها وهو غير مصرح به في الآية وفيه خفاء، ومن هنا اختلفوا في بيانه وكذا في إعرابه على وجوه فاختار بعضهم أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه أي: حالهم هذه في كراهة ما وقع في أمر الأنفال كحال إخراجك من بيتك في كراهتهم له، وإلى هذا يشير كلام الفراء حيث قال: الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه صلى الله تعالى عليه وسلم من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها مع أنه أولى بحالهم أو أنه صفة مصدر الفعل المقدر في لله وللرسول أي: الأنفال ثبتت لله تعالى وللرسول عليه الصلاة والسلام مع كراهتهم ثباتا كثبات إخراجك وضعف هذا ابن الشجري، وادعى أن الوجه هو الأولى لتباعد ما بين ذلك الفعل وهذا بعشر جمل، وأيضا جعله في حيز قل ليس بحسن في الانتظام، وقال إنه ليس فيه كبير معنى ولا يظهر للتشبيه فيه وجه، وأيضا لم يعهد مثل هذا المصدر، وادعى العلامة أبو حيان: الطيبي أن هذا الوجه أدق التئاما من الأول والتشبيه فيه أكثر تفصيلا لأنه حينئذ من تتمة الجملة السابقة داخل في حيز المقول مع مراعاة الالتفات وأطال الكلام في بيان ذلك واعتذر عن الفصل بأن الفاصل جار مجرى الاعتراض ولا أراه سالما من الاعتراض، وقيل: تقديره: وأصلحوا ذات بينكم كما أخرجك، وقد التفت من خطاب جماعة إلى خطاب واحد، وقيل: المراد وأطيعوا الله والرسول كما أخرجك إخراجا لا مرية فيه، وقيل: التقدير يتوكلون توكلا كما أخرجك، وقيل: إنهم لكارهون كراهة ثابتة كإخراجك، وقيل: هو صفة لـ (حقا) أي: أولئك هم المؤمنون حقا مثل ما أخرجك، وقيل: صفة لمصدر (يجادلون) أي: يجادلونك جدالا كإخراجك ونسب ذلك إلى وقيل: الكاف بمعنى إذ؛ أي: واذكر إذ أخرجك وهو مع بعده لم يثبت وقيل: الكاف للقسم ولم يثبت أيضا وإن [ ص: 170 ] نقل عن الكسائي، أبي عبيد وجعل (يجادلونك) الجواب مع خلوه عن اللام والتأكيد و (ما) حينئذ موصولة أي: والذي أخرجك، وقيل: إنها بمعنى على وما موصولة أيضا؛ أي امض على الذي أخرجك ربك له من بيتك فإنه حق ولا يخفى ما فيه، وقيل: هي مبتدأ خبره مقدر وهو ركيك جدا، وقيل: في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي وعده حق كما أخرجك، وقيل: تقديره قسمتك حق كإخراجك، وقيل: ذلكم خير لكم كإخراجك، وقيل: تقديره إخراجك من مكة لحكم كإخراجك هذا، وقيل: هو متعلق ب اضربوا وهو كما تقول لعبدك ربيتك افعل كذا.
وقال خطر لي في المنام أن هنا محذوفا وهو نصرك والكاف فيها معنى التعليل أي: لأجل أن خرجت عزاز دين الله تعالى نصرك وأمدك بالملائكة، ودل على هذا المحذوف قوله سبحانه بعد: أبو حيان: إذ تستغيثون ربكم الآيات، ولو قيل: إن هذا مرتبط بقوله سبحانه: ( رزق كريم ) على معنى رزق حسن كحسن إخراجك من بيتك لم يكن بأبعد من كثير من هذه الوجوه. وإن فريقا من المؤمنين لكارهون للخروج إما لعدم الاستعداد للقتال أو للميل للغنيمة أو للنفرة الطبيعية عنه، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار، فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والجملة في موضع الحال، وهي حال مقدرة؛ لأن الكراهة وقعت بعد الخروج كما ستراه إن شاء الله تعالى، أو يعتبر ذلك ممتدا، والقصة على ما رواه جماعة وقد تداخلت رواياتهم أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل فرق الكفر: النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد لم تفلحوا بعدها أبدا، وقد رأت في المنام أن راكبا أقبل على بعير له حتى وقف عاتكة بنت عبد المطلب بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخل فيها فلقة فحدثت بها أخاها فحدث بها العباس الوليد بن عتبة وكان صديقا له فحدث بها أباه عتبة ففشا الحديث وبلغ أبا جهل فقال للعباس: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم فأنكر عليه الرؤية. ثم إنه خرج بجميع مكة ومضى بهم إلى بدر وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بوادي دفران فنزل عليه جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما: العير وإما قريش، فاستشار أصحابه فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له؛ إنا خرجنا للعير فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن العير مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل». فقالوا: يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدو، فغضب عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنهما فأحسنا الكلام في اتباع أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قام وعمر المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله تعالى فنحن معك حيث أحببت لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال: أشيروا علي أيها الناس، - وهو يريد الأنصار - لأنهم كانوا عدوهم، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم براء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدوهم [ ص: 171 ] بالمدينة فقام سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنهما فقال: يا رسول الله، إيانا تريد؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، ولا نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله تعالى يريك منا ما يقر به عينيك فسر بنا على بركات الله تعالى فنشطه قوله ثم قال عليه الصلاة والسلام: «سيروا على بركة الله تعالى، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» اهـ.
وبهذا تبين أن بعض المؤمنين كانوا كارهين وبعضهم لم يكونوا كذلك وهم الأكثر كما تشير إليه الآية.
وجاء في بعض الأخبار بدر قيل له: عليك بالعير فليس دونها شيء فناداه وهو في وثاقه لا يصلح فقال له: لم؟ فقال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك العباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما فرغ من